عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثالثة للأستاذ قصي الموسوي تحدث فيها عن موضوعه التأويلي الذي انضوى تحت عنوان ” قراءة منهجية جديدة في النص القرآني”. وقد خصص القسم الثالث منه لتأويل ثلاث كلمات وهي “الذبح، القتل، القطع” معززاً إياها بتطبيقات نظرية تنتصر للاجتهاد وإعمال الذهن الذي يجب أن يعتمد على الجوانب المنطقية والعقلانية. توقف الموسوي في محاضرته الثانية عند الفعل اللازم والفعل المتعدي. ويرى أن الأفعال المتعدية في النص القرآني تزحف وتلتصق بجزء معين من المعاني الواسعة التي تحفزنا لأن نعيد النظر في كثير من الفهم الموروث لكثير من الآيات القرآنية التي تعددت تأويلاتها وتفاسيرها.
أورد الموسوي مثالاً للفعل المتعدي “شَنَقَ” وتأثيره على تكملة الجملة. فحينما يُصدر القاضي حُكماً بالشنق وفقاً لقانون العقوبات الجنائي يتوجب عليه أن يوضح الحدود القصوى للشنق كأن يقول:” حكمنا على المتهم الفلاني بالإعدام شنقاً حتى الموت”، أي أن السلطة التنفيذية ستكون مسؤولة عن تنفيذ الحكم بما يؤدي إلى الموت كأن تُعيد أو تُطيل مدة تعليق المُدان على المشنقة حتى تفارق روحه جسده. بينما إصدار حُكم الموت لا يحتاج إلى تعيين للحدود القصوى. واستشهد الباحث بالآية الكريمة التي تقول:” من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنّما قتل النّاس جميعاً ومن أحياها فكأنّما أحيا النّاس جميعاً” (المائدة 32) وهو يرى أن هناك تحديداً لأمرين في القتل المرفوض، الأول قتل إماتة، والثاني قتل ابتدائي وليس عقوبة. فالنص لم يقل “قتل” فقط ولو قال ذلك لشملت الآية كل درجات القتل.
تتمحور هذه المحاضرة على ثلاثة أفعال متعدية اعتبرها الباحث من “أخطر الأفعال القرآنية المتعديّة” وهي الذبح والقتل والقطع. فالذبحُ، بحسب تأويل الباحث هو ” استهلاك طاقة أخرى من أجل هدف معين”. والقتلُ هو ” التقليل من فعالية طاقة أخرى من أجل هدف معين”. أما القطعُ، فهو “وضع حد على الشيئ يتراوح بين التصور والفعل”. ولتعزيز وجهة نظره استشهد بسورة الصافات الآيات:” 99 – 111″ التي تقول:”رَبّ هَبْ لِي مِنَ الصّالِحِينِ * فَبَشّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ * فَلَمّا بَلَغَ مَعَهُ السّعْيَ قَالَ يَبُنَيّ إِنّيَ أَرَىَ فِي الْمَنَامِ أَنّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَىَ قَالَ يَأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤمَرُ سَتَجِدُنِيَ إِن شَآءَ اللّهُ مِنَ الصّابِرِينَ * فَلَمّا أَسْلَمَا وَتَلّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَن يَإِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيَآ إِنّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنّ هَـَذَا لَهُوَ الْبَلاَءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ * وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الاَخِرِينَ”. وتدور هذه الايات على إبراهيم (ع) وفكرة ذبح ابنه التي اتفق عليها غالبية المفسرين بأن إبراهيم قد رأى مناماً مفاده أن يذبح ابنه إسماعيل كما تُذبح الأنعام وأن إسماعيل قد طلب من والده تنفيذ هذا الأمر الذي اعتبره إلهياً وأنه سيصبر على عملية الذبح، غير أن الملائكة أفهمته بأن الأمر قد أُلغي وجاؤوه بخروف كي يذبحه. ومن هنا أُخذ تقليد ذبح الأغنام في موسم الحج.
