– د. إبراهيم الحيدري
ان تشكيل الوعي الاجتماعي والهوية الدينية بمختلف رموزها وبخاصة العلاقة بين الانسان والله وبين الفرد والجماعة وبين العقيدة والمسؤولية وكذلك تشكيل صورة الرسول من خلال القرآن والسنة لم تحدث مرة واحدة، وانما تطورت مع الاحداث التي رافقت انتشار الاسلام في الامصار المختلفة. وقد ارتبطت هذه التطورات بوحدة الامة ووحدة الفكر الاسلامي واثرت بدورها على تطور علم الكلام، الذي ارتبط منذ نشأته الأولى بمشاكل المجتمع المتعدد الثقافات وازدهر في البصرة ثم في بغداد، مثلما اثرت على تطور المعارف والفلسفة والعلوم. وحسب محمد أركون فقد انتج التطور الفكري “انثروبولوجيا اسلامية” كما عند ابن هذيل العلاف وكذلك تطور منظومة الفكر المعتزلي, كأول حركة عقلانية في الاسلام.
وبالرغم من التشابه بين النزعة التنويرية التي ظهرت في اوروبا ابان عصر النهضة وبين النزعة التنويرية التي ظهرت عند مفكري العرب والمسلمين في العصر الوسيط، علينا التفريق بين تيارين فكريين ما زالا يتصارعان منذ القرون الوسطى حتى اليوم. يتمثل التيار الاول بالنزعة اللاهوتية المركزية، و الثاني بالنزعة الانسانية المتمركزة على الذات. وقد تجسد التيار الاول لدى المفكرين المسلمين واتخذ من النصوص الدينية المقدسة مرجعية له. اما الثاني فقد تجسد لدى الفلاسفة العرب والمسلمين واتخذ من افلاطون وارسطو طاليس مرجعية له. غير ان عصر النهضة الاوربية هو وحده الذي تجرأ على احداث قطيعة مع علم اللاهوت وحقق للفلسفة استقلاليتها الكاملة، في حين لم تستطع النزعة الانسانية العربية ـ الاسلامية تحقيق استقلاليتها كاملة من المرجعية الدينية. فالفلاسفة الكبار، كالفارابي وابن رشد بقيا خاضعين في نهاية المطاف الى المرجعية الدينية. ولذلك، كما يقول أركون، فان عصر التنوير الاوربي هو اول عصر حقق الاستقلالية الكاملة للعقل بالقياس الى النقل.
اشكالية العقل العربي
ان الاشكالية المركزية التي تتحكم بالفكر او العقل العربي هي عدم التعارض مع النصوص الدينية أي كانت. ولذلك علينا التفريق بين ثلاثة تيارات اساسية حددت هذه الاشكالية المركزية وهي:
اولا ـ التيار التقليدي الذي يقول بأولوية النقل على العقل.
ثانيا ـ التيار العقلاني الذي يقول بأولوية العقل من دون ان ينفي النقل او يتجرأ على اعلان الخروج عليه.
وثالثاـ التيار الصوفي الذي يقوم على التجربة الروحية والاستبطان الداخلي والتأويل الرمزي للنصوص.
يتمثل التيار الاول في جميع المبادئ الاسلامية التي تخضع للموقف التقليدي حيث يكون العقل بالنسبة لها اداة طيعة في خدمة النص، وهي بعيدة عن النزعة الانسانية، ولذلك ضعفت عندها الثقة بالإنسان وبفكرة الابداع والتقدم وبقيت في تدهور وانحطاط حتى القرن التاسع عشر واستيقاظ العرب والمسلمين على صدمة الحداثة الاوربية.
