عدنان حسين أحمد
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الصحفي والكاتب عدنان حسين، رئيس التحرير التنفيذي لصحيفة المدى، فيما اضطلع بمهة التقديم وإدارة الأمسية الناقد عدنان حسين أحمد. استهل المُحاضر حديثه بالقول: “قبل أسبوع التقيتُ في “بيت السلام” صديقتي العزيزة إنعام كجه جي وكان سؤالها الوحيد الذي سألتني إياه باستغراب شديد: شلون عايش ببغداد؟ فقلت لها أجيبك على هذا السؤال في أمسية الأسبوع القادم”. في هذه الأمسية أحاول أن أجيب على سؤال إنعام. وفي الحقيقة أنا اخترت هذا العنوان لأنه الأخوة في المؤسسة طلبوا أن يستضيفونني في أمسية ثقافية ففكرت مع نفسي أن أتابع الشأن السياسي لكن هذا البيت لا علاقة له بالسياسة لأنهم متخمون بها وموجوعون منها فقلت أنسب شيئ أن أعطي فكرة للناس من خلال طرح السؤال الآتي: كيف يعيش الناس في بغداد؟ لأنه هذا السؤال يُسأل دائماً عندما آتي إلى لندن أو أذهب إلى أي مكان آخر، خصوصاً الناس الذين لا يذهبون إلى بغداد إلاّ قليلاً.
صحفي نصف مرفّه
“كيف تمضي الحياة في بغداد؟ وكيف يمضي واحد مثلي يومه، خصوصاً وأنا صحفي معارض كما يقولون عني ولا أخاف. أنا أعتبر نفسي نصف مدلل ونصف مرفّه في بغداد. كل ما سأتحدث به عن معاناتي ومعاناة الصحفي هي أن هناك صحفيين لديهم معاناة أكبر وأعمق وأشدّ من معاناتي. أنا نصف مرفّه لأنني أسكن في بيت على حساب الجريدة في مكان آمن وفي منطقة محروسة جداً، ولدي سيارة وسائق يتنقل بي. هذه الفرصة لا تتوفر لكل الناس. وصعوبة التنقل ترجع لأسباب أمنية كثيرة. فالأحياء البغدادية مغلقة، ولا يوجد سوى مدخل واحد ومخرج واحد لكل حي. فثمة صعوبة في الوصول إلى مبنى الجريدة يومياً، وقد يستغرق الوقت ربع ساعة، ولكنه قد يمتد إلى ساعة أو ساعتين أو أكثر. وربما لا يستطيع السائق أن يصل خلال ساعة أو ساعتين أو لا يصل في بعض الأيام. حينما أصل إلى مقر الجريدة يواجهني السؤال الآتي وهو: ما الذي سنهتم به اليوم من موضوعات؟ فمسألة الكتابة يومياً أمر سهل لأن الأحداث متتالية وكثيرة، والأوضاع الأمنية مضطرية، والوضع الاقتصادي غير مستقر، والصراعات بين القوى والشخصيات السياسية على أشدها، وبالتالي فالجريدة لا تستوعب أحياناً كل ما يُلاحق في ذلك اليوم”.
صحافة رأي
أشار المحاضر إلى أن اتجاه الصحف هذه الأيام هو نحو التقارير والتحقيقات بحيث لم تعد الصحيفة وسيلة أخبارية كما كانت في السابق ذلك لأن الأخبار تصل بعد ثوانٍ من كتابتها وتحريرها في المواقع الأليكترونية أو وكالات الأنباء عبر الآيفون والتليفون والآيدباد أو الإيميل. ثم أضاف بأن الصحافة الآن هي صحافة رأي أكثر منها صحافة خبر. وما نعاني منه هو قلة الصحفيين المحترفين في البلد لأن وطننا أُفرغ تماماً منذ نهاية السبعينات من كل كوادره المحترفة وخصوصاً في ميدان الإعلام، وربما كان ميدان الإعلام هو أكثر الميادين التي تعرضت إلى تشويه وتخريب متعمدين، لأنه في عهد النظام السابق كانت هناك سياسة متعمدة لتبعيث الإعلام وتسيّيسه.
ذكرَ المحاضر بأنه بدأ بدراسة الإعلام في العراق منذ سنة 1966 علماً بأن هذا القسم قد انطلق في عام 1963، غير أن القبول في هذا القسم وقسم الصحافة أيضاً قد اقتصر على البعثيين أو أنصار حزب البعث في الثمانينات والتسعينات، كما هو الحال كلية التربية والتربية الرياضية وغيرها من الكليات. لم تكن دراسة الصحافة والإعلام حقيقية في العراق وبالتالي لم تتكدس لديهم خبرات حقيقية للذين عملوا في الصحافة والإعلام. وحينما كنا نراقب من الخارج صحافة الداخل كنا نراها صحافة تقارير سياسية لمديح النظام.
