لا يرى الباحثُ العراقي د. فارس كمال نظمي المتخصّص في علم النفس الاجتماعي أن الانتخابات البرلمانية في بلاد الرافدين التي أُجريت في التاسع من تشرين الأول/أكتوبر أحدثت تغييراً حقيقياً وانقلاباً بالموازين السياسية، ذلك أن حصول بعض التغييرات في أرقام المقاعد، لصالح هذا الفريق أو ذاك، لن يؤثّر في مجمل عمل المنظومة السياسية التي ستبقى متناغمة في ما بينها، وستصل رغم حالة التوتر الحالية إلى التوافق سويّة عبر تنازلات مُتبادلة لتبادل المكاسب والمغانم، ولن تسمح بأي تفاوض أو تقاسم لعناصر القوّة السياسية مع القوة الجديدة المتمثلة بالجيل الشبابي من السياسيين المحتجين والقوى المدنية والوطنية، متوقعاً عندها الذهاب إلى موجات احتجاجية وربما عنفية قد تقود إلى حالة من التفكّك في بعض المحافظات الشيعية بين قوى السلطة التي لا تريد التنازل عن أي شيء وبين المجتمعات المحلية الثائرة أو المحبطة التي تريد أن يكون لها دور، وأن تحصل على جزء من الثروة الوطنية المسروقة منها.
بالنسبة إليه، فإن الحدث الأساسي في الانتخابات هو نسبة المقاطعة والدلالات التحليلية لها، وهي التي ستُسهم بإنتاج الحدث المقبل بنسبته الكبرى. معرباً عن اعتقاده أنه إذا لم تظهر جبهة معارضة في البرلمان، على أقله من بعض التشرينيين والمستقلين، وحتى من داخل النخب السياسية التقليدية، فالعراقيون ذاهبون إلى إحباط جديد وسريع، وستنتقل وقتذاك فكرة المعارضة تدريجياً إلى جبهة المقاطعة وربما تصبح هي القطب الجديد إذا عرفت كيف تنظم صفوفها وأن وتحوّل نفسها من مقاطعة انتخابية إلى جبهة معارضة احتجاجية ذات رؤية سياسية وثقافية تًشكّل بديلاً للأوضاع الحالية. وهنا نص الحوار:
○ كمراقب ومُتابع للشأن السياسي-الاجتماعي العراقي، هل ترى أن ما أفرزته الانتخابات النيابية يحمل عناصر مشهد انقلابي في مزاج الشَّارع؟
• أنا أقول دائماً إن لغة الأرقام الانتخابية في العراق لا تُعادل بالضرورة النتائج السياسية الفعلية للانتخابات، بتقديري هناك تهويل تمارسه بعض الأوساط الشبابية والمدنية، وكأن هناك تغييراً حقيقياً قد حدث، وأن هناك انقلاباً بالموازين السياسية التي أفرزتها الانتخابات. أعتقد أن المسألة لا تقع ضمن هذا الإطار، إذا كان هناك شيء من التغيير فهو تغيير نسبي لا يؤثّر في مجمل المنظومة التي تقبض على المال والسلاح والريع، ولديها كل الشبكات الزبائنية التي استوطنت في أعماق الدولة وخارجها. باعتقادي حدوث بعض التغييرات في أرقام المقاعد لصالح بعض الفئات أو لصالح بعض المستقلين وبعض الذين أتوا من حراك تشرين لن يُؤثّر في مجمل عمل المنظومة السياسية الحريصة على ألا تتقاسم أو تتفاوض أو تُعيد توزيع القوى السياسية مع الآخر. وهذا والآخر هو الجيل الشبابي من السياسيين المحتجين، أو القوى المدنية والوطنية. ومع انتهاء الفورة الحماسية الحالية عند البعض الذي تسحره الأرقام المحدودة، أي عشرة مقاعد هنا وعشرة هناك، سنعود إلى أصل القضية، وستبدأ عملية التغانم من جديد. فرغم بعض الاختلافات في توزيع المقاعد، ستبقى الدائرة الأساسية للتغانم بين النخب السياسية هي نفسها، وهذا في النهاية ربما يدفعنا إلى أوضاع احتجاجية من جديد.
