19/05/2013 –
الأحزاب الطائفية ولدت في غفلة من الزمن وتعيش على هامش التاريخ
لندن / عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للكاتب والصحفي العراقي مشرق عباس تحدث فيها عن “محنة التعايش في العراق”. مُستهلاً حديثه بالقول بأنه لا يريد أن ينظِّر، ولكن أحياناً لا يستقيم الحديث من دون نظرية أو رؤية عامة لذلك اختار لنا اقتباسين لمفكرٍ وعالم إحياء بريطاني هو توماس هنري هكسلي يقول في الأول: “الحقائق المُقامة على أسس غير منطقية قد تكون أكثر ضرراً من الأخطاء المنطقية”، بينما يقول في الاقتباس الثاني: “ينتحر العلم إذا اعتنق عقيدة”. وتأتي مناسبة هذين الاقتباسين إلى أن هكسلي هو مُبتكِر الـ “لا أدرية” وهو مصطلح فلسفي ينطوي على جدل إلهي وإجابات مربِكة وخطيرة حول الخلق والإله وما إلى ذلك. ذكرَ عباس بأن اهتمامه باللا أدرية لا يتأتى من كونها منهجاً لتفسير الكون والخلق، وإنما يتعلق بسؤال وجّههُ إلى نفسه مرات عديدة مفاده: “إذا كان الفكر الديني المسيحي أو الإسلامي قد سمح بسؤال اللا أدرية، أي أن تقول لا أدري فلماذا لا يسمح السؤال المذهبي بهذه الإجابة، بل أنه يخيّرنا بين أن تكون منتمياً أو لا تكون؟”. نوّه عباس بأنه تعرّض إلى هذا السؤال المُربِك منذ عام 2003، أي منذ الحِراك الاجتماعي الذي حدث في العراق بعد التغيير، وجوهر هذا السؤال المحدد هو: “هل أنتَ سنّي أم شيعي؟” سؤال ظل يتردّد على سمعه مدة عشر سنوات، لكن لم يصدِّقه أحد حينما كان يجيب بـ “لا أدري”! وهذه هي حقيقة مشاعره الداخلية لذلك اضطر أن يبحث عن أناس لا أدريين مثله على المستوى المذهبي. تصوّر عباس بأنّه حالة خاصة جداً ومنفردة، لكنه اكتشف العكس لأنها تخص شريحة واسعة وغير مرئية في المجتمع العراقي، وهي شريحة متحركة وانتهازية أحياناً لأنها تنقلب من مذهب إلى آخر! فعندما يرتفع سقف المدنية في المجتمع العراقي في فترات معينة تطفو هذه الطبقة العابرة للمذاهب إلى السطح، وعندما تنحسر المدنية في المجتمع تبدأ هذه الطبقة بالتفكك كما حدث بعد عام 2003. لم يرِد المُحاضر أن يحمِّل المسؤولية فقط للوسط السياسي الذي جاء بعد عام 2003 لأنه يعتقد أن هذه القصة قد بدأت في أوائل تسعينات القرن الماضي عندما حدث هناك انتقال على مستوى المذاهب لأن العراق من وجهة نظره بلد متحرك، وقد وصف هذا الانتقال بالانتهازي لأن فيه نوعاً من الجبرية السلطوية خصوصاً حينما يكون المذهب مرتبطاً بدولة، وخطأ الدولة الجسيم هو حينما تتمذهب لأنها تحوِّل بذلك هوية الدولة إلى مذهب أو حينما يتحول المذهب إلى دولة. وصف المُحاضر هذه الطبقة الهشّة من عابري الطوائف بأنها انتهازية وقابلة للتفكّك وهي تحاول أن تضمن مصالحها وتبحث دوماً عن حماية. عاد بنا المُحاضر إلى ما كان يسمّى بالحملة الإيمانية التي قام بها النظام السابق في حقبة التسعينات من القرن الماضي فرافقها انتقال هذه الطبقة العابرة للمذاهب حيث أصبح جزء كبير منهم سُنّة، لكن بعد عام 2003 شهِدنا نفس الحراك غير المرئي وغير الملموس تقريباً، لكنه موجود على مستوى شحصيات وعائلات وشرائح اجتماعية متشابكة داخل المجتمع العراقي وقد أنتجت نماذج جديرة بالبحث والدراسة والتحليل بغية فهم ما سوف يدور في بلدنا لاحقا.
