عدنان حسين أحمد
الروائية سلوى جرّاح
استمراراً لمحورنا السابق “حوار في الثقافة العراقية” نظمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية شاركت فيها الروائية والإعلامية السابقة سلوى جراح والكاتبة الصحفية بدور الدده وقد تحدثت كل واحدة منهما في اختصاصها الدقيق. وقد شارك في تقديمهما وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. استهلت سلوى جرّاح محاضرتها باستذكار مقولة الكاتب المصري سلامة موسى الذي صرّح ذات مرة بأنه “لا يدوس على بصاق الآخرين” في إشارة إلى سلوكه الحضاري الذي يكشف من دون شك عن ثقافته ووعيه المتطور. تساءلت جرّاح عن ماهية الثقافة ومعناها في التصرف العام؟ فهل أن الثقافة هي القدْر العام الذي نحصل عليه من العلم والمعرفة والمعلومات أم هي سلوك ينعكس في تصرفنا اليومي؟ فعلى عكس سلوك سلامة موسى الذي كان يتفادى المشي على بصاق الآخرين، هناك العديد من الناس الذين يرتادون الأماسي الثقافية ولا يجدون حرجاً، على الرغم من مجيئهم المتأخر، من إحداث ضجة كبيرة سواء بكعوب أحذيتهم أم في تحية الآخرين وتقبيل البعض الآخر منهم في أثناء الأمسية التي يحاضر بها أحد الاساتذة أو المختصين. تختصر جرّاح مفهومها للثقافة بثلاثة أسئلة وردت كالآتي: “ماذا نريد أن نعرف عن هذا العالم؟” و “كم نريد أن نعرف عن هذا العالم”، و “كيف نتعامل مع هذا العالم؟” ثم ربطت جرّاح هذه المعرفة بذكرى تخرج الدفعة التي قبلها من جامعة “الحكمة” العراقية حين تحدث رئيس الجامعة فاذر مكارثي في مناسبة التخرج تلك وقال: ” الشهادة هي المفتاح، وأنتم أحرار في كيفية استعمال هذا المفتاح، أن تضعونه في جيوبكم أو تفتحون به الابواب”. وهي ترى في أن هذه المعرفة التي حصلت عليها هي مفتاح للولوج إلى العالم الحقيقي. ذكرت جرّاج بأنها لم تُعطَ فرصة في العراق على الرغم من أنها عملت في إذاعة وتلفزيون بغداد سبع سنوات، لكنها حين جاءت إلى لندن وعملت في البوش هاوس تفتحت أمامها الآفاق فكل شيئ في هذا المبنى الفخم جميل حتى أنه كان أغلى مبنى في العالم إذ بلغت كلفته في حينه حوالي مليوني جنيه إسترليني، أي ما يعادل عشرة ملايين دولار أميركي يوم افتتاحه اللورد بلفور عام 1925م. وقد انتابها الشعور آنذاك بأن عليها أن تتواكب مع هذا المبنى الحديث وتقدّم فيه شيئاً يوازي جماله وعظمته. لذلك فقد دخلت العديد من الدورات التدريبية، وتعلمت طريقة الكلام، وكيفية مقابلة الضيوف، فالبي بي سي هي مدرسة من الطراز الأول لمن يريد أن يتعلم. إذاً، كيف ستوظف جرّاح ما تعلمته في هذه المدرسة العظيمة خصوصاً وأن هيئة الإذاعية البريطانية فيها مثقفون كبار من طراز صلاح نيازي، وأولغا جويدة، ومحمود حسين وغيرهم؟ غير أن البوش تغيّر كثيراً حين دخلت الكنولوجيا الحديثة وغيّرت مزاج الناس وأذواقهم وطريقة عملهم. ثم عرّجت جرّاح في الحديث عن الإعلام العراقي بعد 2003 ووجهت له انتقادات موضوعية شديدة. وقد وصفته بعد التغيير مباشرة بانه أشبه بالجدار الأبيض أو الكانفاس الذي لم يُرسم عليه بعد، لكن الذي حصل لم يكن يشر غالبية المتلقين، إذ تغلبت الثقافية الشعبية، وهيمن الإعلاميون الجهلة الذين لا يمتلكون خبرات تؤهلهم لخوض غمار هذه التجربة، فاقتصر دور التلفزيون على الدعاية الحزبية أو الشخصية ربما. كما دهمتنا المسلسلات التركية المدبلجة حيث ترى جرّاح في