السعد المنهالي –
هناك العشرات من الدلائل والمفاهيم والنتائج التي يمكن أن تترتب على عملية القراءة، التي يتميز بها الإنسان عن سائر المخلوقات. هناك عمليات قراءة تجري للحصول على معلومة مباشرة، وهناك قراءة تحدث لاستنتاج المعلومة، وهناك قراءات جمالية بقصد إحداث حالة متعة فكرية، وهناك قراءات ابتكارية تفتح مسارات جديدة في ذهن المتلقي.
ولأن القراءات مختلفة أو بالأصح المستويات التي تتعاطى مع النص المكتوب مختلفة، هناك أيضا نصوص وأعمال مكتوبة مختلفة. فالكاتب عندما يقدم نصا يدرك تماما نوعية القارئ الذي يقصده، فيتحدث معه بلغة يتوقع أنها قادرة على توصيل ما يريده سواء في إيصال معلومة أو دفعه لاستنتاجها أو الذهاب به ناحية المتعة، أو حثه للتفكير بشكل ابتكاري لإنتاج إبداع أصيل.. وهكذا؛ وعادة ما تقدم الأعمال الأدبية خاصة الرواية هذه الوجبات المتنوعة من القراءات، ولكن بنسب مختلفة في النص.
خلال الأسبوع الماضي لفت انتباهي قيام أحد المغردين في موقع التواصل الاجتماعي تويتر بتصوير صفحة من رواية، أرفقها بعبارة: «لم أكمل قراءتها لتفاهتها.. أين الفائدة منها؟». وصلت تعليقات المتابعين لتغريدته ما يزيد على 50 ردا، أيدوا جميعهم موقف المغرد وزادوا بمفردات مثل تفاهة، انحطاط، فساد، قلة أدب، خرابيط، ضحالة تفكير، كاتب قذر، طفاسة، خمة، سم ثقافي. لم ينته الأمر عند ذلك فقد اتهم صاحب الرواية بأسوأ ما يمكن أن يقال! المهم.. تم الحكم عليه بالإعدام، ولا أدري هل أقاموا عليه الحد أم لا، فقد ذهبت عنهم مستغربة من كم هذا التهجم وإطلاق الأحكام العدائية بسبب قراءة صفحة واحدة!
كانت الصفحة بلسان فتاة تتحدث عن حالة الطمث الأولى التي حدثت لها، وذلك في رواية تتألف من 262 صفحة لم يقرأها أحد من كل المعلقين، بمن فيهم صاحب التغريدة لأنه أخبرنا انه لم يتمكن من إكمال القراءة، وقد كانت ص 25، ما يعني أن هناك 237 صفحة لم تقرأ، أي ما يزيد عن 90 بالمئة من مجمل العمل. هذا بالنسبة لصاحب التغريدة، ناهيك عن المعلقين الذين قرأوا صفحة تشكل 0.38 بالمئة من مجمل العمل أي أقل من نصف بالمئة. حسنا.. قد يرى البعض أن هذه حرية تعبير، ولكن الحقيقة أن حرية التعبير مرتبطة بأدب اللفظ وصدقيته، وهذا ما لم يتوافر هنا لدليل المعطيات التي سبق ذكرها. رفض صاحب التغريدة إكمال قراءة الرواية لأن لا فائدة من عمل صدف أن فيه صفحة عن حالة الطمث الأولى، فقد كان القارئ يبحث عن معلومة، ولكنه لم يجد في ذلك شيئا يستحق التوقف عنده، وهذا ما اتفق عليه المعلقون الخمسون، لأنهم لم يجدوا معلومة تفيدهم في هذا (الكلام الفارغ)! ولكن لماذا أساسا توقف استيعاب القراء لما يقدمه النص مباشرة ولم يذهبوا في اتجاهات أخرى للقراءة؟ كالاستنتاجات النفسية لحالة الفتاة، أو اللغة الإبداعية التي وصفت الحالة دون استخدام كلمة خارجة عن الحياء، أو الذهاب أبعد من ذلك في اتجاه المعاناة والتجربة الإنسانية التي تمر بها المرأة في مرحلة التحول العمري، أو حتى إسقاط ذلك على حالة التحول التي تصيب الرجل! أو إعادة ابتكار لتجربة إنسانية يتحول فيها الفرد بسبب تغيرات لا يد له فيها إلى شخص آخر وإسقاط ذلك على الحياة بشكل عام؛ أو غيرها من الاتجاهات التي علينا الذهاب إليها والتي وبدون أدنى شك أراد كاتب النص التحليق بها في عقل القارئ! لم يكتب صاحب الرواية، أو بالأصح صاحبة الرواية هذا النص لهدف إعلام القارئ بطمث المرأة، فالكاتبة تدرك تماما ان الجميع يعرف ذلك منذ أن عرفت المرأة نفسها وعرفها الرجل، ولكنها أرادت قارئا يذهب أبعد من الكلمة المطبوعة، قارئا محلقا، متلقيا عميقا، قادرا على الفهم والاستنتاج وربط العلاقات والتذوق، قارئا حقيقيا.. وليس تقليديا يبحث عن معلومة مدرسية.