علي حسن الفواز
يفترض وجود مفهوم محدد للمجتمع المدني وجود مفهوم آخر لمجتمع حكومي او سلطوي او قبائلي، ورغم هذا التقابل فان هذين المفهومين يظلان محكومين بعوامل وجود انطولوجي يخضع فعلهما الى توصيف النظام الاجتماعي وطبائع الادارة والمعيشة والتكافل والسياق المهني الذي يؤطر طبائع هذه المجتمعات ويحدد هوياتها …
ولعل التاريخ القمعي والشمولي للمجتمع الحكومي والسلطوي كان هو الحافز الباعث على ضرورات البحث عن وسائل اخرى لانعاش المجتمع وتقوية قيمه المدنية ومفاهيم المواطنة والخدمة العامة، بما يسهم في تأمين مساحات جديدة وحرة للنشاط السياسي والاجتماعي والمهني، فضلا عن تأمين اشكال اخرى لمجتمعات افتراضية، لكنها منظمة وحرة ومؤطرة بسياقات عمل يمثل المجتمع المدني واحدا من تمظهراتها التي تسعى الى بناء ميدان للفعل الحر الديمقراطي الذي يحد من مهيمنات السلطة المركزية، والتوافر على منطلقات جديد لتقويم مقولات الفكر السياسي والتشريعات والقوانين التي تضعه في السياق التاريخي، وتمنح نشاطاته الشرعنة والفاعلية، لان التاريخ القمعي للدولة السياسية العربية/الاسلامية ظل تاريخ طرد مستمر لكل ما يهدد توصيفاتها وقوة مركزها العصابي/ السلطوي.. التحولات العميقة في المجتمعات الجديدة انعكست بشكل خطير ومعقد على مفهوم الدولة وعلى مفهوم البنية(المجتمعية ) ذاتها، اذ ان هذه الدولة تحولت الى بيئة سياسية مقيدة واصبحت جزءا من ظاهرة النظام السياسي، او ربما هي خاصيته المؤسساتية التي تكفل فاعلية الروح التطوعية المدعومة بمعايير غير رسمية، فضلا عن كونها تتمثل الى اشكال من التضامن والتعاون التي تعزز التحولات السياسية وسياقات شروطها وحساباتها الاقتصادية وحتى الثقافية، وان مفهوم البنية المجتمعية يضع المجتمع المدني امام اختبارات عديدة، اذ يكون هذا المجتمع هو جزء من الدولة، وليس جزءا من الحكومة، وهو هنا يلتزم بالقوانين العامة التي تحدد عمل منظمات المجتمع المدني، والمؤسسات غير الحكومية، لكنه بالمقابل غير خاضع الى الياتها القمعية التي تتجاوز على الطابع المجتمعي المدني التطوعي لعمل هذه المنظمات.
اسئلة المجتمع المدني..
لقد اثار المجتمع المدني الكثير من الاسئلة، خاصة فيما يتعلق بطبيعة عمله في مجتمع متعدد، ومعقد ويملك تاريخا سياسيا شديد الشمولية والمركزية، وقد عمد خلال تاريخه الى اقصاء أي عمل له صفة تتعارض وهيمنة المجتمع السياسي، اذ فقد هذا المجتمع الافتراضي عبر التاريخ صفته المغلقة عبر هيمنة البنية السياسية لنمطية المكان/ القلعة، والمكان/ القبيلة، ونمطية السلطة/الخلافة، ونمطية مؤسساتها التابعة. مثلما تعرض الى اقصاء مرعب من قبل طبائع الدولة المركزية، الدولة بمواصفاتها الانقلابية، العسكرية والايديولوجية، وصار جزءا من نظامها المهيمن، كما هو حال الكثير من النقابات والمنظمات الشبابية والطلابية والنسائية وغيرها.