اما التيار الثاني الذي يقول بأولوية العقل على النقل فقد مثل حركة التنوير العربية ـ الاسلامية في العصر الوسيط، تلك الحركة التي تحتاج الى قراءة متأنية لمسيرة العقل والعقلانية في الاسلام وكيفية تشكل هذا العقل وتطوره وانشغالاته وتأثيره في تطور الحضارة العربية ـ الاسلامية وازدهارها. ففي عصر التنوير الاسلامي كان للعقل مكانة خاصة في الفكر الاسلامي لا مثيل لها في النصوص المتأخرة. فبالرغم من ان الصياغة اللغوية الخاصة بالقرآن تختلف كثيرا عن الصياغة التي جاءت بها الاحاديث في علم الكلام والفلسفة، فان مفهوم العقل في القرآن “هو عقلي تجريبي ” و “ليس عقلا باردا تأمليا او استدلاليا برهانيا”. وما جاء في القران من عبارات من نوع “افلا تنظرون” او “افلا تعقلون” لا تعني الدعوة الى استخدام العقل، او التحليل المفهومي، او المنطقي للظواهر، لان مثل هذا التحليل انما ظهر لاحقا، اي بعد دخول الفلسفة الاغريقية الى العالم الاسلامي، وهي المرحلة الثانية التي شهدت نشوء العقلانية وازدهارها، عندما دخل العقل الاسلامي ولأول مرة في مواجهة مباشرة مع العقل الفلسفي والعلمي الاغريقي، الذي انبثق من خلال الصراع مع المعرفة الاسطورية وضدها. وهو ما جسده فكر المعتزلة التحليلي المستقل الذي اسس البدايات الاولى لنشوء الفلسفة الاسلامية.(3)
المعتزلة والمسألة الدينية
ان صياغة المعتزلة للمسألة الدينية صياغة عقلانية واضحة لا تقتصر على وحدانية الله وحسب، بل تناولت النبوة والايمان والاخلاق، ولم يعد النقل محور المعرفة، وانما العقل، الذي شكل في الحقيقة، تحولا حاسما في تاريخ الفكر العربي الاسلامي حيث اخذ المرء مذاك يجروء على ان يخضع الوجود كله لمقاييس العقل واحكامه وينظم العالم الديني والارضي تنظيما عقليا. وقد ارتبط التوكيد على العقل بالتوكيد على الحرية، فلا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل، والعقل يفهم الواقع، والحرية تغيره اوتعيد تشكيلة وفقا للعقل.(4)
وهذا القول يعني مبدأ استقلال العقل، الذي يستطيع الانسان بموجبه التمييز بين الحق والباطل وبين الخير والشر.
ان اعطاء العقل هذه الاهمية الأولية، انما يعني ردا مباشرا على الذهنية التقليدية التي تقول بعجز الانسان عن بلوغ الحق والخير بعقله او بقدرته الانسانية وحدها. وبهذه الصيغة فصل المعتزلة بين الدين والسياسة، بالرغم من انهم رأوا بانه لا يوجد بين العقل والدين تناقض. وكان التوحيدي نموذجا للمثقف المتحرر من كل وصاية الذي عبر عن مساحة كبيرة عن الراي الحر وأسس “لحداثة” نشأت في مناخ عقلي فيه كثير من الحرية والجرأة، وكانت له قناعة تامة، بان استبداد السلطة ينبع في كثير من الاحيان من خنوع الناس وخضوعهم وخصوصا طبقة الكتاب الذين يمثلون انتلجنسيا ذلك العصر. وكان التوحيدي قد انتمى الى احدى الحركات السرية في بغداد وشارك في كتابة “رسائل اخوان الصفا” التي كانت محاولة تنويرية تهدف الى تغيير المجتمع بواسطة الثقافة والعلم والفلسفة. وبهذا مثلت رسائل اخوان الصفا، الصيغة المثالية للمثقف الفيلسوف الذي لم يتورط في خدمة السلاطين.
اما ابن حزم فقد رأى بان استخدام العقل في الامور الدنيوية بطريقة منطقية كفيل بحل اكبر المشكلات واعقدها وذلك لان الانسان امتاز على سائر المخلوقات بعقله، الذي بموجبه يستطيع طرد الهموم من تفكيره والسيطرة على انحراف الانسان هو الطريق القويم.
ويعد ابن مسكويه المتوفي عام 1030 فيلسوفا ومؤرخا كبيرا جمع معارف عديدة في علوم القرآن والحديث الى فلسفة ارسطو وافلاطون، اضافة الى معرفته بالتراث الادبي والفلسفي الايراني القديم. ويعتبر كتابه “تهذيب الاخلاق” الأهم بين كتبه لانه حصيلة سنوات طويلة من الدرس والبحث والتأمل، وشكل نظاما في البناء الفلسفي الرصين، الذي تمخض عن برنامج تربوي يؤسس لعلم اخلاق يقوم على الميتافيزيقيا وعلم الكون.
