لندن / عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن ندوة ثقافية بعنوان “ثورة العشرين” تحدث فيها الدكتور عبّاس كاظم، الباحث المتخصص في حقل الدراسات الشرق أوسطية عن “ثورة العشرين” ودورها في استعادة العراق من الاحتلال الأجنبي الذي امتد منذ عام 1258 وحتى نهاية فترة الاحتلال البريطاني. أشار الشاعر فوزي كريم الذي تبنّى تقديم المُحاضِر والتعريف بسيرته الذاتية والإبداعية إلى أن الدكتور عبّاس كاظم قد أنجز كتاباً مهماً عن “ثورة العشرين” أسماه “استعادة العراق: وتأسيس الدولة العراقية الحديثة” وسوف يرى النور في شهر نوفمبر القادم من هذا العام. استهل الدكتور عبّاس حديثه قائلاً بأنّ فكرة هذا الكتاب قد التمعت في ذهنه بينما كان منغمساً في قراءة مذكرات السيد محسن أبو طبيخ، الذي يُعد واحداً من أبرز قادة ثورة العشرين. وحينما قطع الباحث شوطاً طويلاً في هذا البحث شعر في قرارة نفسه بأنه لن يخدم أبو طبيخ في هذا الكتاب الذي قد يأخذ طابع السيرة الذاتية البيوغرافية، فلقد كان الرجل مهتماً بقضية أكبر من تاريخه الشخصي، وهي بالتحديد تأريخ ثورة العشرين وما تعرضت له من تشويهات خطيرة. أشار الدكتور عبّاس إلى أن هذا التعديل قد كلّفه المزيد من الوقت والجهد الفكري، فقد اضطر لحذف “30” ألف كلمة من أصل البحث المؤلف من “70” ألف كلمة، كما أضاف إلى متنِه “20” ألف كلمة أخرى لكي يستقيم البحث وتتضح أفكاره ووجهات نظره الأساسية، وقد استغرقه هذا الكتاب نحو ست سنوات متتاليات في البحث، والتنقيب، ومقارنة الروايات، وتحليل الوثائق التي وقعت بين يديه بعد جهود مضنية. أوضح المُحاضر بأن هدفه ليس تقديم سردٍ جديد لثورة العشرين، لأن أحداث الثورة باتت معروفة للجميع تقريباً، لكن أهمية الكتاب ورسالته الضمنية تكمن في إثارة أسئلة أكبر وأبعد من ثورة العشرين ذاتها، أسئلة تتناول تأريخ العراق، وكيفية تأسيسه؟ أسئلة من قبيل: مَنْ كتب التاريخ؟ وكيف كُتِب؟ ولماذا كُتِب؟ وما هي الأسباب التي جعلتنا نحصل على هذه الأنواع المختلفة من التواريخ؟ ذكر المُحاضِر أن هذه التواريخ المتعددة لا تقتصر على العراق فقط، وإنما على الكثير من بلدان العالم، وعلّل ذلك بوجود التواريخ الرسمية، والتواريخ المقبولة، والتواريخ المنبوذة أو التواريخ التي لا يُتفَق عليها، ولم يستثنِ البلدان المتطورة من هذه التواريخ المتعددة مثل الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من البلدان المتقدمة جداً. وأوضح بأنه شخصياً ليس مختلفاً عن الباحثين الآخرين، ولكنه ينظر إلى ثورة العشرين كحدث تاريخي أو ظاهرة تاريخية تستحق البحث العميق والدراسة المطوّلة. يعتقد الدكتور عباس أنّ سردية ثورة العشرين قد اعتمدت على مصدرين أساسيين، الأول: المصادر الإنكليزية التي كتبها البريطانيون الذين ساهموا في احتلال العراق وإدارته في تلك الحقبة، بما فيها مذكرات الضباط والمؤرخين البريطانيين الذين تعاملوا مع ثورة العشرين، والثاني: هو تأريخ الحكومات العراقية المتعاقبة بعد ثورة العشرين، وكانت هذه الحكومات غالباً ما تقدِّم روايات تنفي الروايات السابقة لكي تكون ثورة العشرين مصدراً لشرعية الناس الجُدد الذين يتسنمون سُدة الحكم. ولعل الشيء الطريف الذي أورده الباحث بأنه حتى الناس الذين لم يشتركوا في الثورة، وكانوا خارج العراق في حينه، حاولوا أن يلفقوا لهم أدواراً معينة فيها، مثل الإيحاء للعراقيين بالثورة وكأنّ العامل أو الفلاح العراقي لا يتوفر على الوعي الكافي الذي يدفعه للثورة والخلاص من براثن المُحتل. وذكر الباحث بأنّ غالبية الضباط الذين جاءوا مع الملك فيصل هم الذين تبنوا موضوع الإيحاء بالثورة لأنهم واعون، ومثقفون،كما يدّعون طبعاً، ويعرفون مصلحة البلد أكثر من القبائل العراقية البسيطة التي وصموها بمحدودية التفكير، بينما يكشف واقع الحال أن الهدف من هذه الادعاءات هو الاستحواذ على معظم الوظائف العسكرية والمدنية في الدولة العراقية. لم يقتصر هذا التكييف لثورة العشرين على العهد الملكي فقط، وإنما شمل كل الحكومات العراقية المتعاقبة، فحينما جاء ثوّار 1958 كتبوا تأريخاً جمهورياً لثورة