عبد الله صخي –
نظمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للقاص والروائي عبد الله صخي. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الحوار الناقد عدنان حسين أحمد. ونظراً لأهمية الشهادة التي قدّمها عبدالله صخي ننشرها بالكامل في موقع مؤسسة الحوار الإنساني.
في مقال له بعنوان “أوطان خيالية” يقول الكاتب الهندي الأصل، البريطاني الجنسية، سلمان رشدي إن مصدر كلمة ترجمة يعود اشتقاقيا إلى الكلمة اللاتينية “ترادوسيره” والتي تعني النقل إلى حيّز أبعد، وقد نُقلنا إلى مكان أبعد من مكان ولادتنا، إذن فنحن كائنات مُترجَمةْ. ويضيف رشدي قائلا إن “هناك اتفاقا على أننا سنخسر في الترجمة شيئا ما، ولكني أتمسك بفكرة أننا سنربح شيئا أيضا”. وبالنسبة لي كنت أحلم دائما بأن أربح شيئا من عملية الترجمة تلك. في العام 1997 كنت أمضي الساعات وحيدا في منزل صغير بعيد غرب العاصمة البريطانية أشيّد خلالها وطناً خياليا خاصاً بي، وطناً لي وحدي بحجم الكف، أقصد بحجم القلب، أرسم منازله وأشجاره وأنهاره وأكواخه ومواطنيه حتى نهض أمامي عالم واقعي أعاد الخيال بناء تواريخه وشخوصه ومصائرها.
ففي ذلك الصيف البعيد من عشرينات وثلاثينات القرن الماضي قدمت المجاميع الأولى من المهاجرين إلى بغداد حالمين بحياة جديدة. تركوا أرياف الجنوب وأهواره هربا من الاقطاع والاضطهاد والملاحقة وعبودية الأرض ومواسم الزراعة التي تضاعف الخسائر والذل والديون، وجاءوا إلى الآمال البراقة في بغداد فسكنوا عند خاصرتها: خلف السدة التي بناها الوالي العثماني ناظم باشا عام 1910 لحماية المدينة من فيضانات النهر الجارفة كل عام. وسرعان ما بنيت صرائف وأكواخ “العاصمة” و“الميزرة”، المنطقتين اللتين تشكلت منهما منطقة خلف السدة.
وسنة إثر سنة، وجيلا إثر جيل، ازدحمت البلدة بالمهاجرين الذين استمروا يتوافدون بدون انقطاع بعد سماع أخبار من سبقوهم الذين حصلوا على فرص عمل مختلفة في المدينة أو في معامل الطابوق التي انتصبت إلى الشرق منهم في العمق البري المفتوح المتصل بالأفق.
هناك، في ذلك الحشد المأساوي من الأكواخ، وسط الظلام والسرجين والمزابل والقمل والبرغوث والصئبان والعقارب والصلال ذهبت إلى المدرسة الابتدائية. ذات يوم سألنا المعلم: من يرغب بقراءة قصة فليرفع يده. رفعت يدي مع خمسة آخرين بينهم بنتان. بعد انتهاء الدرس قادنا الأستاذ إلى غرفة المعلمين. لم تكن هناك مكتبة بل خزانة صغيرة مزججة تقفل بمسمار. أخرج منها مجموعة كتب ووزعها علينا. كان من نصيبي قصة “الأميرة والثعبان”. في الليل قرأتها متعجلا على ضوء خافت رجراج ينبعث من فانوس قديم قبل أن تطفئه أمي وتمتلئ الغرفة الطينية برائحة احتراق فتيلته المتآكلة. “الأميرة والثعبان” هي قصة الأطفال الوحيدة التي قرأتها وذلك لعدم وجود طفولة في طفولتي باستعارة تعبير انطوان تشيخوف.
تلك الأيام، وفي محاولة مخلصة لإنقاذ ذلك التجمع البشري من الموت اليومي نقلهم رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم إلى مدينة الثورة. لكن الصراعات السياسية لم تمهله لإكمال مشروعه الذي خطط له بحب فأكمله غيره على مضض. هكذا تكونت رواية “خلف السدة” التي تناولت ذلك العالم وأثر الصراعات السياسية الدموية عليه وعلى مستقبله.
في المدينة الجديدة نشأ فتية متجهمون نزقون، طباعهم حادة. كانوا مستلبين مقموعين في البيت والمدرسة والشارع والمقهى والسوق ما خلق لديهم شعورا بالتمرد والعصيان فانهمكوا في مواجهة السلطة مهما كان نوعها. إنهم نبلاء ومتسولون، أوفياء وغدارون، صالحون وطالحون، يدافعون عن الشرف وينتهكونه، يمارسون قيم الفضيلة وينتصرون لغيرها، يتطلعون إلى الفرح وحين يأتي يحولونه إلى مأتم، يستجيبون لنداءات بعضهم في لحظات صفاء نادرة، وفي لحظات أخرى يمزقون أجساد أصدقائهم ومعارفهم بالسكاكين أو يشلون أعضاءهم بالخناجر.