فضلا عن ان مفهوم هذا المجتمع قد تعرض في سياق ترحيل المفاهيم وتلاقح الثقافات الى اختراقات بنيوية عميقة، جعلته خاضعا الى (سياق لغوي) عالمي معلوماتي واستهلاكي واستعراضي يرهن نشاطاته الى طبيعة المجتمعات المتحضرة التي تدرك اهمية العمل التطوعي، واهمية حماية الحياة الخاصة والنشاط العام من تدخل البيروقراطيات السياسية والادارية ، وهذا بطبيعة الحال كان اكثر المحفزات التي حرضت بعض النخب الثقافية للمطالبة بضرورة اعادة توصيف المجتمع المدني لكي يكون ميدانا للفعل الحر، وفي اطار تاكيد قيم الحريات العامة والحقوق الانسانية، وضمان وجود قوى مدنية ضاغطة على الحكومات لمراقبتها ومحاسبتها، باعتبار ان شرعنة الهيئات المدنية وحماية استقلاليتها هي جزء من القيم الدستورية التي تؤكد حقوق الحريات في تشكيل المنظمات المدنية، فضلا عن كونها تعبيرا عن قوى الحداثة التي اسهمت في تفكيك الاقتصاديات والسياسات المركزية.
وطبعا فان وجود مثل هذه المنظمات يعني وجود اليات ضاغطة للمزيد من الحماية المهنية والمدنية، والمزيد من الفعاليات الاقتصادية والثقافية التي تدفع باتجاه المزيد من الاقتصاديات الحرة، والمفاهيم الاكثر تعبيرا عن قيم الحرية والتنوير، والتوافر على الامكانيات العملياتية لفك الاشتباك المرعب ما بين مفهومي الدولة والرعية حسب مفهوم الدولة الثيوقراطية !! وكذلك بين مفهومي الحاكمية والمواطن ايضا في اطارها الخاضع لفلسفة المهيمن والمتبوع في سياقها التقليدي، باتجاه ايجاد فضاءات اكثر انسانية واكثر مهنية لنشوء نمط آخر من العلاقات( المجتمعية) الحية والحرة وغير الخاضعة لما يسمى بالمجتمع الحكومي.
ان تعريف المجتمع المدني في هذا السياق يعني هو المنظومة الواسعة النطاق من الاتحادات والهيئات والمنظمات التي تمثل شبكة اجتماعية واسعة تخضع الى نظم (غير حكومية ) و اكثر تحررا في وعي تأمين مناخات تسمح للحراك الاجتماعي والثقافي في تداول مفهوم الادارة والمعيش والعلوم والتجارة بنوع من الاستقلالية التي تؤكد الجوهر الوجودي لمفهوم الحرية في تعاطيه مع فلسفة الاختيار والارادة والمسؤولية.
هذه التحولات في اعادة انتاج (البنية المجتمعية) تؤشر تحولا جوهريا في التطور النوعي للمجتمعات، مثلما تؤشر حقيقية ما يهدد المفهوم التقليدي للدولة الشمولية والعقائد الشمولية، ولكن الحديث عن حقيقية المجتمع المدني في واقعنا الجديد رغم اهميته كمطلب حياتي وحتى ضرورة سياسية ظل مثارا لاشكالات عدة.
فهل يمكن ان يكون هذا الحديث واقعيا وقابلا للتأثير على نزعات تمركز السلطة؟ وهل يمكن لهذا الحديث ان يكون مكفولا بسياقات تشرعن له وجوده وتحميه، وتحدد هويته وسط اختلاط رؤى خلافية حول معطى المجتمع المدني في الدولة الجديدة المهددة اصلا بالكثير من ارث المركزيات السياسية والدينية والايديولوجية وحتى الشعبوية، والتي مازالت ترتاب من فكرة الدولة المدنية، والدولة العلمانية، ناهيك عن الدعوات لنشوء البيئات المؤسسية المدنية التي تعزز وجود الدولة الجديدة.
الدولة والمجتمع المدني..
