استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 6 اذار/مارس 2019 الباحث في علم الاقتصاد الدكتورصادق الركابي في امسية تحدث فيها عن تداعيات خروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي على الوضع الداخلي في المملكة المتحدة. الدكتور صادق حسين الركابي باحث و أكاديمي عراقي مختص في مجال الاقتصاد و الطاقة. تخرج من Örebro University في السويد و عمل مستشاراً لعدد من الشركات الدولية. يعمل حالياً في إدارة المركز العالمي للدراسات التنموية في المملكة المتحدة و له العديد من المقالات و البحوث و الدراسات الاقتصادية. الركابي ناشط و متخصص في مجال مكافحة الفساد و له مساهمات واضحة في هذا المجال. المقدمة : في الثالث و العشرين من شهر حزيران يونيو 2016 جرى استفتاء تاريخي في المملكة المتحدة على الخروج من الاتحاد الأوروبي. و كانت النتيجة أن 17.4 مليون بريطانياً صوتوا لصالح الخروج واضعين بلدهم على أعتاب مرحلة جديدة من التحولات الاقتصادية و الاجتماعية المهمة. لكن ما هي الخلفيات التي دعت لهذا الأمر؟ و ما هي التداعيات التي ستطال المملكة المتحدة؟ في هذه الندوة نناقش هذه الأسئلة و نحاول أن نفهم الأثار التي ستنعكس على الاتحاد الأوروبي نفسه. النظرة التاريخية: بعد الحرب العالمية الثانية ظهرت فكرة تقول بأن إنشاء روابط اقتصادية قوية بين الدول أمر مهم جداً للحد من النزاعات و الحروب. لذلك وقعت كل من بلجيكا و فرنسا و إيطاليا و لوكسمبورغ و هولندا و ألمانيا الغربية اتفاقية روما لإقامة تكتل اقتصادي فيما بينها. و حاولت المملكة المتحدة خلال الفترة بين 1963-1967 الانضمام لتلك الاتفاقية إلا أن طلبها قوبل بالرفض من قبل فرنسا التي عللت ذلك بأن الاقتصاد البريطاني لم يكن متوافقاً مع نظيره الأوروبي. في عام 1973 نجحت بريطانيا في الانضمام إلى اتفاقية روما و أصبحت عضواً مهماً فيها. لكن الضغوط الداخلية لمغادرة هذا التكتل الاقتصادي كانت قوية إلى درجة أنها دفعت بإجراء استفتاء على مغادرتها. و كانت النتيجة أن 67% من المشاركين صوتوا للبقاء في حين صوت 32.8% على الخروج. مع مرور الزمن أصبح عدد الأعضاء 28 عضواً و نشأ تكتل سياسي و اقتصادي قوي يضم 500 مليون نسمة يسمى بالاتحاد الأوروبي. الاقتصاد الأوروبي: حقق الاقتصاد الأوروبي تقدماً حقيقياً حتى أصبح مجمل الناتج المحلي لكل من ألمانيا و بريطانيا و فرنسا في المراتب الـ الست الأقوى على مستوى العالم و أصبح قريباً من الولايات المتحدة. إلا أن هذا التقدم الاقتصادي لم يكن شاملاً، لذلك بقيت دول أوروبية بمعدلات نمو أقل من الدول الأوروبية الأخرى. مع انضمام بريطانيا للاتحاد الأوروبي زاد التداخل الاقتصادي و السياسي مع الاتحاد لذلك قررت المملكة المتحدة الحفاظ على الجنيه الاسترليني والحفاظ على استقلاليتها فيما يتعلق بالحدود (لم تكن مفتوحة كما فعل الأوروبيون في 1995) . و في سنة 2008 حدثت الأزمة المالية العالمية فتعرضت دول كاليونان لخطر الإفلاس لذلك تداعت الدول الأوروبية لإنقاذها و الحد من الإنفاق لتحقيق توازن في اقتصاداتها. و تم التوصل بين دول الاتحاد في العام 2009 على وضع المادة 50 الخاصة بآلية خروج الأعضاء من الاتحاد الأوروبي. أحداث سياسية: بعد ذلك حدث الربيع العربي و بدأت أعداد كبيرة من اللاجئين تغزو أوروبا ما أثر على اقتصادات الاتحاد الاوروبي و زاد من مسؤولياتها و انفاقها المالي. و هذا أدى إلى تصاعد نبرة العداء من قبل اليمين المتطرف لكل ما هو غير وطني و صعدت الاحزاب اليمينية للبرلمانات الأوروبية. في بريطانيا اضطر رئيس الحكومة آنذاك ديفيد كاميرون