تونس – «القدس العربي » : لئن ازدهر عُمْرانُ الكتابة الروائية العربية خلال العشريتيْن الأخيرتيْن، وغدت الروايةُ تحتلّ صدارة فنون الإبداع نشراً وبيعاً وتَلَقياً فإنّ
سؤال النَّقد ظلَّ مُنْصبًّا على ما يريده القارئ من الرواية سواء على مستوى الشكل أم على مستوى المضمون، وهو أمرٌ كُتِبَت فيه دراسات كثيرةٌ، غير أن تواصلاً أدبيًّا مُجدِيًا بين الرواية وقارئها يفترضُ أيضًا أن يكون القارئ في مستوى انتظار الرواية منه، وهذا ما حَفَزَنا لأنْ نَطرحَ السؤال التالي: ماذا تريدُ الرواية العربية من قارئها؟ وهو سؤال توجّهنا به إلى مجموعة من الروائيين والنقاد العرب باحثين لديهم عن إجابة عنه تُعيدُ تدبيرَ فعلِ القراءةِ وتثمينَ دورِه الحضاريّ.
قارئ لا يُحابي
«أظن أنّ أهم ما تريده الرواية من قارئها هو أن يقرأها قراءة بيضاء، بعيداً عن المحاباة وعن الموقف الشخصي والحزبية أيا كان شكل التحزب»، هذا ما ذهب إليه الروائي الكويتي طالب الرفاعي، ويضيف قوله: «إنّ الرواية تريد من قارئها أن يحتكم فيها لقيمة الإبداع الفني الخالص. وينظر إلى مدى توفر العناصر الأساسية لجنس الكتابة الروائية، وعلى رأسها رسالة ومقولة الرواية الأساسيتين، بعيداً عن اسم الكاتب، وعما إذا كانت الرواية قد نالت جائزة، وبعيداً أيضاً عما إذا كانت الرواية مكتوبة بقلم نسائي أو رجالي. الرواية تريد من قارئها أن يلتفت لموضوعها ومدى اهتمامه بالواقع المحلي والعالمي والإنساني. فالعالم يعيش منفلتاً في تقليعاته وعنفه المجنون. وليس أقل من أن يكون الكاتب منتمياً لواقعه، وهذا لا يعني الكتابة بمسطرة الواقع المقيتة. بل يعني استخدام الصدق الفني معجوناً بالخيال والتخييل والفنتازيا لتشكيل واقع فني يوازي واقع الحياة لكنه يتفوق عليه بقدرته على الوقوف بوجه الظلم وإعلاء مبادئ الحرية والمحبة والحب والسلام. الرواية تريد من قارئها أن يقف عند كلّ ما يلامس ويؤثر في قلبه وفكره، وأن يتذكره».
وفي السياق ذاته يذهب الناقد والروائي المغربي إبراهيم الحجري إلى اعتبار أنّه في خضم هذا الزخم الإعلاميّ أصبحت الرواية اليوم محتاجة إلى قارئ جيد أقوى من أي فترة زمنية سابقة، «فقد باتت لجان الجوائز تحرك الذائقة وتوجهها، وساد نوع من التنميط في عملية انتقاء المقروء، وبات يخاف على النوع الروائي من مزالق هذا الوضع أكثر مما يخاف على باقي الأجناس الأخرى التي توارت درجة الاهتمام بها على مستوى الإعلام والمؤسسات الثقافية. هي في حاجة إلى أن ينصت إليها قارئها، ويتفاعل مع أسئلتها، ويستخلص القيم التي تبثها، ويناقش أطاريحها المتعددة، وفي حاجة إلى نقاد لا يتجهون إلى ما هو منمط، أو حائز على جوائز أو مصنف من قبل جهة ما، نقاد يلتفتون إلى الأصوات المختلفة التي تسبح ضد التيار السّائد، الذين يراكمون تجارب غنية أسلوبيا وموضوعيا في الغياب دون أن يلتفت إليهم أحد. هي في حاجة ماسة إلى قراء يبتعثون من سطورها حياة البشر الهائمة خلف الدمار، هي في حاجة إلى قراء لا ينصرفون إلى المتعة التي ترسخها فحسب، بل إلى مأساة البشر فيها، وفي حاجة إلى قراء ينظرون في مرآتها إلى المستقبل الغامض للبشرية، وفي حاجة إلى من يقرأها دون أن يقولها ما لا تحتمل. وفي حاجة فوق هذا كله، إلى قارئ مشبع بالوعي بمستوى الذوائق والحساسيّات، مسلّح بكلّ ما يجعله في غنى عمن يوجهه إلى نوع من النصوص بعينها دون أخرى».