الدولة الفاعلة تفترض وجود المجتمع الفاعل، والادوار التي تتبناها هذه الدولة تنعكس سلبا او ايجابا على المجتمع. وان وجود القوى المدنية خارج البيئة السياسية المركزية للدولة التقليدية يعني وجود القوة الاخلاقية والمادية والشرعية التي تؤمّن صيرورة هذا المجتمع كقوة فاعلة وضاغطة امام اعين الدولة الافتراسية والقمعية باعتبار ان هذا المجتمع غير التقليدي هو خروج عن نظام الرعوية المعروف في مجتمعاتنا وسلطة اولياء الامور كما في بعض الاعراف الفقهية ؟؟
ان تعريف المجتمع المدني كمجتمع تطوعي، يضع هذا المجتمع امام تطور كل الصراعات التي تواجه المجتمع الحديث، خاصة في تجارب (هشة) كالتجربة العراقية، اذ تبدو هذه الصراعات المركبة محمولة على صراعات تاريخية، واثنية، وذات مرجعيات سياسية اسهمت الى حد كبير في نشوء تراث صراعي لهذه المرجعيات، وبما يعوّق انتاج الدولة الجامعة ذاتها، ناهيك عن ان قوى الحداثة التي ظهرت في الدولة العراقية الحديثة منذ تشكلها عام 1921 لم تستطع ان تشكّل المتن الاجتماعي والثقافي الذي يضعها في جوهر فعل التغيير، وفي تحويل القوة الثقافية الى قوة ضاغطة ومؤثرة، وخارج(نظام)السلطة السياسية، او السلطة الاجتماعية والدينية، ناهيك عن ضعفها في تشكيل قوى ضاغطة اخرى في مجال تشكيل الاقتصاديات المفتوحة، والاسواق المفتوحة، والثقافات الحرة. هشاشة هذه القوى اصابت المجتمع المدني الافتراضي بسمات هذه الهشاشة، وحجمت حريته في التشكل ضمن سياق التحولات الكبرى التي عاشتها الحياة العراقية، وبالتالي فان هذا المجتمع ظل محدود الاثر وخاضع من جهة اخرى الى موجهات ايديولوجية معينة، خاصة في المجال المهني لتنظيمات العمال والفلاحين والطلاب والنساء، مقابل ضعف كبير جدا في مجال الحراك التجاري والثقافي والعلمي والديمقراطي..
هذا التوصيف اضعف التعريف الذي ينبغي ان يتمثل المجتمع المدني باعتباره(ميدانا مألوفا للروابط الوسيطة، يسهم في الحرية ويحدّ من سلطة المؤسسات المركزية) كما قال جون اهرنبرغ. وطبعا هذا الضعف انعكس على وظائف ومسؤوليات المنظمات التي تبني اهداف المجتمع وشيوع ادواره في حياتنا الجديدة..
ان ابسط شروط نشوء المجتمع المدني هي الاستقلالية والتطوعية، وهذان الشرطان ملتبسان عند نشوء فكرة المجتمع المدني، لاسباب تتعلق بطبيعة الجهات الداعمة للنشاطات الحيوية لمكونات هذا المجتمع اولا ، ولغياب التقاليد التي تكفل وجود هذا الدعم دون وجود استحقاقات وشروط تتعلق بمرجعيات هذه الجهات ثانيا، ولقدرة المؤسسات غير الحكومية في ان تتحول الى قوة تنموية حقيقية وفاعلة، لها برامج واهداف واضحة، ولها متبنيات اجتماعية واصلاحية خارج الخطاب المتداول في نمطية الاقتصاد العربي الواحدي والاستهلاكي ثالثا
