صادق الطائي / لندن –
ضيفت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الكاتب الروائي والصحفي العراقي زهير الجزائري في امسية ثقافية يوم الاربعاء 29 نيسان / ابريل الماضي تحدث فيها عن اخر اصداراته ( النجف المدينة والذاكرة ) الذي صدر مؤخرا عن دار المدى – بغداد .
الوجه الاخر للمدينة
اختار الاستاذ الجزائري لرحلته في محاضرة مؤسسة الحوار الانساني ان تكون عبر الصور ، اذ عرض صورا فوتوغرافية كان قد ضمنها في كتابه المحتفى به لتكون مدخلا للموضوع او لجانب من ذاكرته تجاه مدينته ، كما ذكر في البدء ان ( النجف ؛الذاكرة والمدينة ) يعد كتابا سرديا عن سيرته الذاتية ويمثل الحلقة الرابعة في هذه السلسة بعد (مذكرات شاهد حرب) عن فترة وجوده في بيروت اثناء الحرب اللبنانية ، و(اوراق جبلية) عن فترة وجوده في كردستان اثناء التمرد الكردي في ثمانينات القرن العشرين في حركة الانصار الشيوعية ، ثم (حرب العاجز)عن عودته للعراق بعد ثلاثين عاما في المنافي، ثم (النجف الذاكرة والمدينة) وهوجزء من سيرته تناول فيه حياته عندما كان يعيش
في مدينة النجف في الاربعينات والخمسينات الى بداية الستينات تقريبا.
وفي كتابه الاخير يحاول الجزائري ان يقدم للقاريء الوجه الاخر لمدينة النجف الاشرف ، فقد عرف وجهها الاول القائم على انها مدينة مقدسة تحتضن ضريح الامام علي بن ابي طالب (رض) كما انها تضم اكبر مقبرة في الشرق هي مقبرة وادي السلام ، وبذلك فهي بالنسبة للمتلقي مدينة قائمة على الضريح المقدس وزيارة القبور ، الا ان الجزائري يقدم لنا الوجه الاجتماعي والثقافي والسياسي للمدينة في حقبة زمنية كانت حبلى بالاحداث ، ففي عقدي الخمسينات والستينات كانت مدينة النجف تمور بحركات سياسية وثقافية كادت ان تزلزل بنائها الاجتماعي وهذا ما حاول الكتاب تقديمه عبر جدل السيرة بالحدث العام وتداعيته على المجتمع النجفي.
بداية الرحلة
لابد لمن يتحدث عن مدينة النجف ان تكون بدايته من قلبها النابض الذي تلتئم المدينة حوله ، ونقصد المرقد المقدس وما يمثله من اهمية للمدينة ليس على الصعيد الديني فقط وانما وكما اشار الجزائري على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي ، اذ كان صحن المشهد العلوي مدرسة كبيرة لتلقي العلوم الشرعية ( الحوزة ) ، كما انه ملتقى الشخصيات الهامة في المدينة كرجال الدين او اي زائر مهم يزور المدينة كما عرض في بعض الصور لزيارة الملك فيصل الثاني والامير عبد الاله ورئيس الوزراء نوري السعيد للنجف والتقائهم بمراجع النجف( سيد محسن الحكيم والشيخ عبد الكريم الجزائري) للتحدث في حلول تخرج المدينة من التوتر الذي كانت تعانيه بعد الاضطرابات الهائلة التي شهدتها المدينة على اثر المظاهرات المساندة لجمهورية مصر أبان العدوان الثلاثي عام 1956 ، اذ قتلت الشرطة بعض المتظاهرين حينئذ مما اشعل غضب الشبان الثوريين في المدينة واجج موجة من المظاهرات العنيفة التي اخذت تجول المدينة وتسيطر عليها، حتى انها اكتسحت المظهر الديني في الصحن او في العزاء الحسيني الذي اصبح يحمل مظهرا سياسيا اكثر من المظهر الديني المعتاد .كما اشار الجزائري الى مكانة المرقد لدى كل النجفيين سواء كانوا رجال دين او علمانيين ، فمن المعروف ان نجف الخمسينات اصبحت احد اهم معاقل الحركة الماركسية في العراق ، حتى ان تنظيم الحزب الشيوعي امتد الى كبرى بيوتات العلماء في النجف كآل الحكيم وآل بحر العلوم وآل الصدر وآل كاشف الغطاء وآل الجواهري وآل الجزائري ، حيث خرج من هذه البيوتات قيادات مهمة في الحركة الماركسية العراقية ، واكد الاستاذ زهير الجزائري ان حتى الماركسيين عندما كانوا يدخلون المشهد العلوي فانهم كانوا يؤدون اكثر التحيات احتراما للثوري الراقد في مدينتهم او للرمز اليساري في التاريخ الاسلامي الممثل بالامام علي بن ابي طالب ( رض).
