رحل قاسم بجسده، لكن روحه العذبة ما تزال ترفرف فوق رؤوسنا
-لندن / عدنان حسين أحمد –
أقام المركز الثقافي العراقي بلندن حفل تأبين ثقافي خاص بفقيد المسرح العراقي قاسم مطرود الذي رحل إلى مثواه الأخير في 07 / 09 / 2012 إثرَ مرض عضال ألمّ به، وأودى بحياته عن عمر يناهز الحادية والخمسين. وكان الراحل في ذروة عطائه الأدبي والثقافي محمّلاً بالآمال العريضة في أن يرى نصوصه
المسرحية التي قاربت الأربعين نصاً منشورة في العراق والوطن العربي، كما كان يحدوه الأمل في أن يرى مسرحياته الأربعين قد وجدت طريقها إلى خشبات المسارح العراقية والعربية، خصوصاً وأنّ بلدان المغرب العربي قد عرضت له أكثر من نص مسرحي وكان سعيداً بهذا الاهتمام، لكنه كان يرى في قرارة نفسه أنَّ المخرجين العراقيين لم يولوا نصوصه المسرحية قدراً مناسباً من الاهتمام، كما كان يشكو من قلّة المتابعات والدراسات النقدية العراقية للنصوص التي كتبها على مدى ثلاثة عقود.
حينما وافته المنية سارع الدكتور عبدالرحمن ذياب، مدير المركز العراقي بلندن، إلى تنظيم هذا التأبين الثقافي لكي يجترح تقليداً ثقافياً جديداً لم نألفه من قبل، إذ كانت مجالس العزاء هي السائدة سابقاً، وقد دأب المعزّون على قراءة الفاتحة والترحّم على روح الفقيد الذي غادرنا إلى جوار ربه، وغالباً ما تنطوي هذه المجالس العزائية من دون أن تترك أي أثر ثقافي يُذكر، لذلك يعتبر هذا التأبين الثقافي ظاهرة مُبتكرة تصب في خدمة الأديب أو الفنان أو المثقف الذي يواجه مصيره المحتوم. وحينما سمع الدكتور عبدالرحمن ذياب بهذا النبأ المفجع لرحيل الكاتب والناقد المسرحي قاسم مطرود سارع إلى الإتصال بي هاتفياً وأخبرني قائلاً: “لا نريد أن نودِّع الكاتب المسرحي قاسم مطرود كما تودِّع العجائز والرجال الطاعنون في السن فلذات أكبادهم في القرى النائيات بالندب والعويل المتواصلين، وإنما نؤبِّنه تأبيناً ثقافياً يليق بمنزلته الاعتبارية، ويحتفي بمنجزه الإبداعي”، وبالفعل تم تسليط الضوء على سيرته الذاتية والإبداعية، وأبرز المحطات الأدبية والفنية في حياته القصيرة التي لم تجتز الحادية والخمسين عاماً، فلقد رحل قبل أوانه، وهو الذي قارع المرض العضال أكثر من عشر سنوات، وكان مُصِّراً على القول بأنه لابد أن يعيش حتى العقد السابع في الأقل! لكن المرض العصي على العلاج كان أقوى من أية إرادة صلبة فغيّبه رغماً عن تشبث الأهل والأصدقاء والأحبة بأي بصيص أمل واهٍ قد يرتبط بظهور معجزة طبية ما تمتلك القدرة على دحر هذا المرض الخبيث.
لقد رحل قاسم مطرود بجسده، لكن روحه الطيبة ما تزال ترفرف فوق رؤوسنا، بل أن ملامحه الجميلة ما تزال تستوطن حدقات العيون، مثلما تسكن مؤلفاته ذاكرة قرّائه ومحبيه الذين يتوزعون على خارطة الوطن العربي الكبير.