وان تمتلك القدرات على اقناع الكثير من رؤوس الاموال لدعم برامجها التطوعية، خاصة فيما يتعلق بدعم برامج الطفولة والنساء وحماية الفئات الاكثر تعرضا لاخطار الحروب والجرائم والحرمان النفسي، وهو ما تعمل عليه الكثير من منظمات المجتمع المدني في العالم المتحضر، والذي ينطر الى هذا المجتمع باعتباره الاكثر تبنيا للاهداف الحمائية للمهام الانسانية التي تعاني منها المجتمعات التي تتعرض الى الاخطار. فضلا ان الكثير من نخبنا السياسية والبرلمانية، وحتى بعض شرائح المجتمع، ومنهم العاملين في منظمات المجتمع المدني لم يتعرفوا على تاريخ هذا المجتمع، والادوار التي لعبها من تاريخ مبكر، والذي ارتبط بحراك اجتماعي وسياسي، وقرين بثورات اجتماعية عمدت الى ترسيخه في اشتغالات العقل السياسي والعقل الثقافي، فضلا عن وسائل دعمه من قبل الدولة الديمقراطية، اذ ان الكثيرين لايعرفون شيئا اسمه (الشأن العام) الذي يخص البرامج الثقافية والانسانية، والذي له تخصيصات مالية ضمن ماهو مخصص في ميزانية الدولة لهذا الشأن مثلما هو موجود في كل ميزانيات الدولة المتحضرة، وان أي دعم ومن اية جهة حكومية سيثير الاقاويل والفتن والتشكيك بشرعية ومرجعية منظمات المجتمع المدني غير المسلح..
ان تردي وعي النهوض بمسؤوليات المجتمع المدني يعني الخضوع الى مهيمنات قوى اخرى ومنها بعض الاتجاهات الشعبية التي باتت اكثر فرضا وتأثيرا في التعاطي مع موضوعات الدولة والمجتمع والحق العام، مثلما نجد ان بعض الاجتهادات السياسية التي تنتمي الى شمولية الفكر القديم، والتي كثيرا ماتستعيد لاوعيها السياسي والايديولوجي وحتى الطائفي عبر الايهام بالتفسير التاريخي للنصوص والقوانين والاعراف والعلاقات العامة والحقوق المدنية بما فيه حق المواطنة والشراكة والحريات العامة بمافيها حرية التعبير وحرية الوصول الى المعلومات وحرية التظاهر وتشكيل المنظمات المدنية ..
لذا اعتقد ان هذا تقعيد هذا الحديث المفاهيمي في سياقاته الاجتماعية والقانونية والسياسية يحتاج الى توصيفات وتشريعات والى مؤسسات والى اشكال نامية من(الثقافات) الاجتماعية والى حواضن حقيقية تسهم في تمكين الانظمة الداعمة لسيرورات المجتمع المدني، بدءا من النظام التربوي والتعليمي والثقافي، وانتهاء بشرعنة البنية القانونية التي تدفع باتجاه تخليق اطر مؤسساتية داعمة لفاعلية وجود المجتمع المدني الذي تتكامل ادواره مع المجتمعات الموجودة في الحياة العراقية ومنها المجتمع الحكومي والقبائلي طبعا، وايجاد المصدات الكفيلة بحماية هذه العلائق من التحول الى صراعات عدوانية، تعيدنا الى انتاج اشكال معقدة من الديكتاتوريات السياسية والاجتماعية والطائفية.