العشرين، وحينما جاء البعثيون جيّروا الثورة لمصلحتهم أيضاً، والأغرب من ذلك أنّ العهد الجديد لم ينأَ بنفسه عن هذه الثورة العظيمة، وحتى تاريخ انسحاب القطعات الأميركية المحتلة كان في نفس اليوم الذي انطلقت فيه ثورة العشرين، لكن الأميركيين قدّموا الموعد يومين لأسباب أمنية. إذاً، لم تسلم ثورة العشرين من الحذف والإضافة والاقصاء والتحريف والاستحواذ في كل العهود، وأكثر من ذلك فقد انتقلت، ليس من مجموعة إلى أخرى، أو من الريف إلى المدينة، وإنما نُقلت جغرافياً من موطنها الحقيقي الذي فُجرّت فيه إلى أبي غريب، وعشائر زوبع، وشيخ ضاري، ثم تبيّن لاحقاً بأن شيخ ضاري كان خال عبد السلام وعبد الرحمن عارف، فلاغرابة أن يكتب عنه عزيز الحجية وعبد الحميد العلوجي كتاباً لافتاً في عنوانه الطويل بأنّ “الشيخ ضاري شيخ عشيرة زوبع وقاتل لجمن الضابط البريطاني الخ” مع أنّ محامي الدفاع قد أسسوا دفاعهم على أنّ الشيخ ضاري كان صديقاً للإنكليز، وأنّ المسألة شخصية تتعلّق بشرفه العشائري. لم يكتف النظام البعثي السابق بسرقة الثورة، وإنما ساهم في تشويهها. وقد أورد الدكتور عبّاس فلم “المسألة الكبرى” للمخرج محمد شكري جميل كأنموذج لهذا التزوير حيث كان الخطيب المفوّه “يوسف العاني” صامتاً في هذا الفلم، بينما أهملوا كل القامات الفنية المبدعة ليسندوا دور البطولة إلى “غازي التكريتي” وكأنهم لا يكتفون بمصادرة الآخرين في الحياة، وإنما صادروهم في الفن أيضاً، هذا إضافة إلى تبديد الملايين التي دفعوها لنجوم السينما البريطانيين أمثال أوليفر ريد وهيلين راين وماك سيندن وغيرهم. لم يصمد هذا التشويه طويلاً فقبل بضعة سنوات، كما أكدّ الباحث، ظهر يوسف العاني في مقابلة وقال إنه كان يتكلم في الفلم، لكن المَشاهد حذفت كلها بهدف تغيير السرد التاريخي. الإرهابيون في العراق اختاروا اسم “ثورة العشرين” عنواناً لهم، بينما هم لا يقدِّمون للعراقيين سوى الإحن والمحن. توقف الدكتور عباس عند عدد من الكُتاب الذين كتبوا عن ثورة العشرين أمثال محمد مهدي البصير الذي ظهر كتابه بعد أربع سنوات من الثورة، وفريق مزهر الفرعون الذي وصف الباحث كتابه بالخطير بسبب التشويه والتلفيق الذي يتوفر عليه، وقد أسماه أبو طبيخ بـ “الحقائق الضائعة” بدلاً من عنوانه الحقيقي “الحقائق الناصعة”. كما كتب علي البازركان عن ثورة العشرين، لكن الباحث يجد في كتابه نفَساً طائفياً ومناطقياً واضحاً، إذ ينتصر إلى بغداد ويقلل من شأن مدن الفرات الأوسط، ويصل حدّ هذا التقليل من شأنهم إلى درجة الإهانة والشتم واستعمال الكلام البذيء. كما أشار الباحث إلى كتاب جعفر الخليلي وقال عنه أنه كتاب جميل فيه الكثير من المشاكسة والنفَس الصحفي، كما توقف عند كتاب عبد الشهيد الياسري، ومذكرات محسن أبو طبيخ التي لم تظهر إلاّ في عام 2002. يرى الباحث أن معظم هذه الكتب كانت عاطفية أو كان لأصحابها أجندات خاصة قد تكون عشائرية أو شخصية، كما أنها لم تُكتب من قِبَل مؤرخين محترفين يعرفون قيمة الوثيقة وأهمية التاريخ. توقف الباحث عند عدد غير قليل من الكُتاب والمنظّرين أمثال علي الوردي وفالح عبد الجبار وفلاح رحيم وقد وصف هذا الأخير أطروحة د. عباس كاظم بأنها “حبكة دفن الأخ”، حيث تمت عملية الدفن معنوياً أول الأمر ثم تحولت إلى عملية دفن حقيقية تمثلت بالمقابر الجماعية التي عرفها القاصي والداني على حد سواء. ختم الباحث محاضرته القيّمة بهذا التساؤل المنطقي: “هل يمكن أن يكون محسن أبو طبيخ أول رئيس للعراق بدليل أنّ الثوار هم الذين نصّبوه، وأسسوا حكومة عراقية في كربلاء حضرها الشيعة والسنة معاً، وباركه الجميع”؟ علماً بأنّ هذه الحكومة كانت مشابهة لحكومة عبد الرحمن النقيب وقد وفرّت باعتراف المؤرخين أماناً وهامشاً من الحريات أفضل مما وفرته الحكومات اللاحقة.
جدير ذكره بأن المحاضرة قد قوبلت بالاستحسان من قبل غالبية الحاضرين الذين تفاعلوا مع المعلومات القيّمة والمُستفزة في آنٍ معاً. ونظراً لضيق المساحة المخصصة لهذا المقال سنكتفي بذكر أسماء السائلين وهم فؤاد جابرـ سعد الخزرجي، فائق الشيخ علي، صباح جمال الدين، خالد القشطيني وعبدالله الموسوي.