في الذكرى الثانية لرحيل الفنان والشاعر العراقي محمد سعيد الصكار ،احتفت مؤسسة الحوار الانساني بهذا الرمز العراقي في امسية ثقافية يوم الاربعاء 30 /3/2016 ،بعرض الفيلم الوثائقي (شاعر القصبة) للمخرج العراقي محمد توفيق مع مناقشة محطات مهمة في حياة وفن وشعر الصكار .
ولد محمد سعيد الصكار عام 1934 ببلدة المقدادية، شرقي بغداد، لكنه نشأ في مدينة البصرة جنوبي العراق.وظلت البصرة ظاهرة في أعمال الصكار الشعرية والحروفية، ابتداء من اول مجموعة شعرية صدرت له بعنوان “امطار” في عام 1962، مرورا بمجموعة “برتقالة في سورة الماء” عام 1968، وانتهاء بلوحاته الحروفية الكثيرة، التي جعلت منه احد اهم فناني الخط العربي والزخرفة في العصر الحديث.
اقام الفنان العراقي في فرنسا منذ عام 1978 حيث اختارها لتكون منفاه الاجباري، تفرغ خلالها لعمله الفني في مرسمه.في مسيرته المهنية والفنية الطويلة، مارس الصكار العمل الصحفي محررا وخطاطا ومصمما منذ عام 1955.
توفي في العاصمة الفرنسية باريس يوم الأحد 23 مارس/ آذار 2014 عن عمر ناهز الثمانين، تاركا ارثا من الاعمال الشعرية والفنية التي جعلت منه احد اهم فناني الخط العربي والزخرفة في العصر الحديث.
الشعر
نشر الصكار ثلاث دواوين، وترجمت بعض قصائده إلى الإنگليزية والفرنسية والألمانية والدانمركية والبلغارية، وهي:
أمطار، 1962
برتقالة في سَوْرة الماء، 1968
الأعمال الشعرية، ومجموعة شعرية باللغة الفرنسية، 1995
تكريمات
حصل على جائزة وزارة الإعلام العراقية لتصميم أحسن غلاف 1972. كما حصل الصكار على جوائز عدة، من ابرزها جائزة دار التراث المعماري تقديرا لتصميمه جداريات بوابة مكة.وحضي بتكريم معهد العالم العربي لبلوغه الثمانين في 17 مارس/ آذار. وقال جاك لانغ رئيس المعهد، ووزير الثقافة الفرنسي السابق، ان الصكار “يعد بجدارة احد أبرز ممثلي الخط العربي المعاصر” ، أبتكر الصكار قبل 40 عاماً “الأبجدية العربية المركزة”، التي هدف منها الى تطويع الحرف العربي ليتواءم مع تطورات الطباعية الإلكترونية. وبفضل هذا الابتكار بدأت أولى التطبيقات المعلوماتية التي مكنت مصممي أجهزة الكومبيوتر من تصميم النصوص العربية المتنوعة المستخدمة حاليا.
في الاحتفال التكريمي في معهد العالم العربي سأل الصكار أين يجد نفسه كمبدع، فأجاب: «أنا أقرب إلى الشعر، لكنّ هناك رأياً يقول إنني شاعر في خطّي وملوِّن في شعري”.