يعتقد المُحاضر أن الطبقة السياسية الجديدة قد ارتكبت خطيئة كبرى بعد عام 2003 حينما أعادت إنتاج مذهبة الدولة أو الهُوية على أساس حكم المذهب، وفي هذه النقطة الحرجة تحديداً أصبحت الدولة والمذهب حاميتين لهذه الطبقة الهشّة التي انتقلت مرة أخرى إلى الجانب الشيعي، فبدأ المدني يرتدي زي رجل الدين، وشرع منْ لا يعرف عائلته وقبيلته بالبحث عن عائلة أو قبيلة جديدة تمنحه لقب السيد، أي ينتمي نَسَبُه إلى الرسول محمد “ص”، وهذا الأمر لا علاقة له بتوفير الحماية التي أشرنا إليها سلفا لأنها تتعلق بطبيعة النظام الذي بدأ يتحول إلى جزء من هيكلية المذهب، فحينما تتقسّم وظائف الدولة من أعلاها إلى أدناها فهذا يعني أن الموظف يجب أن يعلن عن مذهبه بشكل متواصل، بل ويبالغ في إعلانه سواء أكان سُنياً أم شيعياً وهنا يكمن خطر التحاصص، وعلى الرغم من مدنية هذه الطبقة المتطورة لكنها وجدت نفسها محصورة بين الإعلان عن مذهبها أو التكتم عليه. وقد سقط المثقف العراقي في هذه الهوّة، كما يرى المُحاضر، فبعض المثقفين المهمين حتى لا يُقال عنه أنه يهاجم من نقطة طائفية يقول أنا من هذا المذهب وأهاجمكم، ولا يعطي للآخر ضمناً هذا الحق. يصف المُحاضر هذه العقدة بأنها مشكلة كبيرة جداً وصلنا فيها بعد عشر سنوات إلى نقطة حرجة جداً يصعب الفكاك منها. يعتقد المُحاضر أن دعم الشرائح البسيطة أو العابرين للطوائف أو غير المعتمدين على المذهب للحصول على وظائف أو مكاسب أخرى قد يكون المدخل الوحيد للوصول إلى المجتمع الذي نحلم به ونتمناه، ويجب ألا نعول على السياسة، ولا على المثقف بمعناه الحالي، وإنما على الشباب الموجودين في الشارع الذين يفاجئوننا بهذه الرغبة في عبور الطائفة، والانتصار على التحيّز، والرغبة الجدية في إيجاد مستقبل مختلف. تساءل المُحاضر في معرض حديثه: إن كان العراق يعاني من أزمة مذهبية أم لا؟ فإجاب: بأن العراق، من وجهة نظره، لا يعاني من أزمة مذهبية، وإنما من أزمة هوية، خصوصاً بعد أن تفككت هويتنا الجامعة وضعفت وأصابها نوع من الغموض والالتباس، ويرى أنه من الطبيعي جداً أن تنهض هويات أخرى فرعية طالما أن الهوية الجامعة قد تفككت. يرى المُحاضر أن التغيير في العراق على المستوى المذهبي لن يتم إلاّ بضرب نظام المصالح، هذا النظام الخطير والمعقد والمتداخل الذي يحاول أن ينتزع منك انحيازك على كل المستويات، فالسياسي، والمعلِّم، والموظف، والعامل البسيط يجب أن يكون منحازاً ولا يجد ضيراً في أن يُظهر انتماءه. أوضح المُحاضر بأن هذه المقدمة الطويلة ما هي إلاّ مدخل لشرح نماذج من هذه الشخصيات العابرة للطوائف وقد عايشها لفترات زمنية طويلة، وهي نماذج مفاجئة، لكنها مهمة جداً على مستوى التوثيق والقراءة. لقد انتقى المُحاضر أربع قصص وقال بأنه لن يرويها كاملة وإنما سيختصرها قدر الإمكان ويقدّم لنا خلاصتها والدروس المستنبطة منها، وهذه القصص هي قصة “فرحة النايل، سليلة العشب والنهر والأرض الفتية”، و”نهضة الكاظم، ابنة الثورة قبل أن تأكل الثورة أبناءها”، و “أحمد كتاو، من جبال قوقاز إلى الأرض الساخنة”، و “مصطفى عباس، عازف الجلو الدمبكجي”.
