…
(مداخلة استهلالية) خصائص رواية المنفى
الاستاذة فيحاء السامرائي
لماذا الرواية دوناً عن بقية الأجناس الادبية؟
الرواية، كما نعلم، هي فن العصر والحداثة، يتمدد الروائي فيها بمعرفته، وبفضائه السردي والبانورامي الواسع، لها بنية تستطيع حمل الكثير، أكثر من بقية الأنواع الأدبية الأخرى بلغتها السردية، لتكون ديوانَ العالم وروحَه بلا منازع.
هل نوسم الرواية خارج عن بيئة الروائي الأصلية برواية منفى أم يصير المنفى منفى للرواية؟ ماذا عن رواية الداخل والخارج وتلاقيهما وتقاطعهما، وهل نحن، أمام مرحلة جديدة في الرواية أم ما نراه هو رواية مرحلة؟ لنأتي الى مفهوم المنفى
ما هو مفهوم المنفى؟
اتصف القرن العشرين بقرن المنفيين بامتياز…لأسباب سياسية، اقتصادية يضطر الأديب الى اللجوء لبلاد أخرى، تسمى منفى، أو بلد مهجر وهجرة، أو دولة لجوء أو شتات، أو عالم مغترب في غربة واغتراب…ليشكل تالياً فقدان مكان ثابت اعتاد عليه مع اختلاف وتباين التجارب…ويكون المنفى بذلك ظاهرة عالمية، تتحول فيه التجربة الى وعي…ولاريب أن المنفى يختلف عن مفهوم الهجرة الطوعية، فمن غير المفهوم أن تذرف القصائد على وطن هجرتَه من تلقاء نفسك…
هناك أسئلة تفرض نفسها، وطروحات يتم تداولها، واختلافات وتخالفات بشأن حالة/ ظاهرة/ موضوعة “المنفى”:
هل للمنفى دلالات سلبية فقط؟ هل هو حالة صحية أو مرضية؟ ماذا عن قول (اغتربْ تتجدَّد)؟ِ
عن أزمة المنفي، يرى سلمان رشدي، (أنها ليست مشكلة عدم انتماء، بل الانتماء لأكثر من جذر…أما أدونيس فهو معجب “بالكوزموبوليتية”، وادوارد سعيد عبّر عن التوق إلى الانتماء الأوسع للإنسانية.
فهل المنفى مكان يتعذر فيه ممارسة الانتماء؟ فيكون فيه نفي الهوية أشد وأقسي من نفي الجسد؟ ربما طرأ تغير على مفهوم الهوية اليوم، فصارت لا تعتبر مسألة نهائية، بل هي صيرورة قيد التشكل وباستمرار
لكن عن أيّ منفى نتحدث الآن في زمن الهواتف المحمولة والفضائيات والأنترنت؟ بالتأكيد ليس كما زمن المتنبي: “أما الأحبةُ فالبيداء دونهم”
قد يكون الأديب بالمعنى المجازي للمنفى، منفياً في وطنه…فهل تحول المنفى الى وطن؟ أم الوطن الى منفى؟ ربما يغير المنفى ايجابياً نظرتَنا إلى بلدنا الأصلي، فالعلاقة مع ثقافة أخرى، آداب أخرى، تسمح لنا بالنظر اليه بعين جديدة.
الحالة الفلسطينية أنموذج من خلالها يتم الوصول الى تبيئة متكاملة لمفهوم المنفى، حيث قيل في الحديث عن تجربة محمود درويش (أن المنفى على رغم كونه نتاج شرط تاريخي محدد وأثرا لتجربة عميقة من الفقد وصدع الهوية، فإنه يتحول إلى مجاز للفقد والخسارة، وإلى تعبير عن السقوط في بئر اللاعودة) و يحدد إدوارد سعيد المنفيين بأنهم (المقطوعين عن جذورهم، عن أرضهم وماضيهم)…فهل الكاتب منفي على الدوام، بسبب الطبيعة الاغترابية للإبداع كرسالة؟ كما يذكر الروائي الكوني…فما هو أدب المنفى إذاً؟
هل هناك أدب المنفى؟
ما يسمى بأدب المنفى ليس جديدًا، بل أن ما أُنتج في المنافي، هو أجمل ما في الآداب العالمية، كما قيل، وحضوره اليوم يطغى على ثيمات أخرى، لأن عبور الحدود نفيًا أو هجرةً أو لجوءً، أصبح سمة غالبة على عصرنا…أول حكاية نعرفها عن آلام المنفى تأتينا من قصة نزول أبونا آدم الى الأرض، ومن التراث الفرعوني، تلك التي تحكي عن تعاسة وفرحة الرجوع إلى الوطن. وفي الكتب المقدّسة والمنزّلة نجد ثيمة الغربة “الخروج” في العهد القديم و”الهجرة في القرآن الكريم”، وفي الأدب الإغريقي نجد البطل أوديب معاقبًا بالنفي، محكومًا بالتنقل في التيه عن مدينته ومملكته…وجاء عن لسان العرب، أنّ النفيَ هو إخراج الإنسان من بلده وطردُه، وعُرِف عن العرب نفيُ الزاني، والمخنّث (هاتف وماتع)…وهاجر الأدب الى الأندلس في القرن السابع…ومنذ منتصف القرن التاسع عشر بدأت الهجرة المعاصرة، على عتبات مفهوم، آداب ما بعد الاستعمار.