الدبلجة تكريساً للأمية والكسل لأن بعض الناس لا يكلفوا أنفسهم قراءة حتى “السبتايتل” لمعرفة ما يدور بين طيات هذا المسلسل أو ذاك. تعتقد جرّاح بأن القنوات الفضائية العراقية لا تعكس وجه العراق الحضاري والثقافي. فالبرامج سطحية، وغير مدروسة، وغير مؤرشفة أيضاً، وحين تقلِّب هذه الفضائيات لا تجد برنامجاً ثقافياً ناجحاً أو فلماً وثائقياً جيداً عن العراق، بل عليك أن تبحث عنه في التلفزيون البريطاني أو الفرنس أو الألماني. ترى جرّاج بأن تردي الذائقة الفنية والثقافية انسحبت حتى كراسي الوزراء المذهبة ومزهرياتهم الكبيرة غير المتناسقة، هذا ناهيك عن أرائك المؤتمرات المبهرجة التي لا وجود لها في ديكور أي مؤتمر ىخر في العالم. لم يتقصر تردي الذائقة أو انعدامها على البرامج التي تقدّم وإنما امتدت مظهر المذيعات اللواتي يرتدين ملابس غير متناسقة، وماكياج صارخ، وأقراط طويلة جداً بينما هي منهكة في قراءة نشرة الأخبار.
انتقدت جرّاح القنوات الدينية التي أصبحت منبراً للفتاوى الغريبة، بينما تهمل البرامج الثقافية أو السياسية التي فيها تحليل منطقي أو الرياضية. واقترحت جرّاح أن نبدأ من جديد، وأن نعود إلى الجدار الأبيض كي نعلّم الكوادر الإعلامية اشتراطات العمل الإعلامي الناجح الذي يقدّم برامج متميزة تتوفر على المتعة والفائدة وتعزز ذائقة الناس وتنمّي عقولهم.
لابد من الإشارة في خاتمة المطاف إلى أن سلوى جرّاح هي روائية وإعلامية عراقية. انتقلت إلى بريطانيا في أواسط السبعينات وعملت في البي بي سي لمدة ثلاثة وعشرين عاما. أصدرت حتى الآن أربع روايات وهي على التوالي “الفصل الخامس”، “صخور الشاطئ”، “أرق على أرق” و “بلا شطآن” وهي منهمكة في عملها الروائي الخامس “صورة في ماء ساكن”. تكتب في عدد من الصحف العراقية من بينها “المدى” و “الزمان”.
الكاتبة والصحفية بدور الدده
تساءلت الكاتبة الصحفية بدور الدده في بداية حديثها، عن مدى اهتمام الناس بالكتب، معتبرة إن هناك تراجعاً لمصلحة انتشار المواقع الألكترونية التي تقدم المعلومات العامة من دون تمحيص وإحالة إلى مصادرالأمر الذي أدى إلى حالة من الدمار في سوق الكتاب، ونوع من الإكتفاء لدى غالبية القرّاء حال بينهم والقراءة الجادة المعمّقة، ولكن على الرغم من الفوضى المعرفية التي تسببت فيها زيادة المواقع، إلا أنها كسرت احتكار الكتابة لدى النخبة من الكتاب، الذين غالباً ما يكررون أنفسهم، أو تشيخ أقلامهم، وفسحت المجال للكثيرين ممن يمتلكون موهبة الكتابة.
ولاحظت الكاتبة إن القرّاء قد فقدوا الدهشة التي تصاحب الإطّلاع على المادة المكتوبة، ربما لوفرة النشر، فقد زاد عدد الصحف والمجلات بعد العام 2003، على حساب النوعية واللغة. إن إطلاق حرية النشر وضبابية المفاهيم عن الديمقراطية، قاد إلى تنوع في الصحافة، غابت عنه الجودة، وحضرت الإنتماءات العشائرية والحزبية والطائفية والقومية، وتضمنت الكلمة الإشارة إلى انتفاء حالة التفرغ للكتابة وسط صعوبات الحياة، وضروراتها، كما أن الدولة لا تولي اهتماماً للمؤلفين، ولا تدعمهم بالقدر الذي يساعدهم على مواصلة الإبداع بأجواء آمنة اقتصادياً، ففي الوقت الذي منحت وزارة الثقافة لكل مطرب شارك في فعّاليات بغداد عاصمة الثقافة، مبلغ ثلاثين مليون دينار، خصصت 250 ألف دينار لكل مؤلف كتاب، ضمن تعاقد مع دور النشر وليس مع المؤلفين مباشرة.