لإعطاء ناخبيه وعداً بإجراء استفتاء على مغادرة الاتحاد الأوروبي إذا ما فاز فيها. و تصاعدت الحملات الداعية للخروج بدعوى انفاق أموالاً طائلة على الاتحاد الأوروبي و ازدياد أعداد المهاجرين و حاجة قطاعات كالصحة لهذه الاموال. تزامن ذلك مع موجة من الأعمال الإرهابية ضربت بريطانيا و فرنسا و بلجيكا. الاستفتاء: عند فوز ديفيد كاميرون بالانتخابات العامة استجاب رئيس الوزراء المنتخب بوعده لناخبيه و تم إجراء الاستفتاء على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بركسيت Brexit ). و كانت النتيجة صادمة لكاميرون نفسه. فقد صوت 51.9% من الشعب البريطاني المشارك في الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي مقابل 48.1% صوتوا للبقاء. و قد اضطرت هذه النتيجة رئيس الوزراء كاميرون لإعلان استقالته لتستلم السيدة تيريزا ماي التي تولت حقيبة الداخلية سابقاً منصب رئيس الوزراء. السيدة ماي التي كانت من معارضي بركسيت اضطرت لتسلم حملة حزب المحافظين الداعية للخروج من الاتحاد الأوروبي فكانت مقولة ماي الشهيرة بأن Brexit يعني Brexit . و تم تفعيل المادة 50 للخروج من الاتحاد الأوروبي فأصبح على بريطانيا و الاتحاد الأوروبي اتخاذ الاجراءات لعملية الطلاق في غضون عامين فقط. الطلاق الصعب: و اتضح من خلال مسار المفاوضات الشائك بين بريطانيا و الاتحاد الأوروبي أن عملية البركسيت ليست بهذه السهولة بسبب التداخل الكبير و التعقيدات الهائلة في كل الملفات. و انخفضت قيمة الباوند حيث أصبح أقل من الدولار بـ 15%. و أصبح لزاماً على كل من الطرفين تحديد شكل العلاقة التجارية بينهما. فالتبادل التجاري كان سابقاً من دون أية تعرفات جمركية إلا أنه في حالة الخروج الصعب (من دون اتفاق) فإنه سيكون لزاماً على بريطانيا أن تخضع لقوانين منظمة التجارة العالمية WTO أي أنها ستتعامل مع كل الدول بالتساوي فيما يتعلق بالتعرفات الجمركية. فإذا كانت بريطانيا تستورد سلعة معينة من أوروبا فسيكون هناك تعرفة جمركية عليها و سيكون سعر هذه السلعة أعلى ما يحمل المستهلك البريطاني أعباء و تكاليف أكبر. من جهة أخرى فإن الأمر سيكون مفيداً للمنتج المحلي الذي سيجد في سلعه قدرة تنافسية أعلى ما يزيد من جدم مبيعاته في السوق و برفع من إيراداته المالية للتوسع و توظيف أعداد أكبر. و هنا تبرز معضلة السلع المنتجة محلياً و التي يكون عرضها أقل من الطلب. عندها ستضطر بريطانيا لخفض التعرفة لدرجة مقاربة للصفر في كثير من النواحي و ذلك للتغلب على مسألة رفع الأسعار. لذلك فالمنتج البريطاني سيكون عرضة للتنافس الكبير من الخارج. إلا أن المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي تطرقت للعديد من النماذج لتحديد شكل العلاقة التجارية مع بريطانيا. و بما أن بريطانيا هي عضو في الاتحاد الأوروبي فهي عضو في السوق الواحدة Single Market و الاتحاد الجمركي Customs Union . أي أنه يوجد حرية في تنقل الأفراد و السلع و الخدمات و رؤوس الأموال. النموذج النرويجي: هي نموذج للخروج السهل فهي عضو في السوق الواحدة Single Market لكنها ليست في الاتحاد الجمركي Customs Union (أي يوجد رسوم إدارية قبل تصدير السلع ) كما أنها عضو في المنطقة الاقتصادية الأوروبية EEA و لكنها ليست عضواً في سياسة الزراعة العامة Common Agriculture Policy CAP و سياسة الصيد العامة Common Fishery Policy CFP أي أن التجارة في هذه المجالات ليست حرة. كما أن النرويج تدفع مساهمات مالية للاتحاد الأوروبي لكنها لا تمتلك كرسياً في البرلمان الأوروبي. و قد رفض العديد من أعضاء مجلس العموم البريطاني