ان وجود المجتمع المدني في اطاره المفهومي والاجرائي يعكس وجود تحولا ت فاعلة في المجتمع المعاصر، وتداول جديد لمفاهيم كنا نتعاطى مع مثالياتها، او ربما نتعاطى مع شروطها بمزاج حكومي تقليدي مثل الدولة والمؤسسات والحقوق المدنية والمواطنة والتنمية المستدامة والتمكين وغيرها من معطيات باتت تشكل الان في ظل الواقع الجديد مفردات حية في الخارطة السسيوثقافية للمجتمع الانساني ، وهذه المصطلحات رغم تاريخها التداولي فانها تنتمي اصلا الى صيغات تشريعية واخلاقية واجتماعية وضعها العقل الغربي في اطره القانونية والادارية والثقافية وبرامجه العامه التي تحتاج الى الدعم والاسناد منذ مئات السنين، لان هذا المجتمع في اطار هذه السياقات كان داعما حيا وفاعلا للدولة المدنية وللحريات والحقوق والخيارات والتعدديات وقيم السلم الاهلي، وربما هو تمظهر انساني لنظرياته الجديدة. ن التعرف على حقائق ما تحوزه قيم التحولات السياسية التي بدأت تعصف بالكثير من الدول خاصة في مرحلة مابعد احداث ايلول 2001 وضعتنا امام اختبارات فكرية وسياسية واجتماعية، ،ورغم ان هذه الحقائق بدت كونية وذات تأثيرات انعكست على الكثير من تداول المفاهيم المدنية، بمافيها مفاهيم الديمقراطية والحرية والدولة وقيم المجتمع المدني، الاّ انها اثارت الكثير من الالتباسات والمشاكل والصراعات، مثلما خلقت لها جبهات تروج للعنف السياسي وللارهاب المسلح، والكثير من المشككين بجدوى التعاطي الاغترابي مع قيم الدول التي بدأت بحروب واسعة النطاق على الكثير من الدول والمجتمعات. ازاء هذه المعطيات، كيف يجد العقل السياسي العراقي الجديد رؤيته في التعاطي مع هذه التحديات؟ وكيف يدرك السياسيون العراقيون الجدد اهمية اعادة تأهيل البنية السياسية، والبنية المجتمعية لتقبل افكار التحول في اطار الدولة الجديدة، وفي سياق اهمية تأصيل القوانين الجديدة التي تحمي الدولة اولا، وتعزز فاعلية مؤسساتها الدستورية، وتسهم في تمكين القوى المجتمعية من انتاج منظماتها المدنية التي تشكل اساس المجتمع المدني، وتعزز قوته لدفع العملية السياسية الى امام، والى ترصين القيم الديمقراطية والحقوقية في المجتمع.فهل ثمة افق حقيقي لكي يجد العقل السياسي العراقي مجاله الواسع للخروج من محنته؟ وهل ثمة ما يعزز دوره للانطلاق من سيرورة انتاج الدولة ذاتها باعتبارها مرجعية التشريع ومرجعية القمع في الان نفسه؟ وهل يمكن للقوى الاجتماعية، المنظمات/ الجمعيات / الاتحادات التي لاتملك القوة الفاعلة ولا التمويلات الستراتيجية الداعمة لفعل اجتماعي، من ان تؤمّن لعملها المدني التطوعي الاستمرارية؟ هذه الاسئلة هي جوهر الدور الحيوي الذي يمهد لصناعة فاعلة للمجتمع المدني، من خلال تمكين الادوار التي تلعبها قوى الضعط الاجتماعي وصنّاع الرأي العام كالنخب الثقافية والدينية (المعتدلة) باتجاه توسيع قاعدة الحوار الاجتماعي ودعم برامج التنمية المستدامة ودعم برامج التعليم الاساسي والثانوي خاصة في مجتمعات تعاني من الامية المركبة والتي تسمح لنمو مصادر المركزة والعصاب والسلطة الابوية والجنسية، مثلما هي الادوار التي يمكن ان يلعبها في تعزيز الوعي بتفعيل الثقافات المدنية وشيوعها عبر تفعيل دور الاتفاقيات الاطارية بين الدول ،والقوانين العالمية مثل رعاية الطفولة وتعزيز برامج المرأة والتعليم وحماية المواطنين خلال فترات الازمات والحروب وبرامج الصحة الوقائية والامراض الانتقالية وحماية التراث الانساني والمعرفي.
ولعلي اجد ان هذه الجوانب غير مستثمرة بشكل برامجي ومستقل، لان اغلبها مازال خاضعا لنشاطات حكومية وذات جوانب سياسية، وبالتالي فان الكثير من التمويلات التي تخصصها منظمات مثل اليونسكو واليونسيف ومنظمة الصحة العالمية وبرنامج الانماء التابع للامم المتحدة تذهب غالبا الى برامج ومشاريع وهمية وربما عشوائية وغير ذي جدوى..
