لندن / عدنان حسين أحمد-
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن ندوة فكرية للدكتور حميد الهاشمي تحدث فيها عن موضوع شديد الأهمية يحمل عنوان “جدل الهُوية”، وقد ساهم في تقديمه المفكر المغربي إبراهيم القادري بوتشيش. قدّم المُحاضر استعراضاً لخصّ فيه مفهوم الهُوية وعناصرها وأنواعها وأسسها كالهُوية الاجتماعية والهُوية الوطنية والهُويات الفرعية، والتنظير السوسيولوجي لكل هُوية على انفراد، خصوصاً وأن الوضع في العالم العربي يشهد تغييرات جذرية في ظل ما أُطلق عليه بـ “الربيع العربي”، كما حاول الإجابة على سؤال جوهري مفاده: ” هل بإمكان المواطن أن يحمل أكثر من هوية؟”
انطلق الدكتور حميد الهاشمي في حديثه عن “جدل الهُوية” زمنياً من منتصف القرن العشرين، ومكانياً من الولايات المتحدة الأميركية التي تصارعت فيها عشرات الهُويات المهاجرة، لكنها انضوت في نهاية المطاف تحت مظلة الهُوية الوطنية.
أشار الهاشمي إلى أن مفهوم الهُوية يرتبط بتسعة عناصر نذكر منها “الانتماء، الولاء، التصنيف، التعريف، المقارنة”، كما نوّه إلى العناصر الأخرى التي تتعلق “بإعلاء شأن صاحب الهُوية، والوعي بذاته اجتماعياً، وارتباطه بالمكان، وختم الحديث عن هذه العناصر بأن الهُوية هي انعكاس لواقع اجتماعي، وليس لواقع افتراضي”.
لم يتوقف الهاشمي طويلاً عند تعريف الهُوية لأن الدكتور إبراهيم القادري قد سبقه إلى تعريفها في أثناء التقديم وقال بأنها مشتقة من الضمير “هو”، أي المتحد مع ذاته، والمتميز عن غيره، أما العناصر التي يمكنها أن تبلور هُوية جمعية فهي كثيرة وأهمها “الأرض، اللغة، التاريخ، الحضارة، الثقافة، الطموح وما الى ذلك” وعلى الرغم من رسوخ الهوية القومية أو الوطنية في الذاكرة الجمعية للناس إلاّ أن هناك تيارات عصرية تدعو إلى إلغاء الهوية الوطنية أو الهوية القومية.
ذكرَ الهاشمي بأن هناك عدة هُويات كأن تكون فردية أو جماعية أو وطنية أو كوزموبوليتانية. وهو يفرِّق بين نوعين من الهُويات وهما الهُوية المنسّبة والهُوية المكتسَبة، فالهوية المنسبة، كما بيّنها في حديثه “هي تلك الهُوية التي لا خيار للفرد فيها، كتلك التي تقوم على أساس العِرق، واللون، والجنس، والمنطقة، وبعض عناصر الثقافة مثل اللغة والعادات والتقاليد والدين والمذهب، مع أنَّ عناصر الثقافة هذه يمكن التخلّي عنها، واكتساب أخرى غيرها”. أما الهُوية المكتسَبة فهي “كل ما ينجزه الشخص وما يختاره بمحض إرادته ومنها الهويات المتعلقة بالحرفة والاهتمامات والهوايات مثل مشجعي كرة القدم الذين ينتظمون في مناسبات ويؤسسون تقاليدا تشجيعية ورموزا خاصة بهم”.
قسّم الدكتور الهاشمي الهُويات الاجتماعية إلى سبعة أقسام وهي الإثنية، أي القومية أو القبلية، أو تلك التي تقوم على أساس رابطة الدم، واللون / العِرق وتصنيفها بيض، سود، صفر، والعقيدية ومنها الدينية، المذهبية، الفكرية، والجهوية أو المناطقية كالمدينة، المقاطعة، الإقليم، البلد، والمهنية التي تقوم على المهنة أو الحرفة وتنتظم في مؤسسات نقابية فلاحية، عاملية، طبية، هندسية، طالبية الخ، والعمْرية كالطفولة، الصبا، الشباب والشيخوخة، والجندرية “الجنس” التي تقوم على أساس التصنيف الجندري أو التوجّه الجنسي مثل ذكور، إناث، مثليين الخ.
أوضح الهاشمي أن بعض الهُويات تقوم على أساس الأنشطة مثل الرياضيين ومشجعي كرة القدم الذين ينتمون إلى نادٍ رياضي محدد، ويحملون رموزه، ويضحون في سبيله بوصفه هوية لهم. وساق مثالاً على الأحداث المروعة التي أعقبت مباراة كرة القدم بين ناديي الأهلي والمصري قبل عام تقريباً، وكيف تمسّك الأهلي بحقوق ضحاياه، ووصف دورهم في المظاهرات السياسية بأنهم يشكِّلون جماعة ضغط على صنّاع القرار.