فرحة النايل: هي امرأة شيعية من كربلاء متزوجة ولديها (13) ولداً وبنتاً، خمسة منهم سُنّة، وسبعة منهم شيعة. السُنّة بينهم متطرفون وعاديون، والشيعة بينهم صدريون وسيستانيون. في عام 2007 وقعت فرحة النايل طريحة الفراش في مستشفى اليرموك ببغداد فزارها الأولاد والبنات جميعاً، وعندما حان وقت صلاة المغرب صلّى الخمسة على مذهبهم السُنّي، فيما صلّى السبعة الآخرون على مذهبهم الشيعي فاستغرب الطبيب وأراد أن يعرف سرّ هذا الاختلاف وهم يتحدرون من عائلة واحدة الأمر الذي يحيلنا إلى آلية التحرّك بين المذاهب التي أشرنا إليها سابقا. فمن سمات العراق أن التحرّك بين المذاهب فيه متاح وسهل، وهذا دليل على قيمة التعايش، ولا ينطوي على أي دليل آخر سواه. يعتقد المُحاضر أن الجملة المؤثرة الوحيدة التي قالتها الأم المحتضرة، والتي لم تمت بالمناسبة، أن ولديها الاثنين اللذين استشهدا في الحرب العراقية الإيرانية خلصا من هذه المحنة، وهي تقصد أنهما لم يتعرضا إلى هذا الامتحان الطائفي العسير فأخوانهم الباقون على قيد الحياة مضطرون لأن يعرّفوا أنفسهم بأحد المذهبين السُنّي أو الشيعي، بينما لا يحتاج الشهيدان إلى مثل هذا التعريف وكأن موتهما كان قارب نجاه أنقذهما من هذا الامتحان الطائفي الصعب.
نهضة الكاظم: وهي سيدة من مواليد عام 1958 وقد عاشت في مدينة الثورة في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، ولديها خمسة أولاد. ونظراً للاستقطابات الطائفية والمدّ المُمول رسمياً للحركة الوهابية داخل المساجد في المناطق الشعبية تحديداً أصبح اثنان من أبناء نهضة سُنيّين، وأكثر من ذلك فقد أصبح أحدهما عضواً بالحزب الإسلامي بمدينة الصدر. وفي عام 2008 دهمت مجموعة مسلحة مرتدية الزي العسكري منزل السيدة نهضة الكاظم حينما انتقلت إلى المحمودية بهدف قتل ابنها خالد عبد الأمير الذي أصبح سُنياً وعضواً في الحزب الإسلامي، لكن أخاه فراس الذي كان منتمياً إلى جيش المهدي الذي اشترك في عمليات القتل والحرب الطائفية رفض تسليم أخاه السُني وتبادل معهم إطلاق النار فأصيب خالد برصاصة وفي أثناء توجههما من مستشفى المحمودية إلى مستشفى اليرموك ببغداد خطفوا الاثنين معاً في منطقة عويريج واختفيا منذ ذلك الحين، لكن سائق الإسعاف كشف لاحقاً بأن الخاطفين ينتمون إلى نفس المجموعة التي ينتمي إليها فراس، وعندما أصرّ ألا يسلمهم أخاه قرروا قتل الاثنين معاً، ولا تزال جثتاهما مفقودتين حتى هذه اللحظة ولا يعرف لهما أثرا.
أحمد كتاو: وهو طبيب بيطري من أصول شركسية يعيش في كركوك وقد اصطحبني في جولة للبحث والتنقيب عن البقايا والأصول القوقازية في العراق وهم الشيشان والشركس والداغستان وقد عرفت بأن هؤلاء هم آخر المجموعات البشرية التي انتقلت إلى العراق في القرن التاسع عشر، وهذا يعني أن عمر دخولها إلى العراق ليس أكثر من مئة سنة، كما دخلت إلى سوريا والأردن حيث احتفظت بهويتها ولغتها في بلاد الشام، لكنها ذابت في العراق تماماً وانصهرت فيه بشكل مثير للتساؤل، فالدين ممكن أن ينصهر، لكن من الصعب أن تصهر قومية أو تُنهي لغة من الوجود. يمكننا أن نفهم تحوّل مجموعة بشرية إلى سُنّة أو شيعة أو إلى مسلمين أو مسيحيين، لكن أن تحولهم إلى عرب أو كرد أو تركمان فهذا موضوع يدعو إلى الاستغراب. هناك شيشان سُنّة في الحويجة، وهناك شيشان شيعة في ديالى، وهناك من هم عرب وكرد وتركمان منصهرين بقوميات الشعب العراقي كلها، وكذلك الأمر ينطبق على الداغستان، وعلى الشركس على الرغم من قلة عددهم في العراق. في القوقاز لديهم مثل يقول: “الأرض التي تمنحك الخبز هي وطنك”، لقد أصبح هذا المثل جزءاً من تكوينهم فانصهروا تماماً في هذه الأرض الساخنة وذابو في مكوناتها المتنوعة. ذكر المُحاضر عباس مشرق بأنه لا يستطيع أن يفسر الموضوع باعتبار أن هذه الأقوام نادرة، وإنما اعتبر الأرض العراقية نادرة لأنها قادرة على الصهر والاحتواء الذي استمرت عليه لقرون طويلة وما تزال قادرة على الصهر والاحتواء حتى هذه اللحظة.
