استضافت مؤسسة الحوار الانساني بلندن الفنان والمخرج العراقي جمال امين يوم الاربعاء 8/11/2015 في امسية سينمائية عرض فيها فيلمه التسجيلي (ياسين يغني ) الذي يحكي قصة حياة الفنان التشكيلي العراقي ياسين عطية الذي مات بفعل انفجار سيارة مفخخة في بغداد عام 2013، والفيلم يشكل صرخة وادانة بوجه الدكتاتوريات والارهاب، و يحمل رسالة تقول ان اغنية الحياة اقوى من الموت.
الاستاذ جمال امين مخرج وممثل سينمائي ، حصل على دبلوم الاخراج السينمائي عام1981 في بغداد تنقل بين العراق والكويت والاردن والدانمارك عمل الكثير من البرامج والافلام الوثائقيه في هذه الدول.عضو اتحاد المخرجين الدنماركيين وعضو اتحاد الصحفيين الدنماركين.حاصل على جائزة مهرجان القاهرة الفضيه للبرامج عام 1997عن برنامج مسابقات عربيه ، اخرج عددا من الافلام منها “فايروس” و “اللقالق” و “العتمة الأبدية” ، كما مثل في عدد من الافلام منها بيوت في ذلك الزقاق ، صائد الأضواء ، العربانة ، الكعكة الصفراء .
وبعد مقدمة قصيرة تعريفية بالفيلم وحكاية العلاقة التي ربطت بين المخرج الاستاذ جمال امين والفنان ياسين عطية في مهجرهما في الدنمارك ،عرض الاستاذ جمال معاناته في صناعة الفيلم الذي لم يتلقى دعما او تمويلا من جهات مانحة فاظطر ان ينجزه بجهود فردية ومساعدة بعض الاصدقاء ،ثم ابتدأ عرض الفيلم ،ومن مشهد البداية الذي مثل الخروج مع الكون المتناغم في مقطوعة موسيقية شديدة البهاء.. ليقدم لنا نوعاً من أنواع الجنون الآن، حيث يقدم فرشة او تعريفا ببطل العمل الذي تجعله الأحداث التي يعيشها العالم وكثرة الصراعات المُلّقاة علي عاتقته أشبه بامرأة عجوز لا تقدر علي الحركة.
ولكن هل يمكن أن نفصل الكون عن العالم؟ هل يمكن أن تغزو أرواحنا عقولنا المثقلة بالعوائق الحياتية والفكرية كي تجعل من الكون ينبوع الفطرة السليمة داخلنا، نسبح فيه بأرواحنا وحواسنا، حتي لا نترك العالم ينتزع منا القوة الكامنة داخلنا في رؤية الجمال وتذوقه؟
إن تذوق الجمال ليس بالأمر الهين، فالكثير تسيطر عليه أفكار ومعتقدات تجعله يبرمج حواسه وفق هذه المعتقدات، وهذا نتيجة الكثير من الظروف الاجتماعية وغيرها، ولكن هناك أشخاصا محدودين هم الذين يتمكنون من الحفاظ علي فطرة تلك الحواس وقوتها في عدم الانسياق إلي ما تمر به النفس البشرية في حياتها وقد كان ياسين عطية من هذه النماذج.
هذه المقدمة كانت تمهيداً للحديث عن الفنان التشكيلي العراقي ياسين عطية.. هذا الكيان المعبر عن جوهر الإنسان الحر، لنعيش معه من خلال الفيلم الوثائقي”ياسين يغني”. وقد اختصر مخرج الفيلم العراقي جمال أمين فعل هذه الشخصية في الغناء بالرغم من أن ياسين يغني ويتأمل ويرسم ويبدع ويتألم ويعشق ويشتاق ويُفعل جميع حواسه كي يعيش ويتعايش مع الطبيعة والحياة.
يعرض الفيلم ملخص سريع لحياة هذا الفنان الذي اعتقل عام 1985 بتهمة الانتماء إلي الحزب الشيوعي العراقي، وبعد خروجه سافر كلاجئ سياسي إلي الدنمارك عام 1998 ليعيش هناك حتي مزقه الشوق لبغداد فقرر العودة لكي يلقي مصرعه إثر انفجار في العام الماضي.