○ انكفاء جزء وازن من الحراك التشريني ناتج عن الاعتقاد بأن الانتخابات وبالصيغة التي أُعدت فيها في ظل الظروف الحالية لا يمكن أن تُحدث تغييراً، ولا سيما أن قيادات عدّة في الحراك تعرّضت للاغتيال، هل سريعاً ستكتشف القوى التشرينيّة التي شاركت بأن لا أفقَ فعلياً للتغيير؟
•نعم، وأُضيفُ شيئاً آخر هو أن المنطلق الفكري للفريقين مختلف. لست في معرض تقييم الخطأ من الصواب إنما أقدّم صورة تحليلية من دون الانحياز لأي من الفريقين. فالفريق التشريني الذي شارك بالانتخابات، كانت له أطروحات ونقاشات تقوم على المنطلق الإصلاحي، بمعنى أنه يعتقد أن بالإمكان إصلاح الوظيفة وليس تغيير البُنية، هم يعتقدون في نهاية الأمر أن هذه المنظومة السياسية غير قابلة للسقوط والهدم بفعل تمترُسها الأفقي في البلد، بحيث إن كل الإثنيات السياسية أصبحت مُشترِكَة في الغنيمة ولا يمكن لطرف أن ينقضَّ على طرف آخر، وبالتالي لا يمكن تغييرها إلا من خلال إصلاح الوظيفة. أما الطرف الذي قاطع الانتخابات بتأثير منطلق آخر فهو يقول: «لا بأس لمن يُريد أن يُشارك، ولكننا نعتقد أنه حتى الإصلاح الوظيفي لم يعد ممكناً، ونحن ذاهبون – شئنا أم أبينا – إلى نهايات راديكالية للحدث، وإلى تقويض بنية هذه المنظومة. إذن مشاركتنا بالانتخابات ستجعلنا نخسر جزءاً أساسياً من استثمارنا السياسي في المجتمع، لأننا سنضطر إلى تحجيم دورنا من أجل الحصول على عدد محدود من المقاعد النيابية، وبالتالي سوف نفقد فرصة التأثير الحقيقي (الثوري) في التغيير». فلكل فريق مُنطلقه، فريق إصلاحي وظيفي وآخر تغييري ثوري، وهذا هو أساس مسألة المشاركة أو المقاطعة.
○ الشعور بأن تجربة الانتخابات لن تُؤتي ثمارها هل سيكون الشرارة التي ستُعيد المشاركين والمقاطعين التشرينيين إلى الساحة؟
• من خلال بحث ميداني واسع، أنجزته مع فريق بحثي مؤخراً عن احتجاجات تشرين 2019 في ساحة التحرير، وجدنا أن ما يقارب الـ46% من الشباب المشاركين في الاحتجاجات هم ممن شاركوا في الانتخابات عام 2018. القارئ قد يستغرب هذه النتيجة لأنه يتوقع أن الذين شاركوا في الاحتجاجات ليسوا من جماعة المشاركين في الانتخابات، ولكن هذا غير صحيح. الانتخابات في العراق دائماً ما ترفع سقف التوقعات الإيجابية عند الجمهور بفعل ما يُسمى بـ»التفكير الرغبي» أي أن الجماهير دائماً تتمنى شيئاً تعتقد أنه سوف يحدث من خلال أحداث معينة كالانتخابات، لكن ما أنْ يمر الاستحقاق ويعود الواقع لكي يفرز معطياته الأساسية والأصلية، حتى تعود الأزمة من جديد وينخفض سقف التوقعات، وفي هذه الحالة سوف يرتفع سقف الإحباط الذي يمكن أن يقودنا إلى الاحتجاج. لا أستبعد أن يحدث تداخل وامتزاج بين نسب المشاركين ونسب المقاطعين في مرحلة مقبلة، ذلك أن المنظومة الحاكمة ستبقى متناغمة في ما بينها ولن تسمح بأي تفاوض أو تقاسم لعناصر القوة السياسية مع القوة الجديدة. إذا حدث هذا، فبالتأكيد أن جزءاً ممن شاركوا بالانتخابات سيذهبون بالاتجاه الأكثر راديكالية.