مصطفى عباس: مواطن عراقي من أسرة الوائلي يقود اليوم الجوق الموسيقي في السليمانية، وقد أصبح مقدماً في البيش مركة، وهو أيضاً عازف للجلو في الفرقة السمفونية منذ سنة 2003. تمّ اعتقاله من قبل القوات الأميركية سنة 2004، لكنهم أطلقوا سراحه بعدما اتفقوا معه أن يحيي احتفالات رأس السنة عام 2006. وحينما أخلوا سبيله ألقوه في كراج علاوي الحلة فأخذته سيارة شرطة إلى منطقة بين الوزيرية والأعظمية حيث سجنوه في قبو كائن تحت دار للأيتام وكان يسمع أصوات الأطفال وكلامهم وأغانيهم وهم في الطابق الأرضي، وحينما يغادر الأطفال يبدأون معه حفلات التعذيب، إذ كان الشخص الشيعي الوحيد بينهم، بل كان عابراً للطوائف، إذ لا تعنيه الطوائف كثيراً. وحينما سألوه ذات مرة عن أهله قال: أنا من بيت الوائلي وبيتنا في بغداد الجديدة. ثم سألوه عن عمله فقال لهم: أنا عازف بالفرقة السمفونية العراقية وليست لدي علاقة بالدين. فقالوا له: يعني دمبكجي؟ ثم أزادوا تعذيبه أضعافاً مضاعفة، وهذا يشير إلى أن القصة ليست قصة مذهب.
خلاصة
أكدّ المُحاضر بأنه كان ولايزال يعتقد أن القتل لم يكن على الهوية، وإنما كان على تفاصيل أخرى، وكان هناك فرز من نوع آخر. ذكر المحاضر بأنه من المؤسف جداً ونحن في سنة 2013 نتحدث عن بلدنا بهذا المنطق، ونحاول أن نبرئ أنفسنا من تهمة الطائفية. كنت أتمنى أن يكون هناك أناس شجعان في هذا البلد ويقولون نحن طائفيون لسبب بسيط لأنهم سوف يمتلكون هوية، فإذا كنت طائفياً فكن صريحاً في طائفيتك ودافع عن هذه الطائفة بصراحة، ولا تقل أنت لست طائفياً بينما أنت تتحدث بكل المنظومة الطائفية وتدعمها. أشار المحاضر إلى أن هذه المجموعات التي عرضها وتحدث عنها ستنقرض لأنها بدأت تتآكل وأن انقاذها يتعلق بقضايا أساسية منها إحياء الدولة المدنية وتقويتها، وإلغاء نظام المصالح، لأنه هناك منظومة اقتصادية أكثر مما هي منظومة قيمية أو عقائدية. توقف المُحاضر أخيراً عند مفهوم التوازن بين الطوائف وقال بأن هذا المفهوم خطير جداً لأن مجرد الحديث عنه سيكرس الهوية الطائفية ويجذِّرها فحينما تأخذ الطوائف مساحات معينة فإن ذلك يعني أنها تبني على أساسها ممثليات حزبية دائمة لا يمكن إزالتها أبداً. نوّه المُحاضر بأنه ليس من مريدي الأحزاب السياسية الموجودة، ولكن في حال تكريس التوازن بين الطوائف يستحيل إزالة أي حزب من الأحزاب السياسية الموجودة، ليس بمنطق القوة طبعاً، وإنما بمنطق المدنية لأن هذه الأحزاب هي أحزاب طائفية ولدت في غفلة من الزمن وتعيش على هامش التاريخ، وهذه الأحزاب تنمو وتترعرع وتكبر في أجواء التوازن والتحاصص وبدونه فهي غير قابلة للعيش وهي تحاول أن تجد قوانين تضمن وجودها في المستقبل، وقانون التوازن أو التحاصص هو القانون الوحيد القابل لإحيائها في المستقبل. أما بديل التوازن من وجهة نظر المحاضر فهو العدالة التي يجب أن تطبق على الجميع ويحصد ثمارها الجميع أيضا.