صادق الطائي / لندن
ضمن برنامجها الثقافي عبر أماسيها الاسبوعية ضيفت مؤسسة الحوار الانساني في لندن يوم الاربعاء 19/11/2014 الاستاذ خالد القشطيني الكاتب والصحفي العراقي ليتحدث عن ( شروط النهضة وعمليات التغير الاجتماعي ) ، وقد استهل الاستاذ القشطيني المحاضرة بتعريف لماهية النهضة عبر الاستعراض التاريخي للمصطلح ، فذكر ان عنوان المحاضرة ( النهضة والتغير ) قد يبدو لاول وهلة بسيطا ولايمكن للمتحدث ان يضيف شيئا جديدا على الدراسات التي تناولت الموضوع ، الا اننا سنحاول ان نسلط الضوء على الموضوع من زاوية ماحدث ويحدث من متغيرات في بلداننا اليوم .
ولتعريف مصطلح النهضة قال الاستاذ خالد القشطيني ؛ ان جذر الكلمة من نهوض ، نهوض من النوم او من السبات والتخلف واستعادة المجد القديم ، وهذا المفهوم يعتبر من المفاهيم الحديثة نسبيا لان التاريخ يشير ان الانسان لم يفكر في ذلك قديما لانه مع كل تغيير تاريخي كان يبتدأ من جديد ، وهذا ليس معناه البداية المطلقة ولكن بالتأكيد كانت كل حضارة تتأثر بما سبقها من حضارات لكن لم يكن مفهوم استلهام ما مضى موجودا في الفكر الانساني المبكر ، فمثلا لم يفكر الاشوريون بأستعادة مجد بابل ، وبابل لم تفكر بأستعادة مجد سومر ، بل كان كل قادم جديد يفكر ببناء امبراطوريته الجديدة ، ورغم ان تأثير ماسبق واضح بلا لبس في من لحق من الحضارات الا ان اطروحة استلهام من سبق لم تكن مطروحة.
لقد ظهرت فكرة النهضة – باعتبارها استعادة المجد القديم – اول مرة في ايطاليا ما بين القرن الخامس عشر والقرن السابع عشر ابان ماأطلق عليه بعد ذلك ( عصر النهضة ) ، وقد كان ذلك امرا طبيعيا لان الناس كانوا يعيشون وسط اثار الاغريق والرومان ويتعايشون معها بشكل يومي، وهذا الامر شكل حافزا قويا للنهوض عبر استلهام الحضارة الاوربية الغربية وربطها بأصولها الاغريقية والرومانية واستخدام هذا الاستلهام سلاحا بوجه سطوة الكنيسة التي كانت تسيطر على كل تفاصيل الحياة .
ان عمالقة النهضة الاوربية اشتغلوا على بعث التراث اليوناني والروماني عبر نصوص حافظ عليها العرب وترجموها الى العربية في حقبة العصور الوسطى ، فقامت النهضة الاوربية على عمليات ترجمة معاكسة من العربية الى اللاتينية لكتابات الفلاسفة العرب كأبن رشد وابن سينا وابن طفيل وغيرهم ممن مثل حلقة الوصل بين التراث اليوناني والنهضة الاوربية الحديثة .
لقد ظهر اصطلاح (Renaissance ) اللاتيني الذي يعني اعادة الولادة ليسم عصر كامل هو عصر النهضة او اعادة ولادة الحضارة الغربية عبر اعادة الحياة لروما واثينا وبعث مجدها الامبراطوري ، وكل ذلك قد جرى في اطار الفنون والادب والعمارة والفكر والفلسفة والعلم ، وعلى سبيل المثال حاول الايطاليون بعث مسرح سوفوكليس ويوربيديس الاغريقي المكتوب شعرا ، لذلك قدموا هذه المسرحيات مغناة ظنا منهم انها كانت تقدم بهذا الشكل ومن ذلك ولد فن الاوبرا في ايطاليا في عصر النهضة .
ان السعي لاعادة ولادة المجد الغابر قاد اليونان في القرن التاسع عشر الى الثورة على الحكام العثمانيين وتحرير اليونان والسعي الى اعادة مجد اثينا عبر نظام الملكية الدستورية الحديثة الا ان الكثير من المعوقات حالت دون وصول اليونان الى ماتصبو اليه ، كذلك سعت ايطاليا الى اعادة مجد الامبراطورية الرومانية المقدسة ، فوحدت اراضيها التي كانت موزعة في دويلات مدن ضعيفة واتجهت بعد التوحد في طريق الاستعمار حالها حال الدول الاوربية الاخرى ، فأحتلت ليبيا والحبشة وحاولت التوسع في افريقيا على امل بناء الامبراطورية الرومانية المقدسة الحديثة .