أن يتم تبني هذا النموذج لأنه لا يعطي للملكة المتحدة الرقابة الكافية و التحكم باقتصادها و وضعها القانوني مع المفوضية الأوروبية. نموذج كندا: في هذا الإطار نجحت كل من كندا و الاتحاد الاوروبي في العام 2017 على إبرام اتفاق للتجارة الحرة مع أوروبا CETA تضمن معظم السلع و الخدمات المصدرة. إلا أن هذا الاتفاق و الشكل التجاري للعلاقة استغرق فترة طويلة لإبرامه استغرقت طيلة السنوات السبع. و لكن لأن كندا ليست عضواً في السوق الواحدة فيجب أن يكون هناك حواجز إدارية للتدقيق فيما إذا كانت السلع المستوردة منها تحقق معايير الاتحاد الأوروبي. تأثير الخروج من دون اتفاق ((No Deal في حالة خروج بريطانيا من دون اتفاق فلن يكون هناك فترة انتقالية (Transition Period) لعامبين تستخدم لتعديل القوانين و تأقلم الشركات و الأفراد مع الوضع الجديد. كما أن بريطانيا ستكون خارج السوق الواحدة أي سيكون هناك تعرفات على السلع و الخدمات و قيود على حركة الأفراد و رؤوس الأموال. بالنسبة للمواطنين الأوروبيين المقيمين في بريطانيا فإن وضعهم القانوني سيتغير من resident) ) إلى ( Settled) أي أن حق الإقامة الأوتوماتيكي سينتهي و لن يكن هناك حرية تنقل بدون قيود و هذا ينطبق على البريطانيين أيضاً في أوروبا حيث أطلقت الحكومة البريطانية صفة Settled Status على الأوروبيين المقيمين فيها و الغت أية رسوم مالية تستلم منهم ثمناً لذلك. لكن تأثيرات الخروج من دون اتفاق ستكون أخطر و أكبر على ملف التجارة و الخدمات المالية. فبحسب الاتحاد الأوروبي ستعامل المملكة المتحدة كدولة ثالثة في حالة عدم التوصل إلى اتفاق ما يعني أن أعداداً هائلة من الشاحنات التي تنقل البضائع من و إلي بريطانيا ستمتد لمسافات تصل إلى 17 ميلاً عند النقاط الجمركية لإنجاز معاملات دخولها. بالإضافة لذلك فإن هذا الأمر يتطلب وقتاً كبيراً و أعداداً ضخمة من الموظفين و كلفة عالية خاصة عند المناطق المزدحمة كـميناء Dover ما قد يضطر العديد من المصانع الأوروبية للانتقال إلى الدول الأوروبية بدلاً من بريطانيا. بالإضافة لذلك فإن العديد من السلع الغذائية و الزراعية و الدوائية (30 ٪ من المواد الغذائية مستورد) سترتفع أسعارها. ما يؤدي إلى نقص في بعض السلع كالفواكه والخضروات الطازجة التي يمكن أن تتضرر بشدة. و يقدر حجم الخسائر السنوية التي ستتكبدها الشركات البريطانية نتيجة الإجراءات الجمركية بعد الخروج ما قيمته 13 مليار جنيه استرليني. كما أن العديد من الشركات ستحتاج لمخازن إضافية و البحث عن خبرات قادرة على أداء المهمات الجديدة. و قد نجحت قرابة 40 ألف شركة فقط من أصل 240 ألف شركة في التسجيل و الحصول على رقم التعريف الخاص بالتعريفات الجمركية. أما على الصعيد القانوني فإن العديد من القوانين لا تتعارض مع القوانين البريطانية. إلا أنه توجد مؤسسات أوروبية في بريطانيا ستتوقف عن العمل وفق القوانين الأوربية و بالعكس. و تخضع بريطانيا لمحكمة العدل الأوروبية لكنها ستتبنى بعض القوانين التابعة لمحكمة حقوق الإنسان الأوروبية. خطط طوارىء: و رغبة منها في تجاوز هذه التداعيات حددت الحكومة البريطانية قائمة بـ 87% من السلع المعفاة من أية رسوم جمركية حتى في حالة عدم التوصل لاتفاق. كما حولت مطاراً بالقرب من Dover لموقف للشاحنات و اتفقت مع شركات الشحن البحري لتشغيل رحلات نقل إضافية للسلع و تخفيف الزحام عند الموانىء. كما حددت وزارة الخزانة أكثر من 4 مليارات جنيه استرليني للتحوط من الخروج من دون اتفاق. و تعول الحكومة البريطانية على عقد صفقات مع دول خارج الاتحاد الأوروبي بعد الخروج منه لكنها