نحن أمام تجربة أليمة عاشها إنسان ويعيشها الكثيرون كل يوم، ولكن هذا الألم لم يكن له حضور طاغ في الفيلم خصوصا في اللقطات التي عشناها مع ياسين، تلك الشخصية الصوفية التي ترجمت سنوات اعتقالها وضياع حياتها إلي إصرار على مواصلة القوة لاستكشاف طاقة الجمال من حولها عن طريق الغناء والرسم والتأمل في الطبيعية، ولهذا نجد الخلفية في معظم مشاهد الفيلم وراءه تدلل علي روح الشخصية التأملية كالطيور المحلقة والبحيرة، الأرض الخالية المفترشة بالثلوج.
المخرج جمال أمين لم تكن زاويته تسليط الضوء علي مأساة الشخصية بقدر ما حاول تسليط الضوء علي مكامنها، فنحن أمام إنسان/ بطل يشعرك بروح طفولية وفطرة سليمة، تلمسها فيه من خلال لغة جسده المتمثلة في نظرة عينيه/ ابتسامته/ جميع حركات جسده وثبات تحركاته، الذي استطاع من خلالها أن يسيطر علي ألم النفس ويدفنه في الذاكرة كي لا تبرز في تقسيمات وجهه، فصفاء النفس يفعل المستحيل أمام قسمات الزمن القوية، وهو أمر من العسير أن يتواجد في أي إنسان يًعتقل!
بدأ الفيلم بصوت هذا الفنان تجسيداً للعنوان بصورة مباشرة واضحة، ثم استتبع ذلك عرض اللوحات وتقديم الآراء التي تدلل علي أننا أمام شخصية غير عادية، نجحت في الدخول إلى أغوار النفس البشرية، وتجسيد الكثير من الخلفيات التي ربما يغفلها الكثير من البشر الذين يعيشون حياة سوية طبيعية، فكانت تعويضا مقدما من ياسين إلي جميع البشر الذين يملكون الحياة لكنهم لا يقدرون علي الاستمتاع بها، فمن سلبت منه الحياة يقدمها بصورتها الزاهية الجميلة لمن يعيشها، ولكنه سلبت منه كل أدوات الروح، ثم ننتقل إلي سرد مفتوح من قبل ياسين للإفصاح عن بعض المعلومات الجوهرية عن حياته، إلي الختام في مشهد الانفجار.
لم يُظهر السيناريو أي صراع داخل الشخصية، نتيجة لما واجهته في المعتقل، بل ظهرت الشخصية لنا في حالة من السكون التام، تسرد وتحكي وتتذكر مع من حولها ما كان يحدث في المعتقل وهي تبتسم وتضحك بالرغم من قسوة ما تحكيه، وكأن ياسين هنا وصل إلي ذروة الألم والعذاب إلي حد أنه أصبح لا يشعر به، فأصبح العذاب كالنعيم.. سيان عنده، وانعكس هذا على سلاسة حكيه لما حدث له، وهو يسرد بكل طلاقة ولم يستخدم أي التعبيرات الحسية أو الكلامية والجسدية في تفعيل الإحساس بالعذاب سوي الابتسامة التي يرسلها غالباً إلي أفق أعلي.
الإطار البصري للفيلم ومساره التتابعي تقليدي نمطي، ولكن ما أدخل حس الإبداع وأثقله فنياً هو امتزاج ألوان من الفنون كاللوحات الفنية المليئة بشتي الألوان. وقد اختار المخرج معظم أعمال ياسين المليئة بالبهجة وصرخة الألوان التعبيرية، كذلك الغناء والطرب وألوان الموسيقي المتعددة واستخدام العود ولد نوعاً من الشجن والأصالة التي تشع من روح شخصية ياسين، وأخيراً المقطوعة الشاعرية التي ذكرت في آخر الفيلم بعد مصرع ياسين كانت خاتمة تستدعي رثاء ياسين:
” يحلم بمرسم ويقايضه الوطن.. ياسين قلنا لك أحذر وأنت تحلم بمرسم.. احذر هؤلاء الأدلاء الجدد.. لهم خمس صلوات في اليوم كما لنا.. لكنهم يقفون ويدلون المارة علي القبور المعدة لنا سلفا”
ولذلك لمسنا وحدة بنائية وحدت كلا من الجانب البصري والسمعي والحسي لدي المتلقي، وجعلته يسير مع تلك الفنون في تناغم ليدرك قيمة هذا الفنان التشكيلي وأي فنان آخر، فكانت بمثابة مفتاح لقراءة هذه الشخصية.تفاعل جمهور الامسية مع المأاة التي عاشها بطل الفيلم الفنان ياسين عطية وانهمرت دموع الكثيرين مع نهاية الفيلم