كما أعتقد أنه إذا لم تظهر جبهة معارضة في داخل هذا البرلمان الجديد، على الأقل من بعض التشرينيين ومن بعض المستقلين، وحتى ربما من جزء أكثر حيوية وأكثر واقعية من داخل النخب السياسية التقليدية، فنحن بالتأكيد ذاهبون إلى إحباط جديد وسريع، ووقتذاك جبهة المقاطعة التي ما زالت صامتة وليس لديها موقف واضح لأن الحدث لم ينجلِ بعد، سوف تنتقل فكرة المعارضة إليها تدريجياً، وتصبح ربما هي القطب الجديد. طبعاً هذا إذا عرفت كيف تُنظّم صفوفها وأن تُحوّل نفسها من مقاطعة انتخابية إلى جبهة معارضة احتجاجية ذات رؤية سياسية وثقافية تُشكّل بديلاً للأوضاع الحالية.
○ إلى أي حد تُوافق على مقولة أن إجهاض حركة تشرين تمَّ من الداخل على يد تيار مقتدى الصدر؟
• علاقة التيار الصدري بحركة تشرين غير مُوثّقة بروايات مؤكدة مُتفق عليها، فهناك أكثر من سردية لها، أنا لا أستطيع تقديم سرد تاريخي للأحداث، لكن رؤيتي العامة لهذا الموضوع هي أن التيار الصدري لم يكن ممانعاً في البداية بأن يلتحق بالتشرينيين. وقد نزل الناس إلى الشوارع ونُصبت الخيام. لكن هذا الموضوع تغيّر لاحقاً لأكثر من سبب. هنا أود التركيز على سبب أساسي وهو أن مقتدى الصدر عندما وجد بأن الحركة التشرينية ذات رؤية جذرية سياسياً وثقافياً، وتذهب في أهدافها إلى إقامة نظام آخر، أي ما عاد هدفها إصلاحياً فقط يخص قضايا الخدمات والبطالة والفساد، عند ذاك بدَّل مساره وتوقف عن نصرة التشرينيين، ذلك أنه لم يكن يستهدف التغيير الجذري بل الإصلاح الذي يعني من وجهة نظره تعديل في وظيفة النظام لا أكثر. وعندها حدث الاصطدام مع التشرينيين عندما صمدوا في الشوارع لأسابيع طويلة سعياً إلى تغيير المنظومة بأكملها بالرغم من افتقارهم للتنظيم والقيادات. ومن جهة أخرى، حصل تنافس بين الصدريين والتشرينيين على السلطة السياسية في الشّارع، فتشرين أثبتت قدرتها على تحريك الشّارع والقيام بتظاهرات وإضرابات واعتصامات وعلى أن تملأ الفضاء العام في محافظات عديدة، هذا التنافس ما كان يقبل به الصدر بعد أن كان تياره هو الجهة الوحيدة القادرة على التحشيد الاحتجاجي في الفترات الماضية، وبالتالي حدث ما حدث بين الطرفين.