اما الفيلم الوثائقي ( شاعر القصبة) لمحمد توفيق فقد كتب عنه الناقد العراقي عدنان حسين احمد قائلا؛لاشك في أن الفيلم التسجيلي هو أداة لكشف الواقع كما هو عليه من خلال تسجيل الوقائع والأحداث والمنجزات الإبداعية في مختلف الحقول الأدبية والفنية والمعرفية. وبالرغم من تنوّع مضامين الفيلم التسجيلي، وتعدد وظائفه السياحية والدعائية والتعليمية والتوثيقية إلا أن ذلك لا يمنع الفيلم التسجيلي من أن يكون آسراً، وجذاباً، ومتوافراً على شرطه الإبداعي المتمثل في قدرته على ملامسة العاطفة الإنسانية، وتحريك المشاعر الإنسانية، وهز الوجدان الداخلي عبر خطاب بصري ” جمالي ” يعتمد في ثيمته الأساسية على توثيق المنجز الإبداعي لأناس استثنائيين خلفوا بصمات واضحة في الزمان والمكان والحدث الثقافي والفني. وددت الإشارة من خلال هذه المقدمة المقتضبة إلى أن محمد توفيق هو مخرج متمكن من أدواته الفنية، وقادر على تحقيق المتعة الفنية لمشاهديه، هذه المتعة المتأتية من قوة المادة المرصودة التي تتظافر فيها العناصر التقنية الأخرى من تصوير ومنتجة واستخدام فني دقيق للمؤثرات السمعية والبصرية. ولعل فيلم ” شاعر القصبة ” هو نموذج للأفلام التسجيلية الناجحة كونه مكتنز بجوانب فنية، ومعرفية، ونقدية، وإستيطيقية، فالفيلم الذي أعدّ المخرج فكرته، وجمع البيانات والمعلومات المتعلقة به، واختار مواقع التصوير والأماكن الدالة المعبرة، وحدد الموسيقى المصاحبة لمشاهد الفيلم كلها، لم يتعاطى مع الفنان محمد سعيد الصكار بوصفه خطاطاً مبتكراً ومتميزاً حسب، وإنما تعامل معه كفنان تشكيلي، وشاعر، وناقد، ومثقف فاعل في الحياة الثقافية عراقياً وعربياً وعالمياً. ويبدو أن المخرج محمد توفيق العارف بمهنته الإبداعية أراد أن يتوارى عن الأنظار، وأن يحضر من خلال الأسئلة الذكية التي أعدها للصكار، ومع ذلك فلم يُتِح لنا أن نسمع تلك الأسئلة المستفِزة، وإنما تخيلنا تلك الأسئلة المغرية من خلال استجابة الصكار للحديث الممتع عن جوانب مختلفة من تجربته الفنية والأدبية. أنا أعتقد أن المخرج، والصكار، الفنان الذي يتمحور حوله الفيلم، قد أحسنا صنعاً حينما اختارا ثلاث قصائد كانت بمثابة إطار للبنية الكلاسيكية على شكل بداية وذروة ونهاية، فكان الفيلم بالنتيجة شاعرياً في شكله ومضمونه. فبعد اللقطات المتفرقة التي انتقاها المخرج من متن الفيلم للإيحاء بالجو العائلي للشاعر، وطبيعة العلاقة التي تربطه بالأسرة برمتها، قدّم لنا المخرج الشاعر الصكار وهو يتلو على مشاهديه هذا النص الشعري الذي يدور في فلك الخط والحروف والكلمات. ” ورق الخط ممتلئ برذاذ الحروف / والحبر مكتنز بالنوايا ومعتصم بالسكوت / ورق الخط ممتلئ بالترقب / والقصبة تتلوى كأنثى تنوء برغبتها / وهنا وهناك مئات العيون تراقبه / والصمت يصرخ، واليد راقدة، والأصابع لا تستجيب / زمن يترنح بين الأصابع ينبؤني باغتراب جديد.” هذا المفتتح الشعري يحمل بين طياته نبوءة الاغتراب. فثمة بنية في هذا الفيلم التسجيلي، ولكن على المتلقي أن يجمع هذه الإشارات والدلالات المشتتة ليصنه منها شبكة من العلاقات الجديدة في ذهن المتلقي المتفاعل والمنفعل مع سير الأحداث وتطوراتها. من المؤكد أن المخرج قد سأل الصكار في مفتتح حديثه عن الومضة الأولى التي فجّرت في داخله كل هذا الولع الفني بالخط والتشكيل. فأجاب ” في عام 1945 أو 1946 حينما كنت طالباً في الصف الثاني الابتدائي في مدينة الخالص التي