صادق الطائي –
استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 27 ايار 2015 المخرج والممثل العراقي الاستاذ جمال امين في امسية سينمائية عرض وناقش فيها الفيلم الوثائقي ( أنس بغداد ) الذي رصد حياة كتاب يهود عراقيين يعيشون في اسرائيل وسط العنصرية تجاههم، وتذكرهم مسألة تهجيرهم من العراق، الفيلم من اخراج المخرج السويسري العراقي سمير جمال الدين. والاستاذ جمال
امين مخرج وممثل سينمائي ، حصل على دبلوم الاخراج السينمائي عام1981 في بغداد تنقل بين العراق والكويت والاردن والدانمارك عمل الكثير من البرامج والافلام الوثائقيه في هذه الدول.
ويرصد الفيلم ذكريات وآراء يطرحها ثلاثة كتاب من العراقيين اليهود المعروفين، من الجيل الأول الذي هاجر الى إسرائيل في بداية الخمسينات، وهم شمعون بلاص وسامي ميخائيل وسمير نقاش، وإلى جانبهم يتحدث في الفيلم موسى حوري، تاجر العقارات السابق، وأيلا حبيبة شوعات، وهي مختصة في السينما الإسرائيلية ومن الجيل الثاني للمهاجرين العراقيين.
وقد شارك صناع الفيلم في العديد من المهرجانات وحاز على اهتمام واسع من المتلقين وذلك لحيوية موضوعه ولندرة المناقشات حول الافكار الاشكالية التي طرحها الفيلم وبالاخص موضوع الهوية وصراعاتها بالنسية لليهود العراقيين في اسرائيل الذين توزعوا بين وطنين الاول عدو الثاني كما اشار بعض شخصيات الفيلم .
لقد تحدثت شخصيات الفيلم من الجيل الاول باللغة العربية ( اربعة شخصيات ) ، وهي اللغة التي فضلوا التعبير بها عن انفسهم اما الشخصية الخامسة من الجيل الثاني فقد تحدثت بالانجليزية رغم تمكنها من فهم اللغة العربية الا انها لا تستطيع التعبير عن افكارها بشكل جيد بها ففضلت الحديث باللغة الانجليزية ، من ذلك يتضح مدى عمق الهوية العراقية في نفوس اليهود المهاجرين رغم مرور نصف قرن على هجرتهم من وطنهم العراق ، وقد روى المتحدثون ما وصفوه بأعمال “تهجير” اليهود العراقيين في اربعينات وبداية خمسينات القرن الماضي وادوارهم الوطنية في احزاب اليسار في اربعينات القرن العشرين ومناهظتهم للبريطانين في العراق وللحكومات القمعية وغياب العدالة الاجتماعية من وجهة نظرهم وتذكروا حوادث صدامهم مع قوات الشرطة التي كان يستعين بها النظام الحاكم لقمع المتظاهرين والتكاتف الذي كان يتمثل في تلاحم كل طوائف وفئات الشعب العراقي دون تمييز على اساس الدين او العرق او الطائفة بوجه هذا القمع ، وقد تم التركيز في الفيلم على ما عُرف بحادثة “الفرهود” عام 1941، وكانت برأيهم اول الاحداث العنيفة والدموية التي هدفت الى “التهجير القسري” لليهود العراقيين، ومنهم من يرجع الحادثة لارتباط حكومة رشيد عالي الكيلاني بالنظام النازي، والدور الذي اضطلعت به إذاعة برلين الناطقة بالعربية في “التحريض” على اليهود العراقيين. ويتذكر اليهود العراقيون حادثة إلقاء القنابل في أماكن تواجدهم واماكن عبادتهم في بغداد ، ويلفت بعضهم ان “الترهيب” كان “بالتواطؤ بين الحكومة العراقية والمنظمات الصهيونية”، مشيرين الى صدور بيانات آنذاك تدعو اليهود الى الهجرة، وإلى قرار الحكومة العراقية المتزامن عام 1950، والذي اقترح “إسقاط الجنسية” عمن يرغب بذلك من اليهود العراقيين و”تسهيل سفرهم الى اسرائيل”.
ثم ينتقل المتحدثون الى مأساة حياتهم بعد الانتقال الى اسرائيل حيث يذكرون ان إسرائيل كانت بالنسبة لهم “المنفى” ، الذي اجبروا بطريقة ما للجوء اليه بسبب تهديد حياتهم هم وعوائلم في العراق ، و لولا هذه التهديدات لما فكر احد من الطائفة اليهودية بمغادرة وطنه، ثم بينوا كيف انهم لم يستطيعوا ولسنوات التأقلم مع الثقافة والحياة في الدولة العبرية ، لانها ثقافة ومجتمع وقيم غريبة عنهم ، وقد اصبحوا بين مطرقة الانقطاع عن وطنهم الاصلي وسندان الغربة في مجتمع لا يستطيعون التأقلم والتعايش معه .