○ ما الدلالات التي تستنتجها وأنت تقرأ نسبة المقاطعة، وماذا يمكن أن يُبنى عليها؟
• من الواضح أن الأرقام التي قدّمَـتْها مفوضية الانتخابات وبعض الخبراء والمراقبين الميدانيين أظهرت أن نسبة المقاطعة تراوحت بين 59 و70 بالمئة وربما أكثر. رقم كبير بلا شك. وطبعاً من المهم أن نركّز على فهم نسبة المشاركة ونُشبعها تحليلاً واستنتاجاً، ولكن من المهم أيضاً ألا نُهمل نسبة المقاطعة التي تحتاج أيضاً إلى تحليل وتفكيك، رغم أنني أعتبر أن مصطلح المقاطعة غير دقيق، إذ يمكن تأطير الذين قاطعوا ضمن ثلاث فئات: الأولى، هي مَـنْ كانت لهم رؤية منظمة، مثل بعض التنظيمات التشرينية وبعض التنظيمات اليسارية كالحزب الشيوعي، فضلاً عن جمهور من عامة الناس ومن بعض المثقفين الذين كانوا يعتقدون بأن الأسلم لهم هو عدم الاستثمار في برلمان سوف يُولد ميتاً، وإنما الاستثمار الحقيقي من وجهة نظرهم بعد هذا الحراك الثوري وبعد تجذر عوامل الفشل والتردي بشكل عميق في هذه الدولة، لا بدّ أن يكون في الشَّارع مع الناس ومع الحركات الاجتماعية، لذلك ذهبوا إلى خيار المقاطعة المنظمة، فضلاً عن أنهم لا يريدون أن يمنحوا شرعية مجانية للنظام من دون أن يعطيهم شيئاً. ويقولون: «لماذا نُشارك في انتخابات لا تُلبّي مطالبنا المعروفة من محاكمة القتلة إلى السلاح المتفلّت خارج الدولة وصولاً إلى محاربة الفساد؟».
الفئة الثانية، وهي الجزء الأكبر بتقديري، وتتشكّل من الناس الذين ينتمون إلى طبقة الموظفين وإلى عموم الفئات الوسطى في المجتمع، هؤلاء لديهم وعي سياسي ويتابعون ويتناقشون لكنهم يائسون، ويعانون من الإحباط، ويعتقدون بأنهم فاقدون لقدرة التأثير في المخرجات السياسية، وبأن لا جدوى من المشاركة لأن هناك سيناريو معدّ سلفاً، هؤلاء يشكّلون نسبة مهمة من المجتمع العراقي ومن مجتمعات الشرق الأوسط.
أما الفئة الثالثة، فهي اللامبالية غير المكترثة، أي التي قد لا تعلم بأن هناك انتخابات أصلاً، أو تعلم وترى أنها حدث غير ذي أهمية، وتتشكّل من الفئات المحرومة التي همّها تحصيل لقمة العيش وليس المساءلة والتغيير، فنسبة الفقر في العراق بعد جائحة كورونا تجاوزت الـ30 بالمئة.
هذه الفئات الثلاث، شكّلت بتضامنها غير المتفق عليه جمهور المقاطعة الانتخابية. يبقى السؤال: هل هذه الفئات جامدة وصلبة، أم أنها مرنة وقابلة للتفكّك أو الاندماج ببعضها أو للتحوّل إلى سلوك احتجاجي لاحقاً، أو الاشتراك في انتخابات أخرى، أو أن جزءاً من المشاركين قد ينضمّ إليها؟ وأياً كانت الإجابة، أعتقد أن الحدث الأساسي في الانتخابات العراقية التي حصلت قبل أيام هو نسبة المقاطعة والدلالات التحليلية لهذه النسب، وهي التي ستسهم بإنتاج الحدث المقبل بنسبته الكبرى.
○ بمجرد إعلان نتائج الانتخابات بدأ التشكيك بنزاهتها من قبل القوى المتحكمة بالسلطة، هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى فوضى أمنية أو إلى سلوك درب الحرب الأهلية؟
• في الـ2003 ولاحقاً كان هناك تضامن أشد بين هذه الجماعات، أي النخب السياسية التي تعمل ضمن إطار الهويات الإثنو-سياسية: عربي – كردي، أو شيعي – سني… إلخ، وخصوصاً ضمن أجزاء الهوية الواحدة بهدف الحصول على الغنيمة، وبعدما تمّ لهم ذلك ومن ثمَّ الاستيطان في أعماق الدولة ومؤسساتها ومرافقها ووزاراتها، انتقلوا من حالة التضامن إلى حالة التنافس على هذه الغنيمة. والشيء نفسه حدث في 2018، فبمجرد إعلان نتائج الانتخابات حدث تشكيك كبير وتخوين، وحرق واسع للصناديق واعتراف من قبل رئيس الوزراء ومن كل الكتل السياسية ومن المجتمع الدولي بأن تزويراً كبيراً قد حدث، وهذا التزوير كان يقوم على نفس المبدأ الذي يحدث اليوم، أي تزوير فني يطال حصص النخب من داخلها وليس تزويراً سياسياً يهدد حكمها، بمعنى أن كل فريق يحاول الحصول على نسبة أكبر لكي يستطيع المنافسة عند توزيع الوزارات والمناصب. إذاً هو صراع على التغانم وليس صراعاً أيديولوجياً، ولا هو صراع برامج ولا حتى صراع هوية بل صراع على المصالح.
