عدنان أحمد –
23-10-2013 –
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني الباحث قصي الموسوي في أمسية ثقافية تحدث فيها عن قراءته المنهجية الجديدة في النص القرآني وهو القسم الثاني من محاضرته السابقة التي انضوت تحت العنوان نفسه. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الأمسية الأستاذ غانم جواد.
استهل الموسوي محاضرته بتساؤل منطقي مفاده: لماذا يبحث عن معنى القتل تحديداً في النص القرآني؟ ويجيب على هذا السؤال بأن الاستهتار بأرواح الناس، وممارسة القتل باسم الدين والقرآن قد بلغ ذروته ولا بد لنا أن نعرف أصل هذا الأمر وحقيقته. فالمعروف أن الأديان السماوية تأمر بقتل الأعداء وأن الإسلام هو أحد هذه الأديان مما أدى إلى النفور من هذه الأديان عامة والإسلام خاصة. والشائع أن هناك أوامر قاسية تحث المسلمين على “القتل والجلد والبتر وتزويج الأطفال” وهذه كلها تحتاج إلى أدلة دامغة للتأكد من التفسيرات وصحة الأحكام الرائجة. ولعل أبرز هذه الأحكام السائدة هي أن القرآن يأمر بالقتل وبقطع يد السارق، وصلب المفسدين، وبتر أيديهم وأرجلهم من خلاف، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى النفور من هكذا دين، فما هي حقيقة هذا الإدعاء.
قدّم الباحث خمس صور مروّعة للقتل والصلب والشنق وإباحة الدماء بواسطة التفجيرات حيث يبيحون دماء أتباع الديانات الأخرى وبعض المتطرفين يبيحون دماء المسلمين أيضا! فهل يعني هذا أن المسلمين المتطرفين غير قادرين على التعايش مع أتباع الديانات الأخرى سواء السماوية أم غير السماوية على أساس المواطنة؟ السؤال المهم الذي طرحه الباحث مفاده: هل يمكن تغيير هذه الصورة النمطية أم لا؟
أورد البحث خمس آيات قرآنية تم توظيفها لتبرير القتل في الماضي والحاضر نذكر منها ” وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَٱلْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلَا تُقَٰتِلُوهُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَٰتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَٰتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ كَذَٰلِكَ جَزَآءُ ٱلْكَٰفِرِينَ.(191 البقرة2) فيما تقول الآية الثانية ” وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم. (244 البقرة2). أما الآية الثالثة فتقول: ” فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ ۚ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا.” (74 النساء 4)
أكد الباحث بأن هذا القتل مستند على القرآن الكريم وقد أورد بعض الآيات التي تعزز وجهة نظره.” قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ” (14 التوبة 9). أما هدف البحث والفرضية المراد اثباتها فهو زعزعة اليقين بالمفهوم السائد عن معنى الجذر “قَتَلَ” في السياقات القرآنية والقاضي بأن معنى القتل هو (الإماتة). والتأكيد على المعنى المفهومي للألفاظ و (القتل) هو أحد هذه الألفاظ التي تحتاج إلى قرينة واضحة لربطها بمصداق محدد. كما أن فرضية البحث المراد اثباتها هنا هي أن معنى الجذر “قَتَل” هو (خَفَفَ من طاقة شيئ أو ضيّق عليه أو كبح من جماحه وربما قضى عليه).
أما منهجية البحث وهي صلب موضوع الباحث فهي معالجة مفهوم القتل بالطرق الأربع الآتية:
* التحليل المباشر لمعنى الجذر “قَتَل” من خلال معاجم اللغة.
* التحليل غير المباشر عبر ملاحظة ثوابت الطريقة القرآنية في البلاغة والدقة والمصطلحات المحددة.
* تحليل على مستوى الفرق بين طبيعة الفعل اللازم والفعل المتعدي.
* مقارنة الجذر ”قَتَل “ مع جذور أخرى.
لفت المحاضر عناية المتلقين إلى أنه لن يقوم بالبحث بطريقة مجزأة وتفصيلية خلال ساعة واحدة. كما أن الأدوات والمبادئ التي استعرضها في المحاضرة السابقة تمثل العمود الفقري للمنهج اللفظي الترتيلي وأهمها المبادئ اللفظية الفطرية التي يقبل بها أي عاقل.
ذكرَ الباحث بأنّ مشتقات الجذر “قَتَلَ” قد وردت في النص القرآني (176) مرة وقد وضعها المحاضر تحت ستة عناوين رئيسة وهي (قتل الحيوانات، قتل النفس، قتل ضمن العائلة، قتال بين الناس من المسلمين، قتال بين المسلمين، غير المسلمين ومصير بعض المقتولين).
توقف الباحث عند أقوال بعض اللغويين في تفسير معنى القتل حيث يعني للبعض بمعنى (الإماتة) وللبعض الآخر بمعنى (الإذلال والتقليل والبخع والكبح وكسر الشِدة، مما يمكن وصفه بأنه تقليل من طاقة الشيئ أو السيطرة على تلك الطاقة). غير غالبية الناس ترجح المعنى الأول.
