صدر عن دار المدى في بيروت، الجزء الثالث من رواية «يوليسيس» للكاتب الإيرلندي جيمس جويس وترجمة الشاعر العراقي المغترب صلاح نيازي. ضم هذا الجزء الحلقات 13 و14 و15، وبلغ عدد صفحاته حوالي أربعمائة وثلاثين صفحة من القطع الكبير، وهو مزوّد كما في الجزأيْن السابقين بشروح وافية تعين القارئ على ما استغلق وغمض، إلى حدٍّ ما. وقد جاء في التوطئة التي كتبها صلاح نيازي لهذا الجزء، عن عملية الترجمة ومناخاتها: «كان الشرك الحقيقي في الحلقة الخامسة عشرة. إنها بنظر الكثيرين من النقاد الجويسيين أصعب الحلقات طرّاً. وبها تبدأ الرواية. كذا ظنّ بعض النقّاد. يقيناً، إنّها تأليف جسيم، مرهوب، أقفاله تفوق بالكثير، مفاتيحه. معميّات دونها معميّات إلى أن ينقطع النفس. هنا لا تُمتحن الترجمة بالنجاح أو الفشل، وإنما بالنجاة لأنّها مخاطرة متجهمة تقتات على الأعصاب وعضلات العين. كذلك، التشنج في الرقبة.
كلّ مرحلة تعقّد المرحلة التي تليها، كتطور الجنين الذي ساواه جويس بتطور اللغة. ليس عبثا إذن أنْ تبدأ هذه الحلقة بمستشفى للولادة، وليس اعتباطا أنْ حاكى جويس في هذه الحلقة أكثر من دزينة من الأساليب النثرية، بدأها بالمؤرخين اللاتين من أمثال سالسوت وتاسبتوس من دون أن يجعل محاكاته إنكليزية. ثم حاكى المؤرخين اللاتين في العصور الوسطى وجعلها تشبه نفسها، أيْ لا علاقة لها بالإنكليزية.
انتقل بعد ذلك، إلى الأنكلو ساكسونية، فالنثر الإنكليزي في العصور الوسطى، فأشهر الكتاب الإنكليز من مختلف العصور، إلى جون رسكن، وتوماس كارلايل.
هذه عقبة أقل ما توصف به كأداء. كيف تترجم هذه الأساليب إلى لغة أخرى تخلو منها كاللغة العربية على غناها الفذّ؟ الحيلة الوحيدة في اليد، هي محاكاة جويس في محاكاته.
احتوت بوتقة جويس اللغوية هنا، اللغات السنسكريتية والعبرية و«الغاليّة» والألمانية والإيطالية والفرنسية، والإسبانية والكلمات المهجورة، في العامية الإيرلندية والأميركية والفرنسية وعاميّة شرقي لندن المعروفة باسم «الكوكني» cockney. بالإضافة إلى منحوتاته. حتى أنّه صاغ من الحروف أصواتاً موسيقية لتصوير ثلاثة مساقط مائية، وفي كل مرة تختلف الموسيقى باختلاف توزيع الحروف وكأنها نوتات موسيقية.
في الحلقة الخامسة عشرة، وهي أطول حلقة في الرواية، ينهض جويس بالعبقرية إلى تخوم جنونية لم أقرأ عمقاً اكثر حكمة وثقافة مثلها، في أيّ كتاب آخر. وكأنْ انفلت الذهن من عقاله، فلا فرق بين الرواية والمسرحية. بالفعل أصبحت الرواية مسرحية نطّق فيها جويس شتى الجمادات والحيوانات. القنفذ، شجر الطقسوس، المعزاة، القلنسوة، الأساور، حتى الصابونة تتحاور.
في هذه الحلقة نرى أمامنا على المسرح كيف يُمسخ الإنسان. رجل يستحيل إلى امرأة، امرأة تصبح رجلاً. فنتازيا من الجينات الدفينة أكثر واقعية من الواقع. واقع لا يشبه حتى نفسه. أسهل ما في هذه هذه الحلقة هو الدخول إليها، وأصعب ما فيها الخروج منها. تيّار الوعي الجويسي في أقصى جموحه ينتقل وكأن بعفوية
من البوذية والتوراة والإنجيل، من الفلسفة الإغريقية، من الماخور، من علم الفلك، من التنجيم، من الأوبرا والشعر والمسرح، من علم الطبابة وسباقات الخيول من علم الأجنة، والقابلات، والمومسات والسفلس ومجلس النواب، والأغلفة المطاط لمنع الحمل.. من… من… إلى… وبلمح البصر تجوز أزمنة وبقاعاً مواتاً عادت ممرعة كأنهار جافة تدفقت من جديد. من المؤمل أن ينتهي المترجم من إكمال الحلقات المتبقية الثلاث قبل نهاية هذا العام إذا ما سارت الأمور على ما يرام.