تقع على مسافة 50 كم شمال شرقي بغداد، شاهدت كلمة ” رانية ” مخطوطة على باب أحد الدكاكين بخط الرقعة وهو أبسط أنواع الخطوط. كان الباب مصنوعاً من حديد أكله الصدأ، وملوثاً بالغبار. هذه الكلمة بهرتني، وحفزتني لأن أكون خطاطاً. ” وقد أثمرت هذه العلاقة الروحية الآسرة الأخاذة منجزات كثيرة سنتوقف عندها على وفق السياق السردي العفوي الجميل في هذا الفيلم الذي تميز بكثافته، وعمقه، وخلوّه من أية وعورة أو فذلكة لغوية تُذكر. في مدينة الخالص بدأ الصكار أولى مراحله الفنية في الخط فشرع يخط الأرقام والميداليات للأطفال الفائزين في كرة القدم، تلك الشعبية التي لم تستدرجه إلى مضاربها شأنه شأن المأسورين بالقلق الإبداعي. ولكن عندما انتقل الصكار إلى شارع أبو الأسود الدؤولي في مدينة البصرة رأى بعضاً من الصبيان هناك يخطون على الشوارع الإسفلتية وجدران المدينة بالطباشير وبالفحم فأخذ يقلّد هؤلاء الصبية، وصادف أن يمر كل يوم شاب خطاط يصحح لهم الأخطاء التي يقعون فيها، وعندما يعودون مساءً إلى بيوتهم كانوا يخطون ما تعلموه من هذا الخطاط المجهول على الورق. وكان الصكار وحده يتوق لأن يقلّد كلمة ” رانية ” تلك المفردة الأولى التي سحرته، وغيّرت مجرى حياته تماماً. من تلك الحروف الخمسة الوامضة تكونت علاقة الصكار الغامضة بالخط والرسم، وربما الشعر لاحقاً. هذه هي البداية الحقيقية إذاً، ومنها انقطع الصكار لتثوير ملَكَته الفنية الثاوية. لقد كشف الصكار في هذا الفيلم عن سر غريب مفاده، وهو الخطاط الذي أصبح معروفاً، وصاحب براءة إختراع، لم يرَ طوال حياته أستاذاً في الخط يخط أمامه! يا ترى كيف أتقن الصكار قوانين الخط العربي، وشروطه؟ وكيف تجاوزها مطوراً إياها، ومكتشفاً لحروف جديدة نبعت من مخيلته المجنحة، ولم يك لها جذراً في الواقع الخطي؟ إن عدم رؤيته لخطاط أستاذ يخط أمامه أثار لديه العديد من المشكلات العويصة التي أسماها ” الوعورة الفنية والمهنية ” لأنه عندما يتناول القصبة، ويبدأ في بعملية الخط تصادفه الانحناءات الدقيقة لبعض الحروف العربية، وهذه الانحناءات لا يتمكن منها الخطاط ما لم يعرف درجة انحراف القصبة مع انحراف سلاميات الأصابع. وقد أسمى الصكار هذه الحركة بـ ” الفركة ” وهو مصطلح شائع يتداوله الخطاطون كثيراً. لقد اكتشف الصكار هذه ” الفركة ” بنفسه، وقد استغرقته الكثير من الجهد والوقت والأعصاب، بينما لو توافر خطاط أستاذ لاختصر عليه هذا الوقت المُضاع. ثمة إصرار عصامي، ومران يومي مستمر، وتقليد لكل الخطوط التي كان يراها مرسومة في كراسات الخطاطين الأئمة، هذا الضنك اليومي، هو الذي أفضى به إلى اجتهادات صارت مقرونة باسمه فقط. يقول الصكار لا تهمني طبيعة النصوص التي أخطها، سواء أكانت نصوصاً شعرية أو أحاديثاً نبوية شريف، أو آيات من القرآن الكريم، أو من الانجيل أو التوراة، المهم هو أن تتضمن قيماً إنسانية. لقد نجح المخرج محمد توفيق في أن يحرّض الصكار على الانتقال التلقائي السلس من مرحلة إلى أخرى لدرجة أنه غطى أبرز المحاور الأساسية في تجربته الفنية في الأقل. الصكار فنان وفي لأصدقائه، لذا فهو لم يقتصر الحديث عن تجربته فقط، وإنما تطرق إلى تجربة الفنان المرحوم هاشم الخطاط، كما أشار إلى تجربة الفنان البارع عماد الحسني الذي وصفه المتخصصون بأنه ” أحسن يد أمسكت قلماً في الخط الفارسي ” وأضاف الصكار بأنه كان محظوظاً لأنه حصل على نسخة أصلية من خط الحسني. وقد أرانا نموذجاً