أعتقد أن هذا الصراع لن تنتج عنه حرب بين هذه الجماعات، لأنها في النهاية ستجد طريقة للتوافق عبر تنازلات متبادلة وتبادل المكاسب وتوزيع المناصب كما حصل في المرّات الماضية. أما خطر الاقتتال الداخلي، فلن يأتي من الصراع على الأصوات الانتخابية بين النخب الحاكمة، إنما من رفض النظام السياسي التنازل عن جزءٍ من أسهمه السياسية لصالح القوى الجديدة التي نشأت، خصوصاً في الإطار الجغرافي والديموغرافي الشيعي، وأن يُشركها في عملية اتخاذ القرار ليكون لها حضور في الإطار العام للدولة وفي الإطار المدني، عندها سنذهب إلى موجات احتجاجية وربما عُنفية قد تقود إلى حالة من التفكّك في بعض المحافظات بين قوى السلطة التي لا تريد التنازل عن أي شيء وبين المجتمعات المحلية الثائرة أو المحبطة التي تريد أن يكون لها دور في هذا البلد، وأن تحصل على حقها من الثروة الوطنية المسروقة منها. فإن حدث اقتتال، فإنه سيحدث بهذه الصيغة – التي لا نتمناها – وليس اقتتالاً بين النخب الحاكمة نفسها.
○ طَـرَحَ مقتدى الصدر، بعد ظهور النتائج، برنامجاً أشبه ببيان وزاري بوصفه الكتلة الانتخابية الأكبر المفترض أن تُشكل الحكومة، ولكن هل طرحه ولا سيما حصر السلاح ومكافحة الفساد يستقيم مع كونه جزءاً من السلطة والمكاسب والمغانم وحتى الميليشيات، وهل سيكون تياره قادراً على تحقيق ذلك؟
• كرؤية سياسية شاملة لا توجد مواقف ثابتة أو سمات سياسية ثابتة خاصة لدى الأشخاص القياديين كالسيد مقتدى الصدر وغيره. فالسياق الذي يقع فيه الحدث هو الذي يُملي في النهاية نوع الخطاب السياسي، لذلك نحن نرى دوماً تغيّرات في الخطاب السياسي لمقتدى الصدر أو لبقية الجماعات السياسية الإثنية سواء من جهة السّنة أو الكرد أو الشيعة. في اللحظة الحالية تريد الكتلة الصدرية الانتخابية أن تتمايز وتتميّز بخطاب محدد يستهوي الجزء الأكبر من العراقيين، وليس الشيعة فقط، كجمع السلاح وإيقاف الميليشيات والسيادة وعدم التدخل الخارجي… إلخ. اللحظة الانتخابية تفرضُ هذا النوع من الخطاب الذي سيمنحه قوة من خلال الشّارع أو حتى من خلال التفاوض الانتخابي. يبقى السؤال: هل هو أو غيره قادرون على تحقيق هذه الوعود؟ من الثابت أن الوضع العراقي لا يسمح بتحقيق الوعود إلا بالحد الأدنى بسبب الصراعات المستمرة والتدخلات الخارجية والديناميكيات الداخلية التي تتطوّر منذ 2010 إلى اليوم. ففي هذه اللحظة لا بدّ لخطابه أن يكون متمايزاً، وربما تأتي لحظة أخرى قد يذهب فيها بالاتجاه الآخر، عندما يرى ظهور كتلة جديدة تسعى لأن تكون الكتلة الكبرى إذا ما تجمّعت التنظيمات أو الكتل الشيعية الأخرى أمامه، هذا ربما يقوده إلى خطاب أكثر مهادنة.