توقف الهاشمي عند “نظرية الهُوية الاجتماعية” التي “تهدف إلى دراسة العلاقات الاجتماعية- النفسية بين الجماعات الاجتماعية، وطبيعة التعايش القائم خاصة على أساس مخاوف أقلية ما، من محاولات أو إجراءات تذويبها ومحو هويتها الثقافية من قبل الأغلبية المهيمنة”. كما أشار المُحاضر إلى أنّ هذه النظرية قد تمّ تطويرها من قِبل هنري تاجفل وجون تيرنر عام 1979 وتتضمن ثلاثة أفكار مركزية وهي “التصنيف والتعريف والمقارنة”، وأوضح بأن “التصنيف” هو أن نقول “أبيض، أسود، مسيحي، مسلم، طالب، سائق باص”. أما “التعريف” فيعني من وجهة نظر الباحث هو “أن نعرِّف بأنفسنا ضمن الجماعات التي نُدرِك بأنفسنا الانتماء إليها”. فيما ختم الفكرة الجوهرية الثالثة وهي عملية “المقارنة” الاجتماعية حينما نقارن أنفسنا مع الآخرين المماثلين لنا.
وفي سياق حديثه عن التجديد في نظرية الهُوية الاجتماعية تحدث الهاشمي عن مفهوم الحرمان النسبي واستعان بتعريف تيد غور الذي وصفه بأنه”إدراك الأشخاص لوجود حالة تضارب بين توقعاتهم القيمية وقدراتهم القيمية على تحقيق هذه التوقعات”. كما توقف المُحاضر عند رونسمان الذي ميّز بين الحرمان النسبي الأناني “أو الفردي” وبين الحرمان النسبي الجماعي حيث يقارن الأفراد وضعهم الشخصي بوضع أفراد آخرين من نفس جماعتهم الداخلية، أما الحرمان النسبي الجماعي فيحدث عندما يشعر الأفراد أن جماعتهم الداخلية محرومة قياساً بجماعات خارجية.
أفضت مدرسة الهوية الجماعية، كما يذهب الهاشمي، إلى تطورات عديدة لدى الكثير من الباحثين في علم النفس في أميركا ومنهم الباحثة جين فيني التي تتبعت دراسة الهوية الإثنية لدى جيل المراهقة من أبناء الأقليات الإثنية، وقد طورت نموذجاً يتكون من ثلاث مراحل يجمع بين ما أورده تاجفل وبين نظرية إريكسون في علم النفس التطوري، وهذه المراحل هي “مرحلة الهوية الإثنية غير المفحوصة”، و “مرحلة البحث والاستكشاف” و “مرحلة انجاز أو استكمال بلورة الهوية الإثنية. ذكر الهاشمي بأنه يختلف مع آراء المُنظِّرة جين فيني، لكنّ حكمه لا يمكن أن يكون مطلقاً أو نهائياً.
تحدث الهاشمي عن تشظّي الهُوية الوطنية وبروز الهُويات الفرعية بعد أن كانت مكبوتة أو مسكوتاً عنها أو مقصية. فالهُويات الفرعية، من وجهة نظر المُحاضر، كانت مُلغاة تقريباً، ومتماهية في الهُوية العامة، وقد وصفها الباحث صراحة بأنها تحصيل حاصل لمصادرة الحريات الفردية والجماعية واتخذ مما في حصل العراق كأنموذج لتشظي الهُوية الوطنية وما أفرزته من هُويات فرعية وإثنية ودينية وطائفية وقبلية ومناطقية. ساق المُحاضر أكثر من مثال في هذا الصدد مثل القومية الكوردية التي كانت تطالب بحكم ذاتي “تطور لاحقاً إلى حكم فيدرالي”، والتركمان الذين طالبوا بإقليم خاص بكركوك، والكلدوآشوريون الذين طالبوا بإقليم ذاتي في سهل نينوى. وقد خلُص إلى القول بأن المسيحيين في العراق قد تشظوا إلى آشوريين، وكلدان، وسريان، وأرمن، والمسلمين إلى سنة وشيعة، فيما انطوى الصابئة والإيزيديون على أنفسهم ومعتقداتهم. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، كما يرى الهاشمي، إذ “تعددت منابر الهُوية الفئوية في المناصب الحكومية والإدارية. ووسائل الإعلام من قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية وصحف ومواقع إنترنت، إضافة إلى النوادي والجمعيات الثقافية التي باتت تكرس الهويات الفرعية على حساب الهوية الوطنية”. لابد من الإشارة إلى أن المُحاضر قد تطرّق إلى عدد من الدول العربية متخذاً منها أمثلة لتشظي الهوية الوطنية كليبيا وسوريا واليمن وغيرها من البلدان التي شهدت “الربيع العربي”، لكن تركيزه كان منصباً على العراق بوصفه أنموذجاً دقيقاً لهذا التشظي المخيف الذي يهدد الهوية الوطنية في حال تلاشي السلطة أو غياب القانون. وفي ختام محاضرته أجاب الهاشمي على السؤال الرئيس الذي يتمحور عليه البحث وهو: “هل يمكن للمواطن أن يمتلك أكثر من هوية؟” وكان جوابه كالآتي: “يمكن لأي مواطن أو إنسان أن يمتلك أو ينتمي إلى أكثر من هُوية اجتماعية بحكم تعدد انتماءاتهم وتوزعها، وتأتي أهمية هذه الهُوية الوطنية من سموها على المصالح الفردية والفئوية الضيقة، ومع ذلك فإنّ الهُوية الوطنية لا تلغي حق الآخرين في الانتماء لهوياتهم الفرعية. وفي ختام الندوة الفكرية أثار بعض الحاضرين عدداً من الأسئلة نذكر منهم د. فاروق رضاعة، والأستاذ سمير طبلة وكاتب هذه السطور، فيما قام الدكتور الهاشمي بالردّ عليها مُضيفاً معلومات جديدة إلى نص محاضرته القيّمة التي قدّم من خلالها تصورات واضحة عن “جدل الهُوية” الذي يستعر بين أوانٍ وآخر.