أشار المحاضر إلى أن الموضوعات التي تُقدم من بقية الأقسام في صحيفة “المدى” فيها نواقص كثيرة على صعيد التحرير، وطريقة المعالجة، واللغة نفسها، وهذا الأمر له علاقة بتردي مستوى التعليم إلى أبعد الحدود.
نوّه المُحاضر بأنه لم يكن يتوقع أن الأوضاع قد تردت في زمن النظام السابق إلى هذا الحد، وضرب مثالاً في هذا الصدد حينما احتاجوا في صحيفة “المدى” إلى مصححين لغويين فصادف إحدى المتقدمات التي كانت تحمل شهادة الماجستير في اللغة العربية، وهي متخرجة من كلية الآداب التي نعتبرها أفضل كلية في تدريس اللغة العربية وآدابها في العراق. وفي الصحيفة نعمل كالعادة اختباراً للمتقدمين، يتضمن الاختبار عشرين سؤالاً تشتمل على أخطاء في اللغة العربية غير أن هذه السيدة في أخطأت عشرين خطأً في أسئلة الاختبار! يعتقد المحاضر أننا في العهد الجديد لم نعالج هذه القضية وأن هناك ممارسات وأخطاء جسيمة لا تختلف عن الممارسات في العهد السابق.
توقف المحاضر عند ظاهرة الفساد العلمي والإداري فثمة أستاذة جامعية رفضت أن تُنجح طالبين ينتميان إلى الأحزاب الإسلامية على الرغم من ضغوط رئيس القسم والعميد وقد سحبت الكلية يدها من تدريس هذه المادة وأسندتها إلى أستاذة أخرى. البعض من الأساتذة يسعِّر كل درجتين بمئتي دولار بشكل علني وصريح.
مهنة منْ لا مهنة له
أشار المحاضر إلى أن الصحافة يجب أن تلتزم بميثاق الشرف المهني، ولكن هذا الشيئ غير معروف بالعراق على الإطلاق خصوصاً في الصحف الصغيرة التي فتحتها بعض الأحزاب أو بعض الأشخاص الذين يمتلكون وسائل الإعلام من أجل غسيل الأموال، أو الحصول على أموال بطريقة غير مشروعة، أو من أجل أن تكوين علاقات قوية بشخصيات سياسية متنفذة. وذكر المحاضر بأن هناك أكثر من عشرين صحيفة في بغداد لا تطبع أكثر من 500 نسخة، ولكن تقف وراء هذه الصحف جهات مشبوهة، ومهمة هذه الصحف هي التجريح ببعض الشخصيات السياسية، كما تمارس علناً القذف والسب والتشهير خلافاً لميثاق العمل الصحفي. يعمل في هذه الصحف، كما ذكر المحاضر، أناس لا علاقة لهم بالصحافة. وقد وصل العدد إلى أكثر من مئة صحيفة ومجلة تصدر يومياً في بغداد. وهناك أعداد غفيرة تشتغل في هذه الصحف بحيث أصبحت مهنة الصحافة مهنة مَنْ لا مهنة له! أشار المحاضر بأنهم في صحيفة “المدى” حينما أرادوا إطلاق “إذاعة المدى” فضّلوا بطبيعة الحال خريجي الإعلام، والعلوم السياسية، واللغة العربية، والقانون لأنهم يمكن أن يكونوا مندوبي أخبار أو محررين في الإذاعة، لكن الذين تقدموا كانوا أناساً مختصين بالأحياء والهندسة الميكانيكية وغيرها من الاختصاصات العلمية البعيدة عن العمل الإذاعي ومتطلباته وحينما سأل المحاضر بعضهم عن سبب تقديمهم إلى الإذاعة كان الجواب هو: “عسى أن تتاح لنا فرصة للعمل”.