في هذه الأجواء، التي ستشكل أحد معالم روايتي الثانية دروب الفقدان، بدأت أحبو في طريق التأليف فكتبت محاولة قصصية، حكاية عن جندي، وأعطيتها، كعادة الطلبة، إلى مدرس اللغة العربية في ثانوية قتيبة الأستاذ خليل بنيان كي يفحصها لي. وإذ أثنى على ما كتبت أوصاني بالقراءة الجادة، القراءة بلا انقطاع. وبعد أيام قال لي وهو يضع كتابا على الرحلة: اقرأ هذا قبل أن تكتب. كان مجموعة قصصية ليوسف إدريس عنوانها “النداهة”. انبهرت بها، بأدائها وعمقها، يومها لم أكن مطلعا على النتاج القصصي العراقي. واستجابة لنصيحة استاذي قررت ألا أكتب حتى تنضج أدواتي الفنية.
عصر يوم جمعة توقفت أمام عرض للكتب المستعملة قرب محل جقماقجي لتسجيل الاسطوانات في شارع الرشيد. كنت أحدق بالكتب الكثيرة المفروشة على الرصيف والمعلقة على جدار الشارع حائرا في الاختيار عندما تقدم مني فتى صغير ناحل كالحرف، سلّم علي وحيّاني باسمي وقال إننا التقينا خلف السدة فتذكرته. القى نظرة سريعة على الرصيف والتقط رواية اسمها “بائعة الخبز”. قال وهو يعرضها علي: “لا تشتريها، أقراها ورجعّها وانطيك غيرها”. ورحت أمر عليه أيام الجمع والعطلات فأخذت منه روايات مثل عمال البحر، أحدب نوتردام، كوخ العم توم، والآمال الكبيرة، وغيرها. لن أنسى تلك الخدمة الجليلة التي وفرها لي ذلك الكتبي الصغير الذي تضوع منه رائحة الورق.
مرة ذهبت إلى المكتبة المركزية في الباب المعظم بقصد استعارة بعض الكتب فرفضوا إعارتي لأني لست من طلاب جامعة بغداد. وهناك، بين جدران الكتب والمخطوطات، لمحت شخصا أعرفه. كان زميلا لي في المدرسة الابتدائية. أكد أنه لا يحق لي سوى المطالعة داخل المكتبة لأني من طلاب الجامعة المستنصرية، لكنه وجد حلا مذهلا هو أن يستعير الكتب التي أريدها باسمه. وبدأ يعطيني كل خمسة كتب دفعة واحدة مع التوصية بالحفاظ عليها من التلف أو الضياع لأنه سيدفع غرامة على ذلك. إني اتذكر، بكل الحب والاحترام، أولئك الذين ساعدوني على الطيران بأجنحة غضة.
كانت الحكاية البدائية تنمو من حولي فتأخذ أشكالا مختلفة: مجيء طالب جديد منقول، حريق في بيت مجاور، شجار في مقهى، معركة بين قبيلتين، أمنية اقتناء دراجة هوائية. كنت أعيد تشكيل تلك الحكاية المثيرة للدهشة للحد الذي أصبح بطلها. إني أصغي إليها بكل حواسي فتهزني رعشة الخائف وأسافر عبر خيال متوثب سرعان ما يعيدني إلى الحقيقة، فالخيال يخلق الحقيقة برأي فاغنر.
هكذا ظلت الحكاية بالنسبة لي كالأم الجأ إليها في لحظات الشوق والسأم والخوف حتى جاء يوم انفض فيه مجلس الحكاية وتفرق الفتية، رواد الكلام، وعاد الجنود من ثكناتهم بإجازات ليعقدوا مجالسهم الليلية ويرووا لنا حكايات جديدة في الظلام قرب سرادق المآتم أو تحت الضوء الشحيح لأعمدة الكهرباء. تلك الحكايات ستجد صداها في عدد من القصص التي نشرتها في الصحف العراقية أواسط السبعينات.
وفي إطار بحثي عن الحكاية التي أنشدها عثرت على نماذجها الحديثة، النموذج الموباساني ثم التشيخوفي، بعدها سحرني ذلك النموذج في صيغته العراقية من خلال عبد الملك نوري (العاملة والجرذي والربيع)، غائب طعمة فرمان (عمي عبّرني)، فؤاد التكرلي (العيون الخضر)، محمد خضير (حكاية الموقد)، فهد الأسدي (يأجوج ومأجوج)، جليل القيسي (أنا لمن وضد من) وفاضل العزاوي (كانت الطائرات تحلق عاليا). هذه النماذج نأت عن السرد التقليدي التأسيسي في الثلاثينات والأربعينات الذي اتسم بالشعارات والخطاب الوعظي الإرشادي كما هو لدى محمود أحمد السيد، جعفر الخليلي، ذو النون أيوب، أنور شاؤول إدمون صبري. لقد شيدت القصة الخمسينية والستينية معمارا فنيا مبتكرا دفعني إلى الاهتداء بأضوائه المشعة الملهمة فكانت لحظة التحول، التي قادتني إليها فنارات أولئك المعلمين الكبار، لحظة القصة القصيرة الحديثة التي يعتبرها ميشال بوتور أحد المقومات الأساسية لإدراك الحقيقة، ثم الرواية التي يراها جان بول سارتر تصفية حساب مع الماضي. ذلك الماضي الذي عانى فيه الإنسان العراقي القهر والاضطهاد. لقد حاولت دائما أن اكشف الجانب البطولي لدى ذلك الإنسان في مواجهة التعسف والاستبداد، وعبقريته في التعامل مع الآلام والنكبات.