ان امثال هؤلاء الفلاسفة عملوا جاهدين على تعميق الفكر الانساني المتفتح على العلوم الدنيوية والعقلانية و توسيع دائرة نشرها عن طريق منهجية ادبية جمالية جذابة، مثلما فعل ابو حيان التوحيدي الذي سمي ” بفيلسوف الادباء واديب الفلاسفة” فهو لا يتحدث عن الفلسفة بشكل جاف، كما فعل ابن رشد او الفارابي، وانما تحدث بشكل حي ومنعش وباسلوب ادبي رفيع.(5)
اما التيار الثالث فهو التيار الصوفي الشعبوي الذي نشأ وتطور في تربة سياسية متمردة وكرد فعل روحي واجتماعي على الاوضاع الاجتماعية السائدة ومحاولة لتحدي السلطة، التي حرفته بضغوط سلطوية تسلطية وحولته الى زوايا وحلقات دروشة معزولة عن تيار الحياة الاجتماعية. وقد انتشر التصوف الشعبوي في العالم الاسلامي ونشأت فرق وانظمة وطرائق صوفية عدة، لكل منها طريقتها الخاصة في مجاهدة النفس. غير ان الانحطاط التدريجي في الفكر والممارسة، حول التصوف الفلسفي الى مجرد طقوس جامدة ممزوجة بكثير من البدع والشعوذة والخرافات.
وقد ظهر التأثير السلبي للدروشة بصورة واضحة في فترة الانحطاط الحضاري عندما اتخذت بعض الفرق الصوفية، مواقف سياسية ومصلحية مؤيدة للحكومات المستبدة، ومن ثم للسلطات الاستعمارية، كما حدث في نهاية الدولة العثمانية وكذلك في المغرب العربي.(6)
ان فشل حركة التنوير العربية ـ الاسلامية لا يرتبط بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية فحسب، وانما بانفصال النظرية عن الممارسة العملية التي حملتها الطبقة الوسطى والمثقفة التي كان من المفروض ان تحمل على اكتافها مبادئ التنوير والعقلانية وتواصل مسيرتها بدون هوادة او كلل، ولكنها حالما وصلت الى السلطة،كما حدث في زمن المأمون، تنكرت لمبادئها وافكارها الثورية، واخذت تقمع بدورها خصومها وما تحمله من مبادئ وما قالته في خطبها وما دونته في كتبها. وكان محمد بن عبد الملك الزيات، الذي قال بافكار المعتزلة وتبنى مقولاتهم، انقلب انقلابا كبيرا عندما وصل الى السلطة وتحول الى جلاد مستبد لم تعرف الخلافة مثيلا له.(7) ويعود ذلك الى ان العقل ظل ايمانا ينطلق من مقدمات شرعية لا شك فيها، بمعنى انه ظل اسطوريا وبعيدا عن التجربة والممارسة العملية و التساؤل المستمر.( 8)
من تمنطق فقذ تزندق !
ان انتقال الحضارة العربية ـ الاسلامية من المشرق الى المغرب والاندلس، الى جانب العوامل الاخرى التي تحدثنا عنها، ساعد على أفول النزعة الانسانية والعقلانية وتغير المواقف الفكرية والفلسفية، وبخاصة بعد الانتكاسة التي واجهتها الفلسفة العقلانية بعد هجوم الغزالي في كتابه ” تهافت الفلاسفة ” على دور العقل والعقلانية في التراث الاسلامي وسيطرة النص الجامد وتأصيله وكذلك سيطرة التيار اللاعقلاني الذي كان من شأنه تحجيم قيمة العقل والعقلانية واعادة الاعتبار الى المنطق الارسطي الذي تم تجاوزه وترجيح الموقف الديني الذي يرى بان العقل قاصر على الاستقلال الفكري ولا بد له ان يكون خادما للنص الديني الذي لا يقبل النقاش والنقد، لانه يمثل الوحي، وانتشرت مقولة السيوطي “من تمنطق فقد تزندق”، فالمنطق يؤدي الى تحريك الفكر والشك والتفكيرالفلسفي والنقد وهو ما يؤدي الى الكفر والالحاد.
كما ان اقفال ابواب التفكير العقلاني النقدي وكذلك القياس والاجتهاد، ادخل الامة في مأزق حضاري وحول الفقه الى اداة مدجنة بيد فقهاء البلاط ووعاظ السلاطين. وهكذا توقفت مغامرة العقل الاسلامي في مواصلة تحدي الظروف والشروط التي هيمنت على المجتمع انذاك، مما فسح المجال للطاعة العمياء والرضوخ، الذي رسخ الوعي الاسطوري وسهل الانحدار نحو عصر التخلف والظلام.
المصادر :
ابراهيم الحيدري، النقد بين الحداثة وما بعد الحداثة،دار الساقي، بيروت 2012
ابراهيم الحيدري، صورة الشرق في عيون الغرب، دار الساقي، بيروت 1996
محمد اركون، نزعة الانسنة في الفكر العربي/ دار الساقي، بيروت 1989
محي الدين اللاذقاني، آباء الحداثة، لندن 1996