تضم نقابة الصحفيين الآن أناساً من خارج المؤسسات الإعلامية وهم يدفعون مئة وخمسين ألف دينار كي يحصلوا على هوية نقابة الصحفيين، فلا تستغرب أن تعثر على سائق سيارة أوفيترجي أو سائق سيارة يحمل هوية نقابة الصحفيين العراقيين، والأسباب كثيرة منها الحصول على تخفيض على الخطوط الجوية نسبة خمسين بالمئة، أوتمشية معاملاته الشخصية في الدوائر الرسمية أو الحصول على قطعة أرض وما إلى ذلك. اعتبر المحاضر أن أحد الاسباب التي دفعت النخبة الصحفية لإنشاء النقابة الوطنية للصحفيين العراقيين لأنهم يريدوا أن يؤسسوا نقابة صحفية تعمل وفقاً للقواعد والأصول المهنية، وليس كالنقابة القائمة حالياً التي لا تتمسك مع الأسف بهذه القواعد والأصول المهنية.
معاناة الصحفي
توقف المحاضر عند معاناة الصحفي حينما يُكلف بتغطية حدث صحفي في الميدان أو في الشارع، ذلك لأن هناك دائماً ريبة حول الصحفي سواء من الجيش أم الشرطة أم من القوات الخاصة حيث يُنظر إلى الصحفي كما يُنظر للإرهابي، وما إن يروا كاميرا صحفية حتى تُستنفر العناصر الأمنية. وحينما أرادوا أن ينجزوا مشروع “مذكرات شارع” وتصويره عانى المصورون كثيراً لأن العناصر العسكرية لا تسمح بالتصوير في الشوارع والأماكن العامة. لفت المحاضر الانتباه إلى أن منطقة البتاويين قد تحولت إلى بؤر دعارة ومخدرات، كما أنها تشهد تكثيفاً أمنياً على الدوام الأمر الذي يعرقل عمليات التصوير دائماً بحجة هذا المنع الذي لا نعرف مصدره فليس هناك قطعة مكتوبة تشير إلى هذا المنع، كما أن القانون الرسمي للدولة والبرلمان لا يشير إلى ذلك. تلجأ القوى الأمنية أحياناً، كما ذهب المحاضر، إلى أسهل الحلول وهي قطع الشارع أو غلق المنطقة كلياً. كما يتعرض الصحفيون أحيانا إلى اجراءات زجرية مزعجة جداً من قبل قوات الأمن التي تحطِّم الكاميرات، وتلاحق هذا الصحفي أو ذاك. ويرجع هذا الأسلوب المزعج إلى عدم وجود وعي لدى قوات الأمن بطبيعة العمل الصحفي الإعلامي وأهميته، بل أن العناصر الأمنية وقوات الجيش والشرطة تعمل الآن بعقلية النظام السابق وكأن الأمر لم يتغير منذ عشر سنوات.
حماية الصحفيين
عرّج المحاضر على قانون حماية الصحفيين والإعلاميين العراقيين الذين ضحوا بأكثر من مئتي صحفي وإعلامي خلال السنوات العشر الماضية. وأضاف المحاضر بأنه في سنة 2011 كانت لديهم تجربة فيما يسمى بقانون حماية الصحفيين. وقد تمتع الصحفيون منذ عام 2003 وحتى 2011 بحرية مطلقة في العمل الصحفي لأنه لا يوجد قانون ينظم العمل الإعلامي والصحفي، كما لا توجد قيود قانونية تُلزم الصحفيين والإعلامين العمل بموجبها. أما القانون الوحيد الساري المفعول فهو الذي يتعلق بجرائم النشر، وقد اضطرت الدولة أن تؤسس محكمة خاصة بجرائم النشر. أما مشروع قانون حماية الصحفيين العراقيين الذي قُدم إلى مجلس النواب والذي استنكره الصحفيون بشدة لأنه يحد من الحرية التي أتيحت للصحافة منذ 2003 وقد أسماه المحاضر بالقانون الذي يؤمِّن حقوق الحكومة أو الدولة ويسلب حقوق الصحفيين ولذلك فقد عملوا احتجاجاً ووصل الأمر إلى مجلس النواب حيث قدّم المحاضر ورقة أساسية ثم ذهب مع مجموعة من أقرانه الصحفيين وقابلوا رئيس مجلس النواب، ونائب رئيس مجلس النواب، وعدد من أعضاء مجلس النواب من كتل مختلفة. وعندما جلسوا مع النائب الأول لرئيس مجلس النواب الأستاذ قصي السهيل لفت نظرهم موقفه المؤسف حينما قال: قال: “أنتم تريدون إعلاماً حراً؟” فقالوا: طبعاً الإعلام هو أصلاً إعلام حر وأنتم تريدون تقييده!” ونحن دولة ديمقراطية فيها دستور يضمن لنا هذه الحرية ويكفلها. وكان ردّه: “أننا دولة إسلامية وهناك شروط يجب أن تُراعى”. وبعد شد وجذب ذكر رئيس المجلس بأنه تعرّض إلى ضغط شديد من الحكومة وأصدروا القانون.