○ إلى أي مدى هناك صراع على الهوية السياسية الوطنية ما بين الأحزاب الشيعية العراقية؟
• أعتقد أن هناك اختلافاً وتمايزاً فيه جزء ثقافي، هناك ثقافة مُسبقة لهذه الحركة أو تلك، وهذه الثقافة تُملي عليها أن تكون أكثر عروبية أو عراقية أو أن تكون ولائية أو أكثر أدلجة. ولكن هذا لا يكفي، بل إن التطوّرات السياسية والتدخلات الخارجية ومنظومات الفساد الزبائني الداخلية تُملي على كل طرف أن يذهب باتجاه معيّن. فالتيار الصدري نشأ في الداخل، ولم يأتِ من الخارج – أي إيران، هو حركة كانت تُسمّى بداية «الخط الصدري» على يد السيد محمد الصدر والد السيد مقتدى، ثمَّ بعد 2003 ظهر اصطلاح اسمه «التيار الصدري» بكل تاريخه في مقاومة الأمريكيين والحرب الأهلية ودخوله العملية السياسية والانتخابية. هذا الجسد الديني – السياسي في إطاره العام ذو نزعة أكثر تمسكاً بالهوية العراقية من بقية الجماعات الدينية الشيعية السياسية التي في أغلبها استوطنت إيران منذ نهاية السبعينيات. لاحقاً ظهر تيار ما بين التيارين هو تيار عمار الحكيم وتيار حيدر العبادي اللذان يمثلان اليوم حلقة انتقالية. خطابهم اليوم أكثر قرباً من الشأن العراقي ويحاولون أن يميّزوا أنفسهم بوصفهم بعيدين عن التأثير الإيراني المباشر باستثناء العلاقات الدينية التقليدية أو البروتوكولية، ولكن سياسياً هم يحاولون أن يتمسكوا بخطاب مستقل، فضلاً عن استخدامهم مصطلحات الدولة المدنية والجيل المدني ومحاولة الاقتراب من حراك تشرين.
فالحراك السياسي في العراق لا يقع ضمن «أهرامات» ثابتة كما يصوّرها البعض، وكأن هناك ولائية واحدة تجمع كل الشيعة السياسية العراقية نحو إيران، هذا غير موجود، فضلاً عن أن قاعدة المجتمع الشيعي التي هي في النهاية تغذّي النخب السياسية الشيعية تُشير إلى حالة نفور شديدة من الدور الإيراني في العراق، وتعتقد بأن الدور الإيراني بتأثير رجال الدين أيضاً كان دوراً سلبياً وهادماً في العراق، وبالتالي الجماعات السياسية الشيعية لا تستطيع أن تتجاهل أن القاعدة الاجتماعية في مناطقها كارهة وناقمة على الدور الإيراني، وعليها تالياً أن تُعدّل في الخطاب. وبالتالي هي عملية ديناميكية وغير مستقرة ولا يجوز وضعها ضمن كتلة واحدة تابعة لإيران، فهذا نوع من تبسيط للحدث الذي هو أكثر ديناميكية وتعقيداً.