لابد لي شخصياً أن أتوجّه بالشكر الجزيل لأي مسؤول عراقي يساهم في تذليل المصاعب التي تواجه العوائل المنكوبة بأزواجها أو بأحد أبنائها الذين ينتمون للوسط الثقافي أو الفني أو الفكري، ذلك لأن هذا المثقف قد كرّس جلّ حياته لخدمة بلده أولاً وثقافته العراقية المتنوعة ثانياً، فمن غير المعقول أن تظل أسرة الفقيد حائرة في تدبير تكاليف النقل التي تُعد باهضة نوعما على العراقيين من أصحاب الدخول المحدودة المقيمين في المنافي الأوروبية والأميركية البعيدة. فلهذا توجهت في أثناء حفل التأبين بالشكر والتقدير للدكتور عبدالرحمن ذياب على موقفه النبيل في استحصال موافقة وزارة الثقافة على تحمّل تكاليف النقل، كما شكرت الدكتور محي الدين حسين القائم بالأعمال في السفارة العراقية بلندن حيث ساهمت السفارة بتحمل جزء من النفقات المادية، وكنت قد وصلت الشكر بطبيعة الحال للدكتور سعدون الدليمي، وزير الثقافة على استجابته السريعة لطلب مدير المركز الثقافي العراقي بلندن. ونتمنى أن يُعمّل بشكل دائم في هذا التقليد الحضاري الذي يضمن كرامة المواطن العراقي حينما يغادر هذه الحياة الفانية ليستقر في العالم الأبدي المجهول.
تُسهم حفلات التأبين الثقافية بتفعيل الآراء القيّمة التي تصب في مصلحة الفقيد الذي غادرنا، فتلاقح الأفكار والآراء قد تفضي إلى مقترحات مهمة يمكن صياغتها في مثل هذه الجلسات التي تأخذ طابعاً ثقافياً منتجاً بعيداً عن تزجية الوقت بالأحاديث العبثية العابرة.
سيرة الفقيد
إن مجرّد قراءة السيرة الذاتية والإبداعية للفقيد الراحل قاسم مطرود وتذكير الحاضرين بها قد يوقد في أذهانهم فكرة أو مجموعة أفكار قد تخدم بعض الجوانب الفنية والفكرية التي انقطع إليها طوال حياته، فمن الممكن أن يكون بين الحضور الكريم بعض المخرجين المسرحيين الذين لم يلتفتوا من قَبل لنصوص قاسم المسرحية، لكن مجرد التذكير بها أو التركيز على بعض منها قد يخلق الرغبة عند هذا المخرج أو ذاك لإخراج هذا النص المسرحي أو ذاك. وربما يكون بين الأخوة والأخوات مترجم يود أن يترجم إحدى نصوصه المثيرة إلى واحدة من اللغات الأوروبية الحيّة التي يتقنها، وهكذا دواليك فالتأبين الثقافي أسلوب علمي وحضاري تستسيغه العقول المتفتحة، وتأنس له الأرواح المتجلية.
أحبّ قاسم مطرود الإخراج المسرحي فدرسهُ وتخصص به في معهد الفنون الجميلة التي تخرّج فيها عام 1987، ثم التحق بأكاديمية الفنون ودرس الإخراج أيضاً حتى تخرّج فيها عام 1998. كان قاسم توّاقاً للعلم والمعرفة فلاغرابة أن يدخل في العديد من الدورات التخصصية في كتابة السيناريو، وإعداد وتقديم وإخراج البرامج التلفازية في أكاديمية هلفرسم.
أشرنا غير مرة بأن قاسم مطرود قد ألّف أربعة عشر كتاباً تضم أربعين نصاً مسرحياً قصيراً ومتوسطاً وطويلاً، وقد نشر منها خمسة كتب وهي “للروح نوافذ أخر”، “رثاء الفجر”، “الجرّافات لا تعرف الحزن”، “سمفونية الموت والجسد” و “صدى الصمت ومسرحيات أخرى”. أما الكتب التي لم تنشر لحد الآن فهي تسعة كتب نذكر منها “طقوس وحشية”، “نشرب إذاً”، “معكم انتصفت أزمنتي”، “أحلام موضع منهار”، “أوهام الغابة” وغيرها من الكتب المخطوطة وبضمنها مخطوطة كتاب نقدي يحمل عنوان “المسرح العراقي عطاء دائم”.
انقطع قاسم مطرود للإخراج المسرحي لمدة ثماني سنوات تقريباً أخرج في أثنائها ثلاث مسرحيات فقط وهي “صرخة في وجه الذات”، “الاستثناء والقاعدة لبرتولد بريخت، ومسرحية “مهرجان الدُمى في سوق هرج” علماً بأن مسرحية “الاستثناء والقاعدة” قد ارتبطت باسم مطرود ومنحته قدراً معقولاً من الشهرة آنذاك. ولم أعرف لحد الآن السبب الذي دفع مطرود لأن يتخلى عن الإخراج، ويتجه إلى النقد أول الأمر، ثم يتجه كلياً إلى تأليف النصوص المسرحية التي أظن أنه وجد نفسه في هذا الضرب الإبداعي.