رائعاً لخطه يخلو من الزخرفة التي قد تفقد الخط بعضاً من هيبته ورونقه الفنيين. ثم توقف الصكار طويلاً عند الخطاط ذائع الصيت ابن البواب، وكشف لنا عن تحفة فنية بحوزته، وهي نسخة من المصحف الشريف كان البواب قد خطها بيده. وقد اقتنى الصكار هذه النسخة بثمن باهض. وأكد بأنه سعيد ومسرور بهذه النسخة التي يحبها كثيراً، وهذا الحب ليس متأتياً من كونها نسخة من القرآن الكريم حسب، بل لأنها نسخة مصورة تصويراً متقناً عن مصحف ابن البواب. وهي النسخة الوحيدة التي وصلتنا كاملة وسالمة عن ابن البواب ” القرن الرابع الهجري ” الذي يعد واحداً من عمالقة الخط العربي. ومن الناحية الفنية فقد أشار الصكار إلى الزخرفة المتقنة لهذه النسخة، فضلاً عن خطها المتوازن الذي لم يرتبك منذ بداية المصحف إلى نهايته. ثم أرانا الصكار صورة عن مصحف الخطاط الشهير ياقوت المستعصمي وهو آخر خطاطي بغداد الذين سلموا الخط العربي إلى الأتراك. ويبدو أن تركيز الصكار على ابن البواب لم يأت اعتباطاً، فابن البواب هو الذي ابتكر 13 خطاً عربياً لم يكن موجوداً من قبل في تاريخ الخط. والصكار نفسه ابتكر أيضاً أربعة خطوط غير موجودة من قبل، وهذه الخطوط هي ” الخط العراقي، والخط البصري وخط كوفي الخالص نسبة إلى بلدة الخالص التي رأى فيها كلمة ” رانية ” وتكريماً لهذه المدينة، والخط النباتي.” وقد تحدث الصكار طويلاً عن الظروف والمهيمنات التي شجعته على ابتكار هذه الخطوط الجديدة. كما تحدث بشكل مفصل عن ” أبجدية الصكار الطباعية ” وما عاناه من متاعب كثيرة استمرت على مدى سنتين قبل أن يحقق فرضيته التي شغلت المستشرقين وكل من كتب عن فرضية الحروف الطباعية العربية الموصولة التي تعاني من تعدد أشكال الحرف العربي الواحد الذي يختلف إذا جاء في أول الكلمة عنه في وسطها أو في آخرها. وحينما نال براءة الاختراع من العراق ولبنان، ثم سجلت هذه البراءة في إنكلترا وفرنسا، وجهت إليه التهمة بالانتماء إلى الماسونية وتشويه الحرف العربي. وسبب هذه التهمة معروفة للمقربين منه، إذ رفض الإنتماء بشكل قطعي إلى حزب البعث فبدأت الدسائس تُحاك ضده لكي تلف على رقبته حبل المشنقة. والغريب أن جمعية الخطاطين قدمت مذكرة موتورة، مرفقة بالوثائق والخطوط المزورة المنسوبة له، وعلى أساس هذه المذكرة أمر رئيس الجمهورية ” البكر آنذاك ” أن تُشكل لجنة لمحاكمته بحجة تشويه الحرف العربي. وعقدت اللجنة أربع جلسات متشنجة حاولت من خلالها أن تؤكد هذه الإتهامات الباطلة وأولها علاقته بالماسونية التي ليس علاقة علاقة بها لا من قريب أو بعيد ” والماسونية يُعاقب عليها بالإعدام في العراق ” ، ولا يعرف كيف رُبطت بموضوع الأبجدية، وأوشكوا أن يحيلوه إلى ” ساحة التحرير ” هذه الساحة التي ارتبطت في الذاكرة الجمعية للعراقيين بخونة الوطن والمتجسسين عليه، ولكن الحظ أسعفه عندما حضر المرحوم الشاعر شفيق الكمالي في آخر جلسات المحاكمة حيث عنّف أعضاء اللجنة، وقال لهم بالحرف الواحد ” كيف تسمحوا لأنفسكم وأنتم رجال أدب وثقافة أن تحاكموا الصكار بتهم بائسة من هذا النوع؟ ” عندما انتهت هذه القضية أراد الصكار أن يشكر الكمالي من باب الاعتراف بالجميل لأنه حرف التحقيق لصالحه، فقال له الصكار ” أشكرك يا أبا يعرب لأنك أنقذتني من قبضة هؤلاء ” فأمسك بذراعه بينما كان يسير معهم ” رمزي ” وقال ” أسكت محمد عندي عليك مذكرات لو أطلّعها ما ينبت على جلدك ريش!.” ومنذ ذلك الوقت ظل الصكار يفكر بكلمات شفيق الكماليالتي تعني أنه في السلطة الآن واستطاع إنقاذه، ولكنه عندما يغادر هذا المنصب قد يكون الصكار عرضة لنقمة الوزير الذي يأتي بعده؟ هكذا اختلطت الأمور في رأسه، وسكنه الخوف والقلق، فرأى ألا مفر له من مغادرة البلاد. ونتيجة لهذا الوضع النفسي المتأزم والخوف مما تخطط له الأجهزة الأمنية فقد أتلف الصكار كل الأفلام التي تتعلق بوثائق الأبجدية، كما وزع مكتبته التي كانت تضم خمسة آلاف كتاب أغلبها من المصادر العلمية والثقافية والفنية على أناس لا علاقة له بهم كي لا ينشد إلى مكانه ثانية. وخلال هذه الأزمة التي استمرت سنتين، وتحت هذا الضغط الشديد غادر الصكار العراق عام 1978، وهو يعيش منذ ذلك اليوم وحتى الآن في باريس. لقد نجح المخرج في إثارة هذه الأسئلة الشائكة المورقة التي حفزّت الصكار لأن يتحدث عن هواجسه الإبداعية الكثيرة بوصفه مبتكراً للخطوط العربية الأربعة التي أشرنا، كما تحدث عن محنة جماعية عانى منها أغلب العراقيين الرافضين لهيمنة الحزب الواحد، وهي لعنة الملاحقة والمطاردة العلنية ليل نهار لكل من يعترض على النهج التخريبي الأرعن الذي سحق البلاد والعباد معاً. ويبدو أن الصكار قد اختار قصيدة استثنائية تنسجم مع المشاعر الحقيقية للعراقيين النبلاء الذين يحتاجون إلى لغة ” خارج ما يحوي القاموس ” و ” ضد المنطق ” كي يكتبوا عما يجري في أرض النهرين. “مَن يمنحني لغة خارج ما يحوي القاموس / تسافر بي خارج حد الوعي وفوق مدار الأشياء / لغة لا تُفهم كي أكتب عما يجري بين النهرين وأربيل وسامراء / لا أسأل عن لغة القرآن أو الإنجيل أو التوراة / أسال عن لغة ضد المعنى ضد المنطق ضد الإدراك كي أكتب عما يجري في وطني / هل فيكم من يسعف هذا الشاعر بالكلمات؟”
المشاهد الخارجية ومغزى قصة المكان
يعتمد الفيلم التسجيلي، فضلاً عن الأحداث والشخوص، على استنطاق روح المكان بحيث يتحول هذا المكان إلى قصة تروي نفسها بنفسها، تماماً كالمكان الباريسي بالنسبة للصكار. فالصكار لم يأت إلى باريس سائحاً، بل جاءها مهاجراً، لائذاً، وخائفاً من التُهم التي كانت تلاحقه في العراق. فباريس هي مجموعة هائلة من التُحف والكنوز الفنية، إضافة إلى كونها ملتقىً للحضارات، وبؤرة للنشاطات الثقافية والفنية والفكرية. باريس بكلمات بسيطة هي متنفس كبير للحرية، والحرية هي مسألة أساسية وجوهرية بالنسبة للصكار لأنه كان خارجاً للتو من حصار روحي ونفسي، فكيف إذا كانت باريس بكل عظمتها تفتح له ذراعيها الحانيتين، وتضمه إلى صدرها الرحب. وباريس كعادتها تحتفي بالمبدعين الكبار من طراز الصكار. ويكفي أن نشير إلى إجابة الموظفة الفرنسية على سؤاله التالي: ” هل أستطيع أن أطلب تمديد إقامتي لثلاث سنوات أخرى؟ ” فقالت له ” لماذا لا تطلب عشر سنوات؟ ” فوجئ الصكار باقتراح الموظفة الفرنسية التي ردت على دهشته المفاجئة وذهوله الكبير بالقول ” إن فرنسا فخورة باستضافتك واستضافك أمثالك، قدّم طلباً بعشر سنوات، وأنا سأتابع الإجراءات القانونية ” هنا صعد الزخم العاطفي للصكار، وخنقته العبرة فانخرط ببكاء حار. هذه ذروة ثانية في الفيلم التسجيلي سببها جحود الشوفينيين في وطنه، وكرم الليبراليين المتفتحين في فرنسا. لهذه الأسباب يقول الصكار” إن باريس تشكل جزءاً من تكويني النفسي والوجداني والثقافي، وعندما أغيب عنها قليلاً يشدني الشوق إليها لأنني يشعر بحنين منقطع النظير لها.” وباريس هي هكذا دائماً، تحتضن المبدعين