أورد الباحث نماذج لتعاريف أهل اللغة للجذر “قَتَل” فالراغب الأصفهاني: أصل القتل: إزالة الروح عن الجسد كالموت، … وقوله: (فاقتلوا أنفسكم)”البقرة/ 54 “قيل معناه: (ليقتل بعضكم بعضا…)وقيل: عنى بقتل النفس (إماتة الشهوات)، ثم أورد الباحث معنى على سبيل المبالغة (قتلتَ الخمرَ بالماء: إذا مزجته، وقتلت فلانا، وقتلته إذا: ذللته).
كما استشهد الباحث بالمقتَبس الآتي عن ( عن لسان العرب) لجمال الدين ابن منظور الذي أورد المعنيين: القَتْل: معروف، … ونقل عن التهذيب: قَتَله إِذا أَماته بضرْب أَو حجَر أَو سُم أَو علة، والمنية قاتلة؛… ثم قال: وقوله تعالى: قاتَلهم الله أَ نى يؤفَكُون؛ أَي لَعَنَهم أَ نى يُصْرَفون، وليس هذا بمعنى القِتال الذي هو من المُقاتلة والمحاربة بين اثنين. ثم قال: وفي رواية: أَن عمر قال يوم السقِيفة اقْتُلوا سعد ا قَتَله الله أَي اجعلوه كمن قُتِل واحْسِبُوه في عِداد مَنْ مات وهلك، ولا تَعْتَدُّوا بمَشْهَده ولا تُعَرِّجوا على قوله. واضاف: وفي حديث عمر أَيضا : مَنْ دَعا إِلى إِمارة نفسِه أَو غيره من المسلمين فاقتلوه أَي اجعلوه كمن قُتِل ومات بأَن لا تَقْبَلوا له قولا ولا تُقِيموا له دعوة، وكذلك الحديث الآخر: إِذا بُويِع لخَلِيفتين فاقتلوا الأَخير منهما أَي أَبْطِلوا دعوته واجعلوه كمَنْ قد مات.
مَنْ منْ أرباب اللغة رجح المعنى الثاني للجذر”قَتَلَ”؟ تساءل الباحث عن الفرق بين المعنين: فالمعنى الثاني وهو (الإذلال) يعتبر أشمل من الأول الذي يقتصر فقط على نوع واحد من ذلك الإذلال ودرجة منه. أما المعنى الأول وهو (الإماتة) يعتبر اقتصارا على جزء من معنى اللفظ وتفسير القتل في أي نص على أنه إماتة يحتاج الى قرينة واضحة أو دليل منطقي أو لغوي. كما أن الوقوف عند (الإماتة) يضعنا، بحسب الباحث، أمام عُقد غير قابلة للحل عند تناول بعض النصوص القرآنية. كما أن الوقوف عند المعنى الأول وهو (الإماتة) يجعلنا نقع في ظاهرة الاختلاف التي ينفيها القرآن عن نفسه إذ أن تفسير بعض الآيات التي تتحدث عن القتل بأنهُ إماتة يجعلنا نقف على النقيض من بعض الآيات الأخرى أو مع مبادئ المنطق الفطري.
يقترح الباحث قصي الموسوي تعريفاً لمعنى القتل وهو (قَتَل بمعنى: حاول أنْ يكبحَ جماحَ شيئ أو يقلل من طاقتهِ بدرجات مختلفة قد تصل في بعض الأحيان إلى الإماتة والإهلاك والإنهاء كما في حالة ”قتل النفس).
لجأ الباحث إلى (الفعل اللازم والفعل المتعدي) وكيف يفرّق علماء النحو بينهما فالفعل اللازم: (هو الفعل الذي يستقر حدوثه في فاعله ويكتفي برفعه ليتم معناه. ماتَ / ضل / مَرِضَ / نامَ) أما الفعل المتعدي فهو (الفعل الذي يتجاوز فاعله وينصب مفعولاً به ليستكمل معناه. ضربَ / رسمَ / كتبَ / قطعَ) كما أورد القاعدة المشهورة في التفريق بين النوعين تعتمد على اضافة الهاء والكاف إلى الفعل فإذا قبلها فهو متعدٍ وإذا رفضها فهو لازم .
يخلص الباحث إلى أنّ هذا التفريق يجعلنا نضع الفعل (قَتَل) في خانة الأفعال التي تحتاج إلى مدى
وميدان للتحرك، وبدرجات متفاوتة لأنهُ فعل متعدٍ يختلف عن فعل الموت أو النوم مثلاً وهي أفعال تحدث بقدر متساوٍ ومرة واحدة. ذكر الباحث أن الفعل المتعدي يمكن يقبل باشتقاق صيغة المفاعلة التي لا يقبلها الفعل اللازم كأن تقول: (تكاتب الرجلان / تقاتل الفارسان). وهذا الفرق بين النوعين من الأفعال يمكن الاستفادة منه بنفس طريقة الاستفادة من الضمائر” هاء” و”كاف“”للتفريق بين النوعين.