الوصول الحر للمعلومة
كان همنا ولا يزال، كما ذهب المحاضر، هو حق الوصول الحر إلى المعلومة وحق نشرها أيضاً لأن كل الأنظمة الديمقراطية تقوم على هذا الأساس. أكد المحاضر بأن أكثر القوانين العاملة الآن هي قوانين النظام السابق، وقد فشل مجلس النواب بعد عشر سنوات في إيجاد أو إصدار قوانين بديلة، علماً بأن أكثر الفئات التي تعرضت إلى استهداف مباشر هم الإعلاميون والصحفيون على الرغم من صدور قانون حماية الصحفيين، فكل شهر هناك حادث لمقتل صحفي. لم تتورع بعض المليشات عن مهاجمة صحف ووسائل إعلام عراقية لأنها نشرت أخباراً تعتبرها غير متماشية مع الوضع الجديد، فهناك أربع صحف قد تعرضت إلى هجمات لأناس مسلحين كسروا ودمروا معدات الصحفيين ومكاتبهم، وفي إحدى الحالات ألقوا بأحد المحررين من الطابق الثاني إلى الشارع، وحتى الآن لم تقم لا الدولة ولا السلطة القضائية بإحاطة الناس علماً بهؤلاء الذين قاموا بهذا العمل جهاراً نهاراً وفي أربعة أماكن مختلفة. لا تزال الدولة أو الحكومة تنظر إلينا كمعارضين أو مناوئين لها وكأنها تقوم بتصفية حساباتها مع الناس وهذا غير صحيح، بل أنها نظرة قاصرة عندما يضعون الصحفيين والإعلاميين في دائرة الشك حينما ينشروا هذا الخبر أو يكتبوا ذاك التقرير.
الحراك الثقافي
توقف المحاضر في ختام حديثه عند الحراك الثقافي لأنه يعتبر الصحافة والإعلام جزءاً من الحياة الثقافية. فهناك حراك ثقافي ممتاز في العراق رغم كل الظروف القائمة الآن لعل أبرزها تجربة يوم الجمعة في شارع المتنبي الذي يعد سوقاً ثقافياً متميزاً في بغداد حيث تُعرض كتب متنوعة على الأرصفة مثل كتب صدام حسين وعفلق إلى جوار كتب محمد باقر الصدر أو يوسف سلمان، هؤلاء الناس الذين لم يتعايشوا في حياتهم، لكنهم يتعايشون الآن على الأرصفة. هناك عدة مقاهٍ ثقافية مثل مقهى الشابندر والقيصرية ومقهى آخر جديد في النادي الثقافي، وقد أصبحت هذه المنطقة تخص المثقفين والإعلاميين. كما يشهد شارع المتنبي لقاءات وفعاليات ثقافية تقوم بها مؤسسة المدى كل يوم جمعة، كما يقوم النادي الثقافي البغدادي بأنشطة ثقافية مماثلة. وذكر المحاضر بأنه شخصياً يذهب بين أوان وآخر كي يستمتع بالمقام البغدادي والبستات، وقد يكون إلى جانب هذا النشاط معرض تشكيلي أو ندوة فكرية أو ورشة عمل ثقافية. فلقد أصبح شارع المتنبي رمزاً للدفاع عن الحريات المدنية في بغداد. ففي عهد المحافظ السابق تعرضت بعض المؤسسات الثقافية العريقة التي تمتلك نواد اجتماعية إلى هجمات غير مبررة حيث قامت قوات مسلحة بتكسير وتدمير وغلق هذه الأندية الاجتماعية الأمر الذي حفّز المثقفين للاحتجاج في شارع المتنبي والقيام ببعض المظاهرات الصغيرة للتنديد بهذه الهجمات والمطالبة بتوسيع نطاق الحريات المدنية. كما توقف المحاضر أيضاً عند المقاهي الثقافية في شارع المتنبي حيث يلتقي الناس من مختلف المشارب والأحزاب في هذه الأمكنة الحميمة بخلاف الزمن السابق حيث تجد البعثيين في مقهى، والشيوعيين في مقهى آخر، والإسلاميين في مقهى ثالث. وحثّ المحاضر المثقفين العراقيين في الخارج على زيارة هذه المقاهي الثقافية والاستمتاع بأجوائها الديمقراطية الجميلة. وفي ختام الندوة أجاب اللكاتب والصحفي عدنان حسين على أسئلة الحاضرين وعلّق على مداخلاتهم الشيقة والعميقة في آنٍ معا.