وتطرقت الكاتبة إلى أهمية البحث المعمّق فيما فعله النظام السابق بالثقافة العراقية لمعرفة الأمراض التي حلّت بها وكيفية معالجتها، واعتبرت إن العلاج رغم صعوبته ممكن، لكنه لم تمتد يد مخلصة لحد الآن لانتشال الواقع الثقافي من محنته، ولا يبدو إن لأغلب السياسيين مصلحة في النهوض بالكتابة كرافد إبداعي أساسي، لأنه يمكن أن يتصدى الكتاب المخلصون للمفسدين ولمن يحرصون على إفقار وعي الناس. إن الوعي المطلوب هو ما يتأسس على التأمل وليس الانفعال – كما يقول الشاعر جمال الحلاّق- ولكنا نلاحظ إن التأمل غائب عن حياة العراقيين فقد صادرته ماكنة القلق والموت، واللايقين من المستقبل. وأضافت الكاتبة إن ما يلاحظ على حالة الوعي أنها تتسم بالحمّية الدينية والطائفية والقومية، ما يجعل شعور التشارك في الوطن أمراً ثانويا، هذا الواقع تغذيه الأحزاب الدينية والقومية، وبالطبع ينعكس كل ذلك في الكتابات على اختلافها.
وقالت الكاتبة أنه إذا أردنا تبني أحد التعريفات للثقافة على أنها: “مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية التي تميز مجتمعاً بعينه، أو فئة اجتماعية، الفنون والآداب، طرق الحياة، والحقوق الأساسية للإنسان، والقيم والتقاليد، والمعتقدات”، فهل نستطيع تطبيق هذا التعريف على المجتمع العراقي؟ بالتأكيد سنجد صعوبة كبيرة، نظراً لتشظي الوعي وغلبة عوامل النشأة البدائية والانتماءات المتعددة التي تحجب حالة التشارك الثقافي وبخاصة مع ظروف العنف المتواصل.
وأشارت المتحدثة إلى تقصير الدولة في واجبها تجاه مطلب ترقية الثقافة، وعزت ذلك إلى حالة الرفاهية التي يغرق فيها السياسيون، فنعمة الرواتب الهائلة، تجعلهم في غنى عن التفكير بهموم المثقفين، والثقافة في جوهرها هي روح الوطن، ولا شأن لأصحاب المصالح المالية والسياسية بهذه الروح.
وعن مستقبل الكتابة، أوردت نصاً للصحافي أحمد عبد الحسين، يقول فيه : “هل تمتلك الثقافة ما يضمن لها أن تخرج عن سياقاتها التقليدية باعتبارها سلعة تنتج في فضاء الندرة، وتعرض في فضاء أكثر ندرة، ليتلقفها “زبائن” نادرون؟ أي أهمية لها اليوم في فضاء له سمات الديمقراطية وملامحها دون أن يكون ذا جوهر ديمقراطي؟
وختمت المتحدثة كلمتها بالتأكيد على إن الإبداع لم يغادر العراق على الرغم من المسافات الموحشة التي يجتازها الوعي العام وسط ضجيج المتفجرات وأهوال الموت اليومي.
جدير ذكره أن الكاتبة والصحفية بدور الدده هي خريجة كلية القانون والسياسة ببغداد. مارست مهنة المحاماة لمدة ثلاث سنوات ثم غادرت العراق عام 1979 لأسباب سياسية حيث عملت في مركز الدراسات الفلسطينية في دمشق لمدة خمس سنوات، وقد كتبت لعدة صحف ومجلات نذكر منها “الحياة” و “الشرق الأوسط” و “إيلاف” ومجلتي “الطريق” اللبنانية و “النور” التي كانت تصدر بلندن.