وعلى هذا الغرار كانت فاتحة النهضة العربية في القرن التاسع عشر عبر استلهام الحضارة العربية الاسلامية على يد عدد من رواد النهضة العربية مثل جمال الدين الافغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي ورفاعة رافع الطهطاوي وغيرهم ممن توفرت لهم فرص العمل والابداع في ظل مشروع محمد علي باشا في مصر ومحاولته بناء امبراطورية حديثة تكون بديلا للامبراطورية العثمانية الضعيفة انذاك ، ولكن ولعدة اسباب يقف السياسي في مقدمتها توقف او تقهقر هذا المشروع وبقي محدود الاثر حتى الحرب العالمية الاولى وانهيار الدولة العثمانية كنتيجة لهذه الحرب وهنا ظهر مشروع عربي جديد لاقامة دولتهم واستلهام حضارة الدولة العربية الاسلامية ، وكان صاحب هذا المشروع هو الشريف حسين بن علي شريف مكة الذي تحالف مع الانكليز وثار على الدولة العثمانية مقابل تعهد من الانكليز بانشاء مملكة العرب بعد الحرب وكان اولاد الشريف حسين هم الذين يقودون الجيوش العربية المقاتلة مع الحلفاء ضد الدولة العثمانية والمانيا وقد حققت هذه الجيوش انتصارات مهمة تأسس على اثرها مملكة تحت حكم الامير فيصل في سوريا تابعة للملكة الام في الحجاز الا ان ماظهر بعد ذلك من اتفاق بين الانكليز والفرنسيين او ماعرف بمعاهدة ( سايكس – بيكو ) غير الواقع السياسي اذ وزعت غنائم الحرب بين الممنتصرين وتنكرت لمراسلات (الشريف حسين – مكماهون) وما تضمنها من تعهدات للعرب والنتيجة اجتياح الفرنسيون لسوريا ولبنان وفرض الانتداب عليها كما فرضت بريطانيا الانتداب على العراق وشرق الاردن وفلسطين لتؤد محاولة نهضوية اخرى وليظهر للوجود عالم ما بين الحربيين بما تظمنه من دول مستقلة حديثا ومعتمدة على الدول الاوربية الكبرى في محاولة للدخول الى عالم الحداثة الذي تخلف عنه العرب .
وفي العراق الذي انشأ فيه الانكليز مملكة وليدة تحت قيادة احد ابناء الشريف حسين وهو الملك فيصل الاول الذي حاول بناء مملكة دستورية ذات نظام ليبرالي ديمقراطي ، في هذا البلد بقيت النخبة تحتفل بيوم التاسع من شعبان وهو يوم انطلاق تمرد الشريف حسين بن علي على الدولة العثمانية كمناسبة وطنية لبداية مشروع النهضة ، اما في مصر وبعد التغيرات التي حصلت عقب الحرب العالمية الثانية فقد ولد مشروع نهضوي جديد عقب تمرد الجيش في 1952 والاطاحة بالملكية التي استمرت في عائلة محمد علي باشا لقرن ونصف ، وكان هذا المشروع النهضوي القومي هو المشروع الناصري الذي ماتزال بعض طروحاته موجودة لحد اليوم وان تكن بفاعلية اقل من سنوات توهجه في عقدي الخمسينات والستينات وهي الحقبة التي شهدت تغيرات سياسية كبيرة في المنطقة هيئتها للدخول فيما اسمي حقبة الحرب الباردة وولادة دول عدم الانحياز ردا على ولادة التكتلات العالمية الكبرى مثل حلف الناتو وحلف وارشو .
وهنا ركز الاستاذ القشطيني على نقطة اعتبرها مهمة في هذا السياق ، وهي ولادة نهضة وحركة حداثة في العراق قامت بها دولة الانتداب ( بريطانيا ) في العراق ، واكد على اهمية عدم اغفال دور الانكليز في ما حصل في العراق، فكل البنى الحديثة هي من تلك الفترة وكل البنى التحتية تم بنائها في العراق الذي كان اقليما عثمانيا متخلفا حتى انشاء المملكة فقد تم انشاء الموانئ والسكك الحديدية وشق الطرق وبناء الجسور وأنشاء البرلمان وتأسيس المدارس الحديثة وبناء المستشفيات وغيرها من اسس الدولة الحديثة في ظل الانتداب.