اعتقد ان هناك اختلالا معقدا جعل الكثير من صانعي مكونات المجتمع المدني امام الية البحث عن دعم خارجي لنشاطاتها واعمالها،، رغم ان اغلب جهات الدعم تلك تنتمي الى جهات ومرجعيات يدخل موضوع دعم منظمات المجتمع المدني ضمن برامجها واهدافها وسياساتها، لكنه بالمقابل عرضّ عمل هذه المكونات و مشروعية عملها في بلدانها الى اشكالات معقدة، اذ اصطنع لها مآزق ثانوية اكثر خطورا ،لان هذا الدعم الخارجي خاضع لسياسات وسياقات معينة، فضلا عن كونه قد وضع هذه المكونات امام التباسات ومشاكل مع حسابات وحساسيات الدولة القمعية و الانقلابية المحمولة دائما على تمثل (نظرية المؤامرة).
كما ان غياب البرامج والسياسات الواضحة والستراتيجات الممنهجة اسهم في احداث فجوات تسللت عبرها قوى العنف الاجتماعي والديني، مستغلة الجهل الاجتماعي والتعليمي وتصاعد ازمات الفقر والخدمات الاجتماعية والاقتصادية ونظم العدالة والمعيش في تمرير خطابها الازموي.
تمويلات البنك الدولي مثلا لمنظمات المجتمع المدني كما تقول الاحصائيات تموّل حوالي 72% على اسس تشجيعية ، فضلا عن منح القروض ووضع الاليات التي تقدّم بموجبها منح هذه المنظمات عن طريق صناديق المنح ، اذ يوجد هناك خلال السنوات الاخيرة بحدود 100 صندوق اجتماعي في 60 بلدا وبنحو 4 مليارات دولار ، على اساس ان هذه الاموال تستخدم في قضايا اعادة الاعمار وتأمين مصادر الرعاية الاجتماعية وتحسين البيئة وادامة تكنلوجيا المعلومات وتنشيط الفعاليات الابداعية في مجالات الاعلام والثقافة …لا شك ان هذه المعلومات البنكية خاضعة لسياسات دقيقة وليست عشوائية ،ولكن وجود هذه الاموال وفي سياقات اجتماعية وبرامجية غير واضحة يسهم في نشوء ظواهر الفساد المالي وفي نشوء ظواهر المنظمات الوهمية ، وهذا بطبيعة الحال ينعكس سلبا على الواقع المجتمعي وعلى فكرة ادامة برامج المجتمع المدني فضلا عن عدم قيام الجهات الداعمة بتعزيز دعمها خارج سياسة الجدوى.
ان معطيات وجود فعلي لمفاهيم اجتماعية وثقافية في المجتمع تمثل ضرورة سياسية لتحرير الجسد الثقافي من امراض السطوة والقمع والاقصاء المسؤولة عن كل امراض التخلف الهزائم الحضارية ،وان تكريس ظاهرة المجتمع المدني كقوة ضاغطة في النضال الاجتماعي والسياسي تعني العمل الجاد نحو تحقيق شروط المواطنة الحقيقية وشيوع قيم الديمقراطية والاصلاح السياسي والعدالة الاجتماعية وتأهيل القوانين في ظل دساتير وطنية ثابتة تحدد اليات الحكم وحقوق الناس وتتحكم باليات العلاقة مابين المواطنين والسلطة . والذي يشكل الاساس لبناء قاعدة حياتية صالحة لانتاج فعل حضاري يكفل نماء الانسان والفكر وقيم العدالة والجمال، ويضع الدولة الجديدة امام الحاجة والضرورة التي تسهم في تعزيز قوة حضورها، لان قوة الدولة وقوة سلطات مؤسساتها الفاعلة بما فيها السلطات الحمائية، وبما يعني قوة المؤسسات الاجتماعية التي تتكامل ادوارها مع بنية الدولة وقتها.