وقد ظل الكتاب الثلاثة ( سامي ميخائيل وشمعون بلاص وسمير نقاش ) في بداية حياتهم الادبية في اسرائيل مصرين على الكتابة باللغة العربية التي يعتبرونها لغتهم الام ، لكن وبعد مرور سنوات ، اضطر سامي ميخائيل وشمعون بلاص الى التحول لكتابة اعمالهم باللغة العبرية نتيجة لقناعتهم بان هذا المجتمع اصبح وطنهم الجديد وان كان هذا الامر قد قبل على مضض ، بينما ظل سمير نقاش حتى وفاته يكتب اعماله الروائية بلغته الاصلية العربية ،وإذا كان بعضهم كتب بالعبرية، ولقيت كتبه نجاحاً كبيراً في المجتمع الاسرائيلي، مثل سامي ميخائيل، لكن الحسرة لم تفارق الكاتب سمير نقاش الذي لم يكتب بغير العربية، فكتبه لم تترجم الى العبرية ليقرأها متحدثوها، كما لقيت “الرفض” من دور النشر العربية كون كاتبها مقيماً في دولة “الاعداء”، كما يقول.
كما تطرق موسى حوري اليساري العراقي الى نشاط اليهود اليساريين في اسرائيل وانظمامهم الى الحزب الشيوعي الذي كان يضم شخصيات عربية واسرائيلية وكان من ضمن قيادته شخصيات مناضلة مهمة مثل الكاتب الفلسطيني اميل حبيبي والشاعرين سميح القاسم ومحود درويش وغيرهم من الشخصيات المناضلة وكان اليهود العراقيون عادة يعتبرون اليسار اقرب لتمثيلهم نتيجة النظرة العنصرية التي طبعت سلوك اليمين الاسرائيلي المتحدر من يهود غربيين عادة ، وقد كان التمييز واضحا في سلوك اليهود الغربيين تجاه اليهود العرب وتتحدث شخصيات الفيلم عن ظروف الهجرة الصعبة التي تعرضوا لها، والمعاملة “العنصرية” التي كانت تنتظرهم في اسرائيل، ويلفت احدهم الى انهم استقبلوا في مطار بن غوريون برش مبيدات “دي دي تي” (وهي مبيديات حشرية قوية جداً وممنوعة في دول أوروبية)، ويقول “أحسسنا أنفسنا وكأننا حشرات”. ويوضح الفيلم ومن خلال حديث شخصياته عن علاقتهم بالفلسطينيين، حيث نرى في الفيلم أن الكتاب العراقيين اليهود كانوا ً مع الفلسطينيين، وساعدوا السياسة الفلسطينية.
ويبقى الاحساس بالالم والغصة سمة حديث شخصيات الفيلم حتى الجيل الثاني منهم ، والمفارقة القائمة على صراع هوياتهم هو الذي يرسم تفاصيل ايامهم ، والرغبة الاكبر والحلم الذي يراودهم هو رؤية بغداد ونهر دجلة وشارع الرشيد ومناطق سكناهم التي هجروها مرة اخرى قبل ان يدركهم الموت. ويرفض بعض من التقاهم الفيلم أن تكون اسرائيل بلداً له، ويقول سمير نقاش: “هذه البلاد أجرمت بحقي وطحنتني، هذه ليست بلادي”.
وبعد انتهاء الفيلم ناقش الاستاذ جمال امين الفيلم مبينا اهميته حيث اشار الى انه يشكل وثيقة مهمة عن طائفة اصيلة من مكونات المجتمع العراقي كان تعدادها حوالي المئة وعشرين الف قبل خمسين سنة عندما كانت نفوس العراق حوالي الخمس ملايين ، اي وبمعدل الزيادة الطبيعي فهم اليوم حوالي المليون عراقي ممن يحبون وطنهم واضطرتهم الظروف الى الهجرة ، كما ان المخرج سمير جمال الدين استخدم مختلف التقنيات المستخدمة في الفيلم الوثائقي مثل اللقاء المباشر وهو الاساس في الفيلم بالاضافة الى الافلام الوثائقية البريطانية والافلام الدرامية التي تمثل حقبة الاربعينات والخمسينات ابان هجرة اليهود والصور الفوتوغرافية والموسيقى والغناء والتقارير الاخبارية وغيرها من المواد الساندة في صنع الفيلم التي رسمت صورة مميزة لتلك الفترة، خصوصاً أن من يتحدثون عنها متقدمون في السن، ومنهم من فارق الحياة بعد تصوير الفيلم مثل الكاتب سمير نقاش.
كما اشار الاستاذ جمال امين الى اهمية عرض الفيلم في القنوات الفضائية العراقية للتعريف بهذا المفصل المهم من تاريخ العراق ، وهو مالم يحدث لحد الان والمفارقة أن الفيلم حمل حساسية حياة شخصياته، فهو قوبل بالرفض من المهرجانات العربية التي لم تعرضه، وحصل الشيء نفسه مع المهرجانات الاسرائيلية، قبل ان يحقق الفيلم نجاحاً كبيراً بعد عرضه في مهرجان “روتردام”، ويعود من رفضوه في البداية الى عرضه.
ولقي الفيلم حفاوة من الجمهور الذي صفق له كثيرا وكان عددا من الحضور ممن يحملون ذكريات وهموم الهجرة من اليهود العراقيين من الجالية العراقية المقيمة في بريطانيا ، وتسائل الكثير منهم على طريقة للحصول على نسخة من الفيلم وشكروا جهود مؤسسة الحوار الانساني الساعية بجدية لتقديم حوار انساني حقيقي بين طوائف ومكونات المجتمع العراقي ولا يقف بوجه برنامجها الاشاعات او التخويين الذي قد يصدر من بعض الجهات المغرضة التي تصطاد في الماء العكر ، وفي النهاية عبر الجمهور عن استمتاعه بهذه الامسية السينمائية المميزة .