ولكي يثبت الباحث براءة إبراهيم من قضية اقدامه على ذبح ابنه على الْأقل في حدود النص القرآني لذلك توجب عليه أن يعيد شرح القصة من وجهة نظره شخصياً. فحينما كان إسماعيل يعمل مع والده في بناء البيت الحرام بهدف توحيد الناس والابتعاد عن عبادة الأصنام شعر إبراهيم أن ابنه غير مسؤول عن رؤياه الشخصية. ثم أيقن أن ولده مرهق بالعمل من دون مسوّغ أخلاقي أو شرعي لذلك خاطبه بالقول:”إني أذبحك”، أي أنني أرهقك بالعمل في هذا الهجير. ويعتقد الباحث أن مفهوم “الذبح” الذي نستعمله اليوم هو نفسه حينما نقول: “أن فلاناً ذبح ابنه في العمل ولم يقدِّر طفولته مثلا”. وحينما ردّ عليه إسماعيل:”قال يَا أَبَتِ افعَل مَاتُؤمَرُ”. ويفسر الموسوي هذه الجملة بأن “إسماعيل كان يؤمن بأن عملية بناء البيت الحرام هي أمر الهي ولا حيلة لأبيه إبراهيم بالأمر”. أما آية “ستجدني إِن شَاءَ اللهَّ مِنَ الصَّابِرِين” فإنها تتضمن الإشارة إلى العمل الشاق الذي يقومان به في الصحراء بناء على رؤيا شخصية تبدو غير مقبولة. إذاً، يرى الباحث أن الناس الذين كانوا يقصدون الكعبة إنما كانوا “يذبحون” أنفسهم متحمِّلين عناء السفر كي يمارسوا تلك الشعائر التي ابتكرها إبراهيم. فهذا هو معنى الذبح وليس عملية الذبح التي نعرفها.
في القسم الثاني من محاضرته ركَّز الباحث على التفريق بين القتل والتقتيل، إذ وصف القتل بأنه “محاولة التقليل من طاقة الشيئ دفعة واحدة أو في مسعى واحد”. أما التقتيل فهو ” تجزئة فعل القتل إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه”. وكذلك القطع والتقطيع، فالقطع يعني ” وضع حد للشيئ دفعة واحدة”. أما التقطيع فهو ” تجزئة فعل القطع إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه”. ومثلما أسلفنا عن الذبح فهو “محاولة استنزاف أو استهلاك طاقة أخرى من أجل هدف، دفعة واحدة”. بينما التذبيح يعني “تجزئة فعل الذبح إلى أجزاء أصغر وتكرار إيقاعه”.
أشار الباحث إلى أن المبادئ العامة للقوانين الجزائية العربية والغربية يجب أن تتميز بثلاث صفات وهي شرعية العقوبة وقضائيتها وعدالتها. وهذا يعني أن عدالة العقوبة يجب أن تتناسب مع الجرم من جهة، كما أن البدء يجب أن يكون مع العقوبات الأقل، ثم تشديدها كلما تكرر الفعل الجنائي من قبل الجاني. وقد اتخذ الباحث من آية “الحرابة” مثالاً. فالتسلسل الوارد في عقوبة المحارب لله والرسول هو كالآتي:”التقتيل، التصليب، تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف والنفي من الأرض”.
يتساءل المُحاضر قائلاً: إذا كان التقتيل يعني الإماتة فهذا يعني أن العقوبة قد بدأت بالأشد. وإذا بدأت الآية بالأشدّ فما معنى تخفيف العقوبة بعد الإماتة؟ ووفقاً للمنهج اللفظي الترتيلي الذي يقدّم فهماً جديداً للنص القرآني فإن الباحث يرى أن “التقتيل” هو أخف العقوبات، و “التصليب” هو أشدّ منه، وتقطيع الأيدي والأرجل هو أشدّ من العقوبتين السابقتين، أما النفي من الأرض فهو أشدّها جميعا كما ورد في (سورة المائدة، 33)، “إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ۚ ذَٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ”. وقد اعتمد الباحث في تأويله على مفهوم “التشديد” الذي يؤدي إلى تجزئة الفعل وتكراره، فالتقتيل هو محاولة تكرار عملية التخفيف من طاقة المخالف سواء خلال مرة واحدة من وقوع الفعل أم كلما كُرر الفعل المخالف للقانون. فإذا كُرر الفعل ولم ينفع معه التقتيل رُفعت العقوبة إلى التصليب، وإذا لم ينفع معه التصليب ارتقت العقوبة إلى تقطيع الأيدي والأرجل من خلاف، وإذا لم ينفع معه التقطيع تُقام له محكمة كي تُصدر عليه حُكماً بالسجن.