نوّه الباحث إلى أن كون الفعل “قَتَل” هو فعل متعدٍ يجعله لا يقف على معنى واحد محدد بدرجة واحدة، وإنما هو يحتاج، كسائر الافعال المتعدية، إلى مدى يتحرك فيه ويرغب المتلقي في معرفة ذلك المدى. وهذا يجعلنا مفعمين بالأمل في حصولنا على نتيجة إيجابية من قضية رفض المعنى الدارج “المحدود”عن “القتل” على أنه “إماتة “. وهذا الأمر سيتيح لنا فهم المعاني ضمن سياقاتها بدقة كبيرة.
أشار الموسوي إلى أن النظر إلى الفعل “قتل” على أنه فعل متعدٍ يجعلنا نبحث دائماً عن الحدود التي يقع فيها ومقدار قوة هذا الفعل وشدة تأثيره في المحيط. وقد أورد بعض الآيات القرآنية التي تؤكد صحة ما يذهب إليه مثل “يَا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَ ة عَنْ تَرَاض مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِن الله كَانَ بِكُمْ رَحِيما” (29 النساء 4) “وَوَصى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِ ي إِن الله اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُن إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ” (132 البقرة 2).
ويستنتج الباحث بأن “القتل” متعدد المديات والأوجه بينما “الموت” واحد. ومن مقارنة المثالين نرى أن الآية الثانية تتحدث عن موت واحد بينما تتحدث عن ملايين الإحتمالات في قتل المؤمنين أنفسهم في سبيل المال ومحاولة التغلب على الآخر والاستيلاء على أمواله مثلا. وبالنتيجة يمكن أن نخلص إلى أن المعنى المقصود في العبارة “وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ” الواردة في آية سورة النساء هو ليس “الإنتحار” وإنما تسليط ضغوط غير محبذة على النفس وكسر حدتها في مسعى للحصول على المال وسواء كانت هذه النفس ذاتيه أم نفس أخرى من المجتمع.
درس المحاضر بعض النماذج التي تتيح إمكانية استعمال التعريف الأوسط نطاقاً للقتل والتحقق من إمكانية ذلك في مساعدتنا لحل مشاكل استعصت على المفسرين من قبيل:
* قتل الأولاد والأبناء واشتراط أنْ لا تقتل المؤمناتُ أولادهن .
* القتل الذي أمر موسى قومه بأن يمارسوه بعد عبادة العجل.
ثم تطرق إلى قتل الأود خشية إملاق. كما توقف عند معنى “الوأد” وقد استشهد بالآية الكريمة التي تقول “وَإِذَا الْمَوْءُودَة سُئِلَتْ” (8 التكوير 81) “بِأَيِّ ذَنْب قُتِلَتْ” (9 التكوير 81) هل تتحدث هذه الآية عن البنت التي دفنها ابوها حية؟ لا يعتقد الباحث لعدة أسباب منها أن السياق يتحدث عن أجواء يوم القيامة والوأد ليس من أمهات الامور قياساً بما فعل عتاة المجرمين والكفرة. إضافة إلى أن البنت التي وئدت لا تدري لماذا حصل لها هذا، فلماذا تُسأل هي ولماذا لم يكن الخطاب لمن وأدها؟
يرى الباحث أن معنى الموءودة المشتقة من الفعل “وَأَدَ ” ومعناه: أثقل، وغطى بثقل. هو:”النفوس التي وأدها أصحابها” لأن عبارة “وَإِذَا الْمَوْءُودَة سُئِلَتْ ” جاءت بعد عبارة “وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ” بمعنى أن النفوس جرى ترتيبها بطريقة زوجية بناءً على معايير معينة ثم جرى طرح السؤال على النفوس الموؤدة. وبذا يكون السؤال إلى النفس التي وأدها صاحبها منطقيا باعتبار أن السؤال بالنتيجة موجه إلى ذات الشخص المكلف والمسؤول عما قرره في حياته الدنيا.
ثم توقف الباحث عند معنى “الدس” و “الهون” ثم عاد مرة ثانية إلى معنى “القتل” و “الإماتة” وختم حديثة يتضح بالقول “إن الأقرب للقبول هو تفسير الأمر بالبخع أو تذليل النفس وقتل رغباتها غير المناسبة وذلك في سبيل تطوير الإيمان وتعزيزه في نفوسهم”. لفت الباحث اهتمام الحاضرين إلى أنه يروم إشاعة نوع من التدريب على المنهجية ذاتها وترك الأمر منوطا بكل شخص ليجد فهمه الخاص لهذا النص المكتوب أو تكوين فهم أوسع من خلال النص القرآني المتمثل بما هو موجود في هذا الكون باسره”. ثم دار حوار معمق بين الجمهور والباحث الذي قدم إجابات شافية لأسئلتهم العديدة التي تصب في جوهر موضوع المحاضرة.