قارئ ذو موقف
«علاقة الرواية بالقارئ لا تشبه علاقات الحب من طرف واحد، أي أنّ الروائيّ يلقي بروايته متجاهلاً القارئ ومتعالياً عليه، وإن اقتصرت على طرف بعينه فإنّها تفقد قدرتها على استكمال دورة حياتها بين العوالم الرحبة التي ترنو إليها، وبالتالي تولد متخشّبة لا روح فيها، ولا تدخل هذه العلاقة المفترضة في إطار الإملاء والتوجيه اللذين ينفّران القارئ منها، ويبقيانها متحجّرة في مياه راكدة، تتراكم عليها طبقات الغبار بينما تقبع على أرفف مكتبات بائسة هنا وهناك»، هذا ما يشدّد عليه الروائيّ السوريّ المقيم في بريطانيا هيثم حسين ويُضيف قوله: «الرواية تمضي إلى فضاءات مفتوحة، تسعى لبلورة القارئ الخاصّ، القارئ الذي تجد لديه الشغف لترجمتها إلى حياة كاملة، ومعايشة تفاصيلها، واقتفاء أثر شخصياتها في واقعه.
تبحث الرواية لدى القارئ عن الاهتمام، تريد تحفيزه وتحريضه واستفزازه ودفعه إلى التخلّي عن الحياد المزعوم أثناء قراءة العمل وبعده. أي تريد من القارئ أن يتغيّر بعد قراءته لها، ألّا يبقى كما كان قبلها، تسعى إلى تغييره بصيغة مّا، مهما كان ذاك التغيير بسيطاً أو صغيراً، لكنّه سيشكّل نقطة لتوسيع الدائرة المأمولة. الرواية تبحث عن قارئ عاشق، تبحث عن زعزعة ذاك الاستقرار المضلّل الذي قد يشعر به ذاك الملول في رحلته مع قراءة مّا يبقي عالمه هادئاً بعيداً عن أيّة تغييرات نفسيّة أو فكريّة. وربّما يتحوّل القارئ إلى مسار آخر، ويرغب عن القراءة بحجّة أنّه ما من جديد يثير لديه الفضول لأيّ اكتشاف متوقّع. أعتقد أنّ الرواية اليوم بصدد صدمة القارئ والإمعان في دفعه إلى اتّخاذ موقف تجاه القضايا التي تثيرها، تحرّض لديه رغبة البحث عمّا وراءها، تشعل لديه شرارة التنقيب عمّا تقدّمه، وهي في ظلّ واقع السرعة والاستهلاك تجاهد للمحافظة على القارئ الذي قد يقع تحت إغواء التسويق والدعاية والإعلان».
قارئ يُنتج المعنى
الروائية مصرية هويدا صالح تقول: «ماذا تريدُ الرواية من قارئها، سؤال يمكن الإجابة عنه حينما يعي القارئ المقولات الثقافية التي طرحتها نظريات التلقي. لم يعد القارئ في وعي هذه النظريات النقدية الحديثة مجرد مستمتع بالعمل، منتظر من الكاتب أن يلقنه مقولات النص الثقافية والجمالية، بل صار للقارئ دور جوهري في إنتاج دلالة النص، مما يسوغ مقولة: إن النص الذي لم يقرأ لم يكتب أصلاً، فعملية القراءة وإنتاج الدلالة يقوم بها القارئ الواعي بدوره والمؤمن بأن المباشرة في طرح الخطاب الثقافي من قبل الكاتب يُحسب على النص لا يحسب له. تريد الرواية من قارئها أن يقرأها بوعي يعتمد على درجات ومستويات حسب ثقافته وخلفيته المعرفية وقدرته على التأويل، فلا يكتفي بالقراءة الإسقاطية التي تعتمد على الاجترار والنمطية، ولا تركز على النص فحسبُ ولكنها تجعله معبراً نحو المؤلف والمجتمع، وتعامله على كونه وثيقة لإثبات قضايا شخصية واجتماعية، مثلما رأى تودروف، يُنتظر من القارئ مستوى يفوق الإسقاط ويفوق كذلك الشرح والتفسير، إنها القراءة الواعية القادرة على تقديم قراءة منتجة للمعنى، قادرة على أن تفك شفرات الرواية بناء على معطيات سياقاتها الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية، وبهذا الشكل تصير للقراءة قوة الكشف عما هو كامن في فراغات النص ولا مقوله؛ سعيا إلى سبر أغواره وفك ملغزاته. لذا تنتظر الرواية من القارئ أن يكون قادراً على أن يتجاوز ظاهر السرد وأحداثه إلى عميق معانيه الجمالية والثقافية؛ فيصير في هذه الحالة الأقدر على طرح دلالات متعددة للرواية، بل وعلى اقتراح أكثر من قراءة للرواية وأكثر من مدخل إليها مما يثري النصوص ويطيل من عمر وجودها في الذاكرة الإنسانية، فلا تقتصر الروايات على حكي الحكايات فقط، بل تصبح قادرة على حمل خطابات ثقافية وجمالية ودلالية متعددة.