صراع الاحزاب في النجف
يذكر الاستاذ زهير الجزائري ان النجف على عكس ماتبدو عليه للناظر غير العارف ، فهي تبدو مدينة محافظة تقليدية ، الا ان تحت هذا القناع كان التمرد ينمو في مجالسها ومقاهيها وسراديبها ، وكانت كل الاحزاب العراقية ممثلة وموجودة في النجف فعلاوة على حزبي الاستقلال القومي والوطني الديمقراطي اليساري وهما حزبان علنيان ، كان يوجد تحت الارض في الاربعينات وماتلاها الحزب الشيوعي وحركة القوميين العرب وحزب البعث ، وكانت الصراعات بين هذه الاحزاب والحركات تتناوب بين التفاعل والجدل السلمي والعراك والقتال الدموي ، كما ان من المفارقة ارتباط التوجهات القومية واليسارية بالبنية القبلية للمدينة ، اذ من المعروف ان النجف تتوزعها قبيلتين هما الاكبر والابرز في المدينة هما آلبو عامر آلبو كلل ، فبينما نجد القبيلة الاولى تحمست للتيار اليساري وحمته ، توجهت القبيلة الثانية الى التيار القومي والتزمته تجاه اعدائه الايديولوجيين والقبليين.
الحداثة والتراث
كما تطرق الاستاذ الجزائري الى جانب مهم في حياة مدينة النجف ، وهو الصراع بين الحداثة والتقليدية في الجانب الثقافي ، فبينما كانت المدينة بوجهها الرسمي المتمثل بالمدارس الدينية وسطوة علماء الدين اهم حراس التراث والتقليدية في الادب والثقافة كان يوجد في المدينة جيل متمرد من الكتاب والشعراء مثلوا جيل الحداثة في المدينة وكونوا فيما بعد مجموعة النجف من ادباء الستينات، ومنهم الكاتب ود.عبدالاله الصائغ والشاعر عبد الامير الحصيري وحميد المطبعي والشاعر حميد سعيد والشاعر سامي مهدي ( رغم انهما من مدينة الحلة ) والقاص موسى كريدي وغيرهم ، وقد تجمع هذا الجيل المتمرد في مجلة الكلمة التي كانت تصدر في مديتة النجف والتي مثلت ملمحا حداثويا في المشهد العراقي ككل ، فعلى سبيل المثال هي اول مجلة عراقية تنشر عددا خاصا يحوي ملفا عن قصيدة النثر في نهاية الستينات حوى نماذج شعرية ودراسات نقدية عن قصيدة النثر التي لم يكن معترفا بها في العراق، كما اشار الاستاذ الجزائري الى الصراعات التي كانت محتدمة بين مناصري النمط القديم التقليدي من الشعر والادب وبين جيل الشباب من الحداثويين حتى ان هذا الصراع امتد في نهاية الستينات الى منابر الجوامع في النجف التي اخذت تشتمهم وتحرض الناس عليهم بصفتهم (كفرة وجوديين فاسقين اخلاقيا لايجوز التعامل معهم).
هندسة المدينة وبنائها الاجتماعي
اشار الاستاذ زهير في محاضرته الى ان عمارة النجف كانت تمتاز بخصوصية ، فبالرغم من تشابه عمارتها مع المدن العراقية كبغداد والبصرة والموصل الا ان لها خصوصية المدينة الصحراوية المنغلقة على نفسها وهذا ما نلاحظه من ازقتها الضيقة وبيوتها المتلاصقة المغلقة تجاه الخارج والمنفتحة على الداخل والتي تلتقي مع بعضها في عدة نقاط منها الشناشيل الخشبية المزخرفة المتقابلة والمتلاصقة والابواب القريبة من بعضها البعض والسراديب المتصلة ببعض عن طريق قنوات هوائية وظيفتها التبريد وللسردايب اهمية كبرى في حياة المدينة وجوها اللاهب ، حيث تقضي العائلة ساعات الظهيرة في السرداب وتمارس كل تفاصيل حياتها اليومية من اكل او نوم او لقاءات ، كما لعبت هذه السراديب دورا مهما كمسارب لهروب المتمردين السياسين طوال تاريخ المدينة الحافل بالاضطرابات ، واشار الى ان ابار الماء الموجودة عادة في بيوت النجف والمرتبطة ببعضها كان لها دورا اخرا كممر لتهريب الاشخاص من مكان الى اخر وهذا ماحدث ابان ثورة النجف عام 1918 ، اذ تسلل الثوار من بئر الى اخر حتى وصلوا الى مركز الحامية الانجليزية في وسط المدينة وقتلوا حاكمها العسكري النقيب مارشال دون ان ينتبه حراسه الواقفون على باب الحامية .
واختتم الاستاذ زهير الجزائري رحلته مع الذاكرة ومع مدينته قائلا ان هذا الكتاب هو مشروع تحدى به المنفى وما بفعله من تآكل في الذاكرة ،فقد كان دائم التمرين لذاكرته باللعب معها لعبة التذكر وبناء المدينة في المخيلة ومحاولة ترميمها باستمرار والمحافظة عليها نابظة كطريقة دفاعية تجاه ما يدمره المنفى من ذاكرتنا.