حصل قاسم مطرود على عدد من الجوائز والتكريمات هنا وهناك نذكر منها جائزة أفضل نص مونودراما عن مسرحيته الذائعة “الحاوية”، كما كُرِّم من قِبل المركز العراقي للمسرح على جهوده الكبيرة التي بذلها في دفع الحركة المسرحية إلى الأمام.
على الرغم من الدراسات والأبحاث والمراجعات النقدية التي كتبها بعض نقاد المسرح العراقيين، ومن بينهم الكاتب المتواضع لهذه السطور، إلاّ إن قاسم مطرود كان يشعر في قرارة نفسه بأن النقاد والمخرجين المغاربة كانوا أكثر وفاء لتجربته الإبداعية في التأليف المسرحي، وهذا ما يفسر لنا تعلّق طلبتهم وانجذابهم إلى نصوصه المسرحية واتخاذها مادة لأبحاثهم ودراساتهم الأكاديمية المعمقة ولعلي هنا أسوق مثال الطالب فوزي السعيدي الذي كتب رسالة بعنوان “قاسم مطرود وإسهاماته في كتابة النص المسرحي”، كما تنهمك الطالبة عايدة نصر في جامعة القدس في نيل شهادة الدكتوراة في موضوع “المرأة في مسرح قاسم مطرود”، كما أُخذت عن مؤلفاته المسرحية سبع شهادات ماجستير وخمس شهادة دكتوراه نوقش بعضها في أكاديمية الفنون الجميلة ببغداد وكان معظمها عن تجربة قاسم مطرود في التأليف المسرحي.
عمل مطرود في عدد من المنابر الصحفية المعروفة في العراق مثل جريدة “العراق” و “الجمهورية” و “أسفار”. كما كان في عدد من هيئات تحرير بعض المجلات مثل “أحداق” التي كان يرأس تحريرها كاتب هذه السطور، ومجلة “علوم” الإليكترونية، هذا إضافة إلى مجلته الإليكترونية “مسرحيون” التي تعد أول مجلة إليكترونية تُعنى بالفنون المسرحية التي ذاع صيتها وأصبحت مصدراً عاماً للدارسين والباحثين في الشؤون المسرحية.
لم أشأ أن أكلِّف بعض الناس للحديث في هذه المناسبة المحزنة التي هزّت جميع أصدقاء وأحبائه ومعارفه، لذلك قررت أن أقترب من الحلقة المقربّة جداً لي والذين تربطني بهم علاقة حميمة فعلاً تخوّلني أن أقع عليهم في المواقف الصعبة المحرجة جرياً على المثل الشعبي العراقي الذي يقول “الحائط يقع على أهله” فاخترت من العدد الكبير من الأصدقاء أربعة أشخاص أمحضهم حُباً من نوع خاص وهم الأستاذ الكاتب غانم جواد، الشاعرة ورود الموسوي، الكاتبة فيحاء السامرائي والمخرج السينمائي أكرم جمعة الذين أشادوا جميعاً بإبداع الفقيد قاسم مطرود، واستغربوا رحيله المبكر الذي فاجأ الجميع، وتمنوا لأفراد أسرته وأصدقائه الصبر والسلوان.
وفي الختام لابد لي أن أشدّ على يد صديقي الدكتور عبدالرحمن ذياب الذي يستمع جيداً إلى كل الملاحظات التي توّجه إليه، وهو الذي يرجونا بشدة، نحن الكتاب والصحفيين، أن نسلِّط الضوء على الأخطاء أو الهنَوات أو الأشياء السلبية التي تقع في إطار النشاط العام للمركز الثقافي العراقي بلندن، وإنني شخصياً أعده بأن أكون أول راصدٍ ومنتقدٍ لهذه الأخطاء أو السلبيات إن وقعت، لا سمح الله، ولكن المسيرة الثقافية لهذا المركز على الرغم من فتوّتها وقِصر عمرها تثبت حتى الآن أن الأمور تسير في نصابها الصحيح الذي يصب في خدمة المثقفين العراقيين المقيمين بلندن والثقافة العراقية الموزعة بين بغداد وبقية الحواضر العالمية.