وينتقل الاستاذ القشطيني الى سؤال محوري في محاضرته وهو ؛ لماذا لم تنجح المشاريع النهضوية العربية في ما سعت اليه من اهداف ؟؟ واجاب ان حركات النهضة العربيية لم تأت نتائجها لانها قامت على محاولة اعادة بناء ماتهدم دون محاولة المواشجة بين التراث مع الحاضر ، كما ان النهضويين ربطوا النهضة بالخلافة واللغة العربية واستلهام التراث القائم على ذلك بخلاف النهضة الاوربية التي استلهمت روح الحضارة الاغريقية والرومانية وتخلصت من سطوة الكنيسة ومن أعتبار اللغة اللاتينية لغة مقدسة .
ثم تناول الاستاذ خالد القشطيني بعض الطروحات الهامة للمفكرين الذين تناولوا بالدراسة موضوعات الحضارة ، مبينا وشارحا طروحاتهم التي تؤكدعلى ان الحضارة لها ادوار حياة مثل الكائن الحي فهي تمر بطور الولادة والطفولة ثم الشباب وعنفوان القوة ثم الكهولة والانحدار الى الشيخوخة ثم الموت، ومن هذه الاطروحة يتبين استحالة بعث الحياة في حضارات ميتة كما يستحيل احياء الكائن الحي بعد وفاته ، لذلك نحن نرى ان كل الحضارات عندما تولد وتصل مرحلة الشباب فأنها لا تعبأ بتجديد مامضى بل تسعى الى احتواء ماسبقها وتتأثر بمعطيات ما قبلها من الحضارات لكنها في كل الاحوال تتحدى القديم وتشطب عليه ليولد الجديد وينمو ويزهر في جو وظروف مختلفة عما مضى، ان من المسلمات اليوم ان النهضة تتطلب التغيير لانها لابد لها من التغيير لتصل الى مرحلة بناء ذاتها بشكل يميزها عما سبقها .
وعاد الاستاذ خالد القشطيني الى المشروع العربي ليبين ان مرحلة انشاء الدول العربية الحديثة في اعقاب الحرب العالمية الاولى جاء مصحوبا من قبل دول الانتداب بتوجيهات للنخب العربية بأن الانتقال الى الحداثة والنهضة لابد وان يتم بشكل تدريجي ، الا ان ظروف المنطقة وظهور مشكلة الصراع العربي الاسرائيلي وشيوع الاحزاب الماركسية والثورية في الدول العربية سرع من فاعلية النخب العسكرية ودفعها للتفكير بالانقلابات كحل للتغيير وهو حل سريع ، وقد كان العراق ارضا لأول انقلاب شهده الشرق الاوسط الحديث عام 1936 ، عندما قام الفريق بكر صدقي بانقلاب عسكري واسقط حكومة ياسين الهاشمي ليشكل حكومة جديدة برئاسة حكمت سليمان ، ثم توالت سلسة الانقلابات في كل المنطقة تقريبا في العراق وسوريا ومصر وليبيا واليمن والجزائر.
ونحن نعلم ان الحكم والنهوض بالمجتمعات امر في غاية التعقيد ونحن نرى اليوم ان الحكومات الغربية تتألف من اعلى النخب تعليما وثقافة في المجتمعات ومع ذلك نراها تواجه الكثير من الصعوبات التي تجعلها تقف حائرة امامها فما بالك بحكومات يحكمها العسكر بدون اي خلفية علمية او ادارية وبطريقة تفكير تربت على الامر والطاعة ، ان النتجية الحتمية لذلك هو الخراب الذي وصلت اليه التجارب العربية والنتيجة هي الانهيارات التي حصلت نتيجة التمردات الشعبية الاخيرة التي عمت المنطقة بسبب فشل حكومات العسكر في ان تقدم حلولا ناجعة للنهوض بمجتمعاتها .
وقد طرح عدد من الضيوف اسئلة في صلب الموضوع اجاب عليها الاستاذ خالد القشطيني بما اتسع له من وقت المحاضرة ليقدم رؤيته لموضوع النقاش.