هل تتفقون مع رأي أن أدب المنفى ليس جنسًا أدبيًا بقدر ما هو أدب يلازمه حدث مهم ألا وهو النفي؟ وهو موازٍ لأدب السجون أو أدب المقاومة أو أدب الرحلة، وليس هناك حاجة الى تبويبه في خانة خاصة كما يشير كثير من الأدباء، باعتباره أدباً انسانياً؟ لا نعرف حقاً جذر هذه القطيعة، بين مثقفي داخل ومثقفي خارج، هل هي تسمية منصفة، باعتبار أن الأصل الثقافي واحد رغم تعدد الأماكن؟…فأدب المنفى هو موضوعة لا تتعلق بالمكانية، هو أدب مفارق بالضرورة، ابتعاد عن الوطن، لكنه في مستوى آخر اقتراب منه، والمنفيون ناس كانوا يقيمون في المكان واصبح المكان يقيم فيهم… فهل هو أدب ظرفي؟ أي طارئ؟ وهل يحيي المنفى الابداع الأدبي، أم تراه يخنقه؟ الطاهر بن جلون يقول: بالنسبة إلي، صنف ‘ أدب الهجرة’ لا يوجد، فالأدب هو الأدب…فما هي خصائص ما يسمى بأدب المنفى؟
ما خصائصه؟
أدب المنفى يضج بحمولات نفسية ووجدانية وعاطفية تختزنها مفاهيم الرحيل والحنين والوطن، فتعصف النوسالتجيا برواية المنفى، ما جعل تقنية الاسترجاع غالبة عليها…وهو بعيد عن رقابة سلطة قامعة، متحرر من جغرافية ورقابة وسلطة، يطل من نافذة الخارج على البعيد، ويترنح فيه الروائي بين الهنا والهناك، بعدم استقرار، متشبثاً بتلابيب ذاكرة واستدعائها بحس تراجيدي، في محاولة لإيجاد توازن مفقود وبوصلة غائبة، ويسعى جاهداً الى إعادة ترميم ذاته المتشظية بذكريات، مرجعيتها سيرة ذاتية بين ما كان وبين الآن، وبتداخل بين الأزمنة، فيصبح الوطن في وقت واحد( مكاناً للجذب بوصفه مسقطاً للرأس، وآخر للطرد بوصفه مكاناً للحياة) كما يورد الناقد عبد الله ابراهيم، (فلا المكوث في المنفى يريحك ولا الرجوع الى الوطن يواتيك)…ويتميز بغلبة الطابع الانساني وقيم مثل الحرية والعدالة والانفتاح على الآخر مع رؤى جديدة بين قيم مترسبة وأخرى جديدة مكتسبة جديدة…في الوقت الذي تتوفر للأديب آفاق معرفية وثقافية أوسع معززة بتفرغ، وبتلاقح ثقافي مع بقعة غريبة…
هل بمقدار ما نريد الاندماج ننتهي إلى إنكار الجذور؟ وهل تفرض علينا لغتنا الأم حدودا وتابوهات تعيق عملية التلاقح؟…ما هي إشكالات أدب المنفى؟
ما إشكالات أدب المنفى؟
ربما من أهم إشكالات أدب المنفى، فقدان الخصوصية والانتماء، مأزق الانتماء المزدوج، صعوبة إيصال النتاجات الى جمهور الأديب الأصليين، غياب النقد والنقاد، بعد جغرافي ونفسي، ظروف الروائي وانتشاره، ضعف امكانية النشر، الهوية المرتبكة ( الحفيدة)، صراع الهوية المركبة، صدمة المنفى بحداثته وفنونه، احتيار في وظيفة الأديب، (تعبوية، أم إمتاعيه، ذاتية)…سيرورة الأدب نحو تذويب أو تماثل في المجتمع الجديد…هل ينبغي على الروائي أن يكون شمولياً وخارج كل إرث وطني وقومي وتاريخي ومجتمعي؟ كما كان كافكا… أفضل من يجيبنا على تلك الأسئلة أظنها ضيفتنا…
عن الروائية
أديبتنا اليوم جناح من الأجنحة المهاجرة العراقية، وأسم كما أسماء كثيرة، تشكّل الراهن السردي العراقي في الخارج…لا تني تكتب ببساطة ووضوح ودون تكلف، وتتداخل هموم شخصياتها الروائية بهموم بلدها وناسها، لكشف جملة صراعات في نفوسهم المتعرضة الى إشكالات نفسية واجتماعية ووجودية…تكتب بشفافية سرد…مشغولة بإشكالات المنفى…توجهت بجهدها السردي نحو الرواية، عرضت واقع بلدها الخارجي والداخلي، لتنتصر للإنسان، في محاولة لوضع بصمة لها على خارطة السرد العراقي، أبى تواضع جمّ تميزت به، أن نعرض عنها تعريفاً فضفاضاً…أصدرت ست روايات: السابقون واللاحقون 1972، القامعون 1997، شوفوني…شوفوني 2001، مَن لا يعرف ماذا يُريد 2010…وقصصاً قصيرة، مثل مجموعة الروح 1999 وغيرها….شغلت سكرتيرة تحرير مجلة (الاغتراب الأدبي) الدورية الصادرة بلندن من 1985 حتى 2002، في اثنين وخمسين عدد و 52 شهادة حية عن الأدب المهجري المغترب…ترجمت مسرحية النصف فقط عام 1984 الى الانكليزية، قرأت على مسرح جامعة- بافلو- نيويورك…في 1990 ساهمت في برنامج الكتابة العالمية في جامعة ( آيوا ) الاميركية، اشتركت في مهرجان المؤلف العالمي بتورنتو – كندا…ولها مساهمات عديدة في مؤتمرات وندوات ومحافل أدبية عديدة…
فهل تعيش ضيفتنا ثقافتها المزدوجة بشكل جيد؟ وهل مرت بمرحلة منفى أدبية؟ لنتعرف منها بالتفصيل على خصائص رواية المنفى عموماً، وتجربتها في الخصوص…نرحب بالأديبة سميرة المانع، ولتتفصل بتنويرنا…