بحسب القراءة المنهجية الجديدة للنص القرآني يوصح الباحث أن معنى “التصليب” هو بالضبط كما جاء في لسان العرب ولأُصَلِّبَنَّكم في جُذُوعِ النَّخلِ، أي على جذوع النخل. ثم يعزز هذا الرأي بالمفهوم العام الذي نستعمله حينما نقول:” ذهبنا الى الإدارة الفلانية وصلبونا في الباب أكثر من ساعة”.
يعتمد الباحث في تفسيره على الجوانب المجازية فـ “الأيدي” التي وردت في الآية الكريمة السابقة لا تعني الأيدي البشرية الحقيقية التي نعرفها، وإنما هي وسائل تنفيذ الإرادة كأن نسمّي الجيش “يد” الدولة، والشرطة “يد الحكومة”. ويستعين الباحث بالنص القرآني الذي يشير إلى أن الأيدي تعني “المال” كما جاء في سورة المسد “تبّت يدا أبي لهب وتبّ، ما أغنى عنه ماله و ماكسب”. أما الأرجل فيفسرها الباحث بأنها وسائل للانتقال وهو يرى أن الأرجل سميت أرجلاً لأنها تشير إلى عملية الرُجُول وهي الحركة والانتقال. وهكذا يرى الباحث أن القطع يعني وضع أكثر من حد للشيئ واستشهد بمقولة قيس بن عبادة “اقطعوا عني لسانه” والمقصود بالقطع هنا إعطاءه المال وإسكاته عن الإلحاح الذي كان يمارسه وليس اقتلاع لسانه من حلقومه. كما أن التقطيع في سورة يوسف هو مجرد جروح بسيطة لا غير. وأن التقطيع في سورة الحرابة لا يعني القص أو البتر أو البتك وإنما جملة المعاني المجازية التي أشرنا إليها سلفا. أما العقوبة الرابعة والأخيرة فهي “النفي من الأرض” وتعني العزل عن المجتمع إما بالإبعاد إلى بلد آخر أو بالسجن وهذا المعنى مطابق لما توصل إليه من خلال منهجه اللفظي الترتيلي. ولتقريب الصورة أكثر لجأ المحاضر إلى مثل مستلٍ من حياتنا الراهنة كأن تخرج مجموعة من الناس في مظاهرة غير مرخّصة وتقوم بإتلاف الأملاك العامة وتطالب بإسقاط الحكومة والنظام حينها تبادر الحكومة إلى تخفيف الاحتقان بواسطة تشجيعهم على التعبير عن مطالبهم بطريقة أخرى، وإذا لم ينفع معهم التشجيع فإنها تبادر إلى “التقتيل” ويعني التفريق إما بمطاردتهم أو رشهم بالمياه أو ضربهم بالغازات المُسيلة للدموع. وإذا لم ينفع هذا الإجراء فإنها تقوم بـ “تصليب” بعضاً منهم، والتصليب هنا يعني الاعتقال أو الحجز لمدة قصيرة. وإذا لم ينفع هذا الإجراء فإن الأجهزة المختصة تقوم “بقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف” أي تفرض عليهم غرامات مادية وتفرض عليهم الإقامة الجبرية من دون حرمانه من الوصول إلى أمواله لأن القصد ليس الانتقام وإنما الضبط والردع. وإذا لم تنفع الطرق الأربع أعلاه فيُحال الشخص إلى المحكمة التي قد تحكم عليه بالسجن أو الإبعاد إلى بلد آخر. ينوّه الباحث إلى أن الفقرة الدستورية الواردة في النص القرآني قد أصبحت معقولة وقائمة على التدرّج من الأقل والأخف إلى الأشدّ والأقسى. من هنا نصل إلى أن معنى آية “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما جزاءً بما كسبا نكالاً من الله والله عزيز حكيم” يشير إلى عقوبات مالية أو سجن ولا يعني بأي حال من الأحوال القطع أو البتر أو البتك. وبعد الانتهاء من المحاضر دار حوار معمق بين الباحث وجمهور مؤسسة الحوار الإنساني.