لغاية فترة أعداد هذا التقرير لم تنجح في ذلك إلا مع ست دول من أصل 69 أخرى تعول عليها. الاختلافات في القوانين تمتد لقطاعات مختلفة و متعددة و منها الطيران حيث أن العديد من الشركات الناقلة ستخسر حقوق الطيران بين سماء بريطانيا و الاتحاد الأوروبي و ستكون هناك حاجة لاتفاق جديد بين الشركات و السلطات في بريطانيا ما قد يضطر العديد من تلك الشركات لإلغاء رحلاتها و عودة طائراتها لمطاراتها التي أقلعت منها. فاتورة الطلاق: و بحسب المفوضية الأوروبية فإنه يتوجب على المملكة المتحدة أن تدفع 19.8 مليار جنيه عن حصتها في دعم مشاريع كانت قد التزمت بها. كما أنها ستدفع 2.6 مليار جنيه التزامات أخرى و هناك 16.3 مليار جنيه مشاركات في الموازنات الأوروبية حتى عام 2020 ما يجعل مجموع فاتورة الطلاق يرتفع إلى 38.7 مليار جنيه. كما أن العديد من المشاريع التي أنجزها الاتحاد الأوروبي ستفقد الدعم المادي. أثار كارثية على الاقتصاد البريطاني: قد يؤدي الخروج من دون اتفاق لإضعاف الاقتصاد البريطاني بنسبة 6 إلى 9٪ خلال الخمسة عشر عامًا القادمة (ويلز واسكتلندا 8 % ، أيرلندا الشمالية 9 % ، شمال شرق إنجلترا 10.5 %). كما بدأت معظم المحافظ المالية بخفض عدد موظفيها و نقل مكاتبها الرئيسية لمدن أوروبية لأول مرة منذ ست سنوات. كما تشير بيانات إحصائية إلى وضع اقتصادي غير سليم ما قد يتسبب بارتفاع التضخم و مزيد من التراجع في مؤشر مديري المشتريات بعد أن وصل في يناير هذا العام 2019 إلى 50.1 متراجعاً عن ديسمبر حيث وصل إلى 51.2 في 2018 و هو أقل مستوى منذ تموز يوليو 2016 في حين أن التوقعات كانت تشير إلى 51. و بجسب بنك إنكلترا فإن قيمة الجنيه الاسترليني قد تنخفض ما يؤدي بالاقتصاد البريطاني إلى الانكماش و تراجع الاستثمارات لأدنى مرة منذ سبع سنوات. و يتردد كثير من المستثمربن في الفترة الراهنية عن الدخول في مزيد من الاستثمارات الجديدة ، حالياً على الأقل. حيث بلغ مجموع ما سحبه المستثمرون من المحافظ المالية خلال الفترة بين 2016-2018 قرابة 20.6 مليار جنيه استرليني. و يعتبر البركسيت من أعلى درجات المخاطر التي تهدد المستثمرين و محافظهم المالية حيث أنه ينعكس سلباً على قيمة الأصول و يمنح قدرات تنافسية أعلى لأسواق بديلة كالاسواق الناشئة و الملاذات الآمنة. كما كشفت الحكومة عن وجود تأخيرات كبيرة للمشروعات الحيوية التي يتم تنفيذها استعدادًا لعدم التوصل إلى اتفاق. الحدود بين بريطانيا و إيرلندا: يخشى كثيرون من أن يؤدي وضع أية حدود مادية بين إيرلندا و إيرلندا الشمالية سيؤدي إلى انهيار اتفاق الجمعة العظيمة بين الجانبين. لذلك فإن رئيسة الوزراء السيدة ماي تتفاوض مع الاتحاد الأوروبي على إيجاد صيغة و سياسة تفضي لعدم وجود حدود بين الجانبين في إيرلندا أو ما يعرف باسم Backstop . من وجهة النظر الأوروبية فإن عدم وجود حدود غير ممكن إلا إذا كانت بريطانيا جزءاً من السوق الواحدة و اتحاد جمركي مع الاتحاد الأوروبي و هذا ما تضمنه اتفاق ماي الأخير الذي رفضه البرلمان البريطاني. و ما يؤخذ على اتفاق ماي الأخير أنه ينص على ما يلي: لا يمكن إلغاء الـ Backstop إلا باتفاق الجانبين يجعل إيرلندا عرضة لاتفاقات قانونية مزدوجة بين الاتحاد الأوروبي و بريطانيا في نفس الوقت. لا يحق لبريطانيا الخروج من الفترة الانتقالية إلا بعد موافقة الطرفين بما فيهما الاتحاد الأوروبي أيضاً. لذلك كانت نتيجة التصويت في البرلمان على رفض اتفاق ماي الأمر الذي أفقد رئيسة الوزراء السيطرة على ملف المفاوضات محولاً البرلمان إلى شريك قوي في متابعة المفاوضات مع الجانب الأوروبي. .