○ جيل تشرين الخارج من رحم البيئة الشيعية المتنفِّذة، جرى تخوينه واتهامه بالعمالة للسفارات وللأمريكيين، ما هي فلسفته تحديداً؟
• أصف الحراك التشريني بأنه قام على أساس نزعة سياسية وجودية. هناك جيل مُعيّن يشعرُ بأنه لم تُـتح له الفرصة ليكون موجوداً على مستوى المشاركة في الثروة، وعلى مستوى الكبرياء الوطنية التي تشعره بأنه يحمل اسم دولة ووطن وشعب، هذا الجيل (العشريني) نشأ من دون أيديولوجيات تقليدية مُسبقة، يحمل أيديولوجيا غير منهجية فهو ليس قومياً ولا إسلامياً ولا ماركسياً، ولا يحمل مصطلحات مُؤدلجة، إنما يحمل المصطلحات المدنية العامة. هو يريد أن يعيشَ حياة سوية فيها عدالة اجتماعية، أي يُريد أيديولوجيا اجتماعية وليس أيديولوجيا حزبية. هذا الجيل مُستميت، فهناك 700 إنسان قتلوا في الشوارع مع آلاف الجرحى والمعوّقين والمغيبين. استماتة تشرين متأتية من الشعور بأنه لا بد من مواجهة النظام السياسي الذي سَـرَقَ الناس أولاً ثمَّ سرق هويتهم. هنا الهوية الوطنية كانت أفضل وسيلة استقواء عبقرية لهذا الجيل، تمنح الكبرياء والعزّة والاحترام للإنسان، وفي الوقت نفسه هي وسيلة رفض ضد السلطة ذات الهوية الطائفية اللاوطنية، يستخدمها كسلاح معنوي وثقافي.
○ هل تشرين قادرة على النهوض مجدداً؟
• تشرين الأساسية لم تعد واحدة، بل أضحت «تشرينات» متناثرة بفعل ثورة النظام المضادة للدفاع عن نفسه، حتى إنني في مرحلة من المراحل قلت إن الانتخابات الأخيرة هي جزء من الثورة المضادة لأن غايتها غسل دماء الشهداء وإعطاء الشرعية للنظام السياسي وكأن شيئاً لم يحدث. ولكن لا تزال هناك أجزاء من تشرين أكثر صلابة، من الناحية الثقافية بسبب ارتفاع مستوياتهم التعليمية، وعندهم تراكم في التجربة، وأغلبهم شارك بالاحتجاجات منذ 2014، ويمكن للفريق التشريني الذي قاطع الانتخابات أن يُشكّل النواة والمدخل إلى انبعاثات مقبلة، فضلاً عن أنه بعد 4 أو 5 سنوات لن يكون هناك جيل تشرين، وإنما جيل ما بعد تشرين، ونحن لا نعلم اليوم بالضبط كيف ستكون صفاته اللاحقة. لكن في الإطار العام أقول إن ما تبقى من تشرين النوعي وليس الكمي قادر على الاستمرار بطريقة أو بأخرى.
○ لكن الفرصة تأتي مرة واحدة؟
•أيام تشرين، كنت أحاول من خلال كتاباتي أن ألفتَ نظر بعض الشباب إلى ضرورة أن يكونوا منظّمين، لكنهم كانوا يرفضون الفكرة ويتمسّكون بـ»ثورة بلا قيادات» تحاشياً لتحوّلهم إلى أحزاب فاسدة، كانت لديهم نزعة طهرية غير واقعية إلى حد العدمية. وهذا الأمر أعاق تشرين عن أن تتحوّل إلى بديل سياسي سريع للنظام السائد. اليوم الجزء النوعي الذي كان رافضاً لذلك تحوّل إلى ثقافة سياسية جديدة، وهي أننا لن نستطيع أن نكون البديل من دون بناء تنظيم.
لا يجب أن نعتبرَ أن تشرين انتهت بانتهاء التظاهرات وإنما هي البداية، إضافة إلى نضوج سياسي لدى أجزاء مهمة من تشرين يخوّلها تشكيل أول جيل سياسي عراقي منذ 60 سنة خارج الأُطر القومية والإسلامية والماركسية التقليدية، هناك جيل بدأ بتنظيم نفسه ولديه رؤية مُعيّنة، ويحاول طرح إصلاحات جذرية رغم حداثة أعمار أعضائه، لكن طريقتهم في استقراء الأحداث وإطلاق الحجج مثيرةٌ للإعجاب، وتدعو للنظر إلى العالم وإلى السياسة بشكلٍ مختلفٍ عن أسلوبنا نحن الأجيال السابقة.