لندن / عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للشاعر والناقد صلاح نيازي تحدث فيها عن “تجربته في الغرب”، كما ساهم كاتب هذه السطور بتقديم المُحاضِر وإدارة الندوة التي أثارت لدى الحاضرين العديد من الأسئلة والمداخلات التي حَرِصنا على أن لا تشتط بعيداً عن جوهر المحاضرة وسياقها الفكري العام. وقد جاء في معرض التقديم بأنَّ نيازي “أديب متعدد الاهتمامات يجمع في كتاباته بين الشعر، والسيرة الذاتية، والنقد الأدبي والفني، والترجمة”. وبغية إحاطة الحاضرين علماً بموسوعية هذا المفكر، والباحث الكبير، الذي نعّده واحداً من بين الرموز الثقافية العراقية المهمة التي تركت بصمتها في المشهد الثقافي العراقي فقد ارتأى مقدّم الندوة أن يقسم اهتمامات الدكتور صلاح نيازي إلى أربع محطات رئيسية، الأولى هي محطة الشعر، وقد أصدر خلال تجربتة الشعرية الطويلة عشرة دواوين من بينها “كابوس فضة الشمس” الذي أشاد النقاد بعمقه وتأثيره على شعراء جيله والأجيال الشعرية اللاحقة، ثم توالت دواوينه الشعرية الأخرى مثل “الهجرة إلى الداخل”، “الصهيل المعلّب”، و “ابن زريق وماشابه” وغيرها من المختارات الشعرية، لكن الشيئ المهم في تجربته الشعرية برمتها هو أن صوت الشاعر صلاح نيازي هو صوت موضوعي، وليس صوتاً ذاتياً، وهذه ميزة قد لا يتوفر عليها الشعراء العراقيون أو العرب الذين تتسيّد ذواتهم على قصائدهم وتهيمن على تجاربهم الشعرية”. أما المحطة الثانية في حياة نيازي فهي السيرة الذاتية، إذ كتب “غصن مطعّم بشجرة غريبة” والذي يعد واحداً من أجمل السير الذاتية العربية وأعمقها لأنه مختبر حقيقي للشخصية العراقية التي تقف أمام المرآة وترى كل عيوبها وأخطائها واضحة صريحة من دون رتوش. النقد الأدبي والفني والفكري هو محطته الثالثة ولعل القرّاء يتذكرون كُتبه المهمة في هذا المضمار لعل أبرزها “الاغتراب والبطل القومي”، “فن الشعر في ملحمة كلكامش”، “نزار قباني رسّام الشعراء” وغيرها من الكتب النقدية المعروفة. أما المحطة الرابعة فهي الترجمة، إذ ترجم نيازي حتى الآن ثلاث مسرحيات لشيكسبير، ومسرحية “ابن المستر ونزلو” لترنس راتيكان، و “العاصمة القديمة” لكواباتا، كما ترجم خمسة عشر فصلاً من يوليسيس، ونأمل أن يُنجز الفصول الثلاثة المتبقية.
استهل نيازي محاضرته بطُرفة خلَقَها من المحطات الأربع التي ذكرْتها في معرض التقديم فقال: “أود أن أتقدم بالشكر إلى الأستاذ عدنان على هذه المقدمة الضافية ولكثرة المحطات التي ذكَرها تصورتني قطارا” ثم مضى إلى القول بأنه “يوّد أن يفرِّق بين الغريب والمغترب، فالشخص الغربي الذي يُعنى بالآداب الشرقية يسمى المستشرِق، بينما لم نستطع نحن أن نواكب هذه التسمية فنقول المستغرِب، لذلك نقول المغترب”. أمّا أفضل شاعر، من وجهة نظر نيازي، فرّق بين الغربة والغريب والمغترب هو سيدنا الأكبر المتنبي الذي يقول: “مَغاني الشِّعْب طيباً في المغاني / بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ / ولكنَّ الفتى العربيَّ فيها / غريبُ الوجهِ واليدِ واللسانِ”، قال هذا عن نفسه وهو يمدح عضد الدولة في بلد لا يعرف لغته فهو غريب من هذه الناحية، ثم استشهد ببيتين آخريين للمتنبي أيضاً يقول فيهما: ” منْ مُبلغ الأعراب أني بعدهم / عاشرت رسطاليس والإسكندرا / وسمعت بطليموس دارس كتبه / متملكاً متبدياً متحضرا”، وشرط المتنبي هنا هو الثقافة التي ينهل منها الشاعر لكي تصبح بالنتيجة مادة كيمياوية. أما أول مغترب أو غريب في الشعر العربي، كما يذهب نيازي، فهو اليشكري وقيل إنه أُتهم بحب أخت النعمان أو زوجته فطلب دمه فغادر إلى اليمن وهناك كتب قصيدة رائعة يقول فيها: ” ولقد دخلتُ على الفتاة الخدرَ في اليوم المطير / الكاعب الحسناء ترفل بالدمقس وبالحرير / فدفعتها فتدافعت مشي القطاة إلى الغدير / فرنت نحوي وقالت / يا منخّل ما بجمسك من فتور”، إلى أن يقول: ” وأحبها وتحبني ويحب ناقتَها بعيري / فإذا سكرت فإني ربُّ الخورنق والسدير / وإذا صحوت فإني ربُّ الشويهة والبعير”. يعتبر نيازي هذه القصيدة من أجود ما قرأ من قصائد، كما يعتبر اليشكري أول غريب تقريباً قرأه في الشعر العربي، ونحن نعوّل على ذائقة نيازي الشعرية وحسِّه النقدي المرهَف. أما الغريب الثالث فقد اختاره نيازي من العصر الحديث وهو الشاعر عبد المحسن الكاظمي الذي يعتبره من الغرباء الحقيقيين، كما يرى فيه موهبة شعرية كبيرة لا يدري لماذا أهملها النقاد وأساتذة اللغة والأدب، وتأكيداً لهذه الموهبة استشهد نيازي بالأبيات التالية: ” جوىً بقلبكَ أودى أم وجيبُ / غداة حدا بك الحادي الطَروبُ / بَعُدت عن دياري وصرت تدعو / على البُعد الديارَ ولا مُجيب / وفي مصر أراك وأنتَ لاهٍ / وقلبك في العراق جوىً يذوب / فلا حُلوان في عيني تحلو / ولا طيب الجُنينة بي يطيب”. يعتقد نيازي أنّ الكاظمي كان غريباً جغرافياً، لكنه التفت إلينا، نحن المبثوثين في المنافي الأوروبية، وتساءل: “هل نحن غرباء جغرافياً أم مغتربون”؟ لم تقتصر أمثلة نيازي على الشعر، وإنما امتدت إلى الرواية، وتوقف عند أنموذجين مهمين وهما “عصفور من الشرق” لتوفيق الحكيم و “قنديل أم هاشم” ليحيى حقي. ففي الأولى كان المؤلف ينسب كل خطأ إلى نفسه، وليس إلى الآخرين كما دأب غالبية الناس. أما الأنموذج الثاني فهو بطل رواية “قنديل أم هاشم”، القروي البسيط الذي يأتي إلى القاهرة ثم يذهب أسكتلندا لدراسة الطب ويتعرّف على ميري التي تعلمة أبجدية الحياة، فإذا قال لها نجلس تقول نمشي، وإذا تحدث عن الزواج تقول له تحدث عن الحب، وهكذا أحب الغروب، وكأنه لم يكن في مصر غروباً يشبه ذلك الغروب الذي أحبه في أسكتلندا!
ذكر نيازي بأنه لم يأتِ للدراسة وتعلّم اللغة مثل بطل توفيق الحكيم وإنما لكي يموت موتاً كريماً. لنقتبس هذا المقطع الذي قرأه من الغلاف الأخير لـ “غصن مطعّم بشجرة غريبة” حيث قال: “كانت أمنيتي الوحيدة لا الوصول إلى لندن، ولكن الموت في مكان آخر، الموت بارإدتي، أردت “أن أحسَّ اللذة السوداء في الوفاة”. . أردت أن أختار موتي، كما اختار السهروردي موته. كان أشقّى شيئ عليّ أن يشفي قاتلي غليله، أن أموت تحت قدميه وآلات تعذيبه مهاناً مذلاً، أمنيتي أن أحرمه من اشباع حقده”. ثم سرد لنا العديد من الاختلافات بين الثقافتين العراقية والبريطانية لعل أبرزها تربية الطفل البريطاني الصغير الذي تركه والداه يبني شخصيته المستقلة لوحده، وبين طريقة تربتنا العاطفية للطفل العراقي. ثم عرّج نيازي على إشكالية فكرية تبحث في الأسباب التي تدفع العراقيين أو العرب عموماً للاعتقاد بأن الطفل طيّب بطبعه، فيما يذهب الغربيون إلى الاعتقاد بأن الطفل شرير بطبعه، ولذلك فهم لا يتركون الطفل بدون ضوابط تربوية. توصّل نيازي إلى أنّ الشخصية العراقية تعتمد كثيراً على القوة العضلية، بينما تعتمد الشخصية البريطانية على القوة الذهنية. وقد أورد أمثلة عديدة من أشعار الجواهري، وحماسة أبي تمام والبارودي تعزز هذا الرأي، ويعتقد بأن الصراع بين العقلية البدوية الشفاهية وبين العقلية التدوينية المدنية قد احتدم في العصر العباسي، ولم يضع حداً لهذين الاتجاهين إلاّ أبو نواس الذي قال:”عاجَ الشقي على رسم يسائلهُ / وعجت أسأل عن خمارة البلد”. ويرى نيازي بأن القوة العضلية ظلت مستمرة إلى الآن، لكنها بلغت ذروتها في العهد الشمولي السابق الذي كان يصنع من الأطفال مجنزرات عسكرية. ختم نيازي محاضرته بمقارنة قصيدة لشاعر عراقي معاصر يسافر من بغداد إلى بيروت لكنه ينقل العديد من الصور الشعرية البدوية في نصه المعاصر، بينما يتأثث نص “رحلة المجوس” لإليوت بصور شعرية عميقة تكشف عن الثراء الذهني لكاتب النص ومبدعه. ثمة أفكار كثيرة طرحها نيازي فيما يتعلق بالعقلية الشفاهية العربية والعقلية التدوينية الأوروبية، لكنه مثل الصانع الأمهر الذي أضاء نصه المعقد بلحظة تنويرية فقال: “إنَّ أسوأ حبر هو أعظم من أية ذاكرة”.