الكبار. لقد فتحت باريس آفاقاً فنية مدهشة للصكار، وهيأت له فرصاً ثمينة لتكوين علاقات ثقافية واسعة مع أدباء وفنانين من مختلف أنحاء العالم. من المشاهد الخارجية الجميلة لباريس والتي أدرجها المخرج في هذا الفيلم هي تجوال الصكار في حي الرسامين، ولقائه ببعض الفنانين العراقيين، ومروره بالقرب من قوس النصر، وتحديقه إلى الزوارق المحملة بالسواح القادمين إلى باريس، وتأمله في قسم الفرعونيات بمتحف اللوفر. في المشاهد الأخيرة من تصوير الفيلم حل الدكتور حسين كركوش ضيفاً على غير موعد مرتقب فاستغل محمد توفيق وجوده، وسجل من دون تحضيرات مسبقة لقاءه العفوي بالصكار، وقد أرانا الصكار من خلال أسئلة كركوش صوراً قديمة جمعته مع أدباء عراقيين وعرب لعل أهم هذه الصور تلك التي جمعته في ملتقيات ثقافية عدة ببعض الشعراء والروائيين المعروفين أمثال الجواهري والمخزومي ومحمود درويش ومحمد أركون ومحمد برادة وأدونيس ولطفي الخولي وغيرهم. وربما تكون المعلومة المفيدة لسياق الفيلم في هذا اللقاء العابر هي أن د. كركوش قد ذكّر الصكار بإفادته اللونية من مهنة أبيه وهي صباغة الأقمشة البيضاء والغزول بألوان مختلفة كالأحمر والأخضر والأزرق والبنفسجي، ثم نشرها على الحبال كي تجف، فتبدو مثل مهرجان لوني مثير لا يمكن أن يجده المرء حتى في ألوان الربيع. ثم تحدث في ختام اللقاء عن ولعه بتجليد مؤلفاته الشعرية وكتبه الفنية. وقال أيضاً أن الفلين يستهويه لأنه صعب، وهو يحب أن يجرب الأشياء الصعبة العصية، والفلين مادة حساسة جداً لا تستقبل كل الألوان، ولهذا فقد خط بعض الكلمات والجمل بالفضة أو الذهب. ومثلما بدأ الصكار الفيلم التسجيلي بقصيدة، وكثف ذروته بقصيدة ثانية معبرّة، فقد آثر أن ينهيه بقصيدة ثالثة شديدة التأثير، نقتبس منها الأبيات التالية.” صرت بالأمس عصفورة / قلت يا وطني على أي غصن أحط وفي أي دار / فلّم عباءته العسجدية ثم أشار / فألفيت عشي على كل دار./ صرت بالأمس نافذة / قلت يا وطني أطلَّ على الكون عبر ضلوعي وسافر على هدب عيني إليه /فلّم عباءته العسجدية ثم انحنى وعانقني فغفوت على ساعديه.”. ربما يكون هذا النوم الحلمي على ذراعي الوطن الغائب / الحاضر هو خير نهاية لهذا الفيلم التسجيلي الناجح والذي توافر على بنية درامية غير مقصودة تتبعناها على مدار 55 دقيقة وأعدنا في نهاية الأمر ترتيب العلامات والإشارات الأيقونية المبثوثة في متن الفيلم الذي قال فيه ” شاعر القصبة ” أشياء أخرى جديرة بالنقد والتقويم لما تنطوي عليه من أهمية فنية وإبداعية على صعيد الخط والتشكيل والشعر ودوامة الرعب في الحياة اليومية في العراق إبان سنوات حكم الحزب الواحد. ساهم في إنجاح هذا الفيلم كل من المصور ستيفان بيرسون، وتقني الصوت راسموس هايس، والمونتيير توماس ثيركيلسن، وجنين جواد، والموسيقار المبدع نصير شمه الذي شدتنا مقطوعاته الموسيقية على مدار الدقائق الخمس والخمسين، وأخذت بتلابيبنا وقلوبنا معاً. هذا فضلاً عن مخرج الفيلم وكاتب السيناريو محمد توفيق. وجدير ذكره أن توفيق أخرج وكتب سيناريوهات الأفلام التالية: “حرب أوكتوبر، صانعة الأجيال، مسيرة الاستسلام، يوميات مقاتل، أم علي، الطفل واللعبة، الناطور، تحديات ساعي البريد، سجل أنا عربي ” برنامج تلفزيوني، حوار مع الشاعر محمود درويش “، وصائد الأضواء.” كما عمل مساعد مخرج في فيلم ” بيوت في ذلك الزقاق ” للمخرج قاسم حول. و” الأسوار ” للمخرج محمد شكري جميل.