القارئ النقدي
أما الروائي والناقد العراقي رسول محمد رسول فيقول: «إنّ الإبداع الروائي إنما هو كينونة تواصلية، وعليه فإنّي أعتقد أنّ أول ما تريده الرواية من قارئها هو فعل الإقبال عليها قراءةً حتى لا تبقى مجرد كينونة معزولة. وفي المرحلة الراهنة أرى أن العرب يمارسون هذا الفعل، فثمّة صحوة انفتاح على قراءة الرواية، لكنها تبقى صحوة نسبية. إن الإقبال على قراءة «رواية» له الجانب الفني الذي يضطلع به ناقد متخصص، وهو ما نسميه بالقراءة النقدية، وما هو مؤكَّد أن القارئ العام هو قارئ نقدي لطالما يخرج بموقف مما يقرأ، ولكن تبقى مسألة القراءة حرفة متخصّصة، وهي قراءة تعاني من مشكلات، لا أقول إن القراءة الفنيّة المتخصصة غائبة لكنها لا تحيط بكل المنتوج السردي الذي صار يسجل أرقاماً كبيرة في عالمنا العربي؛ فلو صدقنا إعلانات الجوائز العربية الكبرى والصغرى التي ترد إليها مئات النصوص الروائية، المنشورة وغير المنشورة، سنكون عند مشهد روائي ممتاز من الناحية الكمية، وما تفرزه هذه الجوائز من قوائم قصيرة سيكون خلاصة طيبة من الناحية الكيفية أو النوعية، لكن الكيفي أو النوعي ههنا يبقى رهين ذائقة لجان التحكيم، أما إلى أي مدى يمثل ذائقة القارئ العام؟ أعتقد أنها مسألة ذات إشكال. ما تريدهُ الرواية من قارئها أن يجد فيها ذاته ووجوده، فهو يسعى إلى البحث عن أناه وكينونته الذاتية والشخصية في المبنى الحكائي والسردي معاً. ما يريده القارئ ألّا تبقى الرواية غريبة عنه ولا يبقى غريباً عنها، إنه يريد تفتيت الفجوة بينهما وردمها».
تفكيك الرسائل المشفرة
أما الروائية التونسية منيرة درعاوي فتذهب إلى القول إنّ البحث عمّا تطلبه الرّواية من قارئها يبدو استفهاما مثيرا حول هذا الجنس الأدبيّ الأقرب إلى وجدان القارئ والذي ضرب بجذوره عميقا في تربة الذّائقة الأدبيّة لدى المتلقّين على تنوّع انتماءاتهم. وتضيف في هذا الغرض قولَها: «أجدني أقول كقارئة قبل أن أكون روائيّة إنّ النصّ الرّوائيّ ما هو إلاّ بنية كلّية تنغلق على مجاهيل من الرّؤى ومن الرّسائل المشفّرة التي قد لا تبتغي من قارئها أكثر من أن يحتويها مجتمعة وأن ينتبه إلى مراميها ومدلولاتها من خلال سطورها ومن خلف السّطور، فذلك العالم الذي يحتويه النصّ الرّوائيّ قد شيّد من لبنات ذاكرة الرّوائيّ وقُدّ من تفاعل ذاته مع محيطها بما في كليهما من مخزون معرفيّ مجرّد أو واقعيّ معيش، ولذلك كان لزاما على من يبتغي اجتياز عتبات ذلك العالم أن يحسن التّفريق بين الذّاتيّ في الرّواية وبين الموضوعيّ فيها، محاولا قدر وسعه أن يفصل بين ذات الكاتب والذّات السّاردة التي تولّت على عاتقها مهمّة إيصال ذلك الكمّ من الشّفرات البسيطة حينا والمركّبة حينا آخر. كما أجد أنّه من حقّ الرّواية أن ترفض ان تكون مرآة صقيلة تنقل واقعا ما كما هو، فهي ليست أبدا مجرّد «كاميرا» تلتقط المشهد وتعيد انتاجه كما هو، لذلك تريد الرّواية أن تكون حرّة، فتكون حينا مرآة مقعّرة أو محدّبة حينا آخر، فتنقل ما تلتقطه من مشاهد مَشوبا بما تراه هي من تخييل وتلاعب بالألفاظ وبمدلولاتها، فتكون وقتها مراهنة على العتمة من أجل نصيب أوفر من الضّوء أو مراهنة على الضّوء من أجل إنارة الحوالك التي قد تمرّ أمام القارئ دون أن يعيرها ما يلزم من الانتباه. ولاشكّ أنّه وإن كان للقراءة قصديّتها فإنّ للرّواية حقيقتها وربّما حقائقها التي لا تطلب من قارئها غير تماسّ صادق يمتزج فيه الحسّ والإحساس، ليُحسن التغلغل في مسارب النصّ بما يتيح له هتك أكثر ما يمكن من حجبه. كما أنّه لابدّ لهذا القارئ الغازي الذي يبتغي فتحا مبينا لمغاليق الرّواية ألاّ يروم حلولا يأتي بها النصّ لما قد يثيره من معضلات فليس النصّ الرّوائيّ بلسما شافيا لاعتلالات العصر، بقدر ما هو مشرط يفتح جراحا ويفقع تقرّحات قد يكون على القارئ وعلى القارئ وحده البحث لها عن مرهم ناجع للشّفاء»