عدنان حسين أحمد –
استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الدكتورة جين مون، عالمة الآثار المتخصصة في الشرق الأوسط، في أمسية ثقافية تحدثت فيها عن “تل خيبر” وهو موقع أثري قرب محافظة الناصرية حيث أظهرت صور الاقمار الصناعية وجود مبنى كبير تحت الأرض يقدّر عمره بنحو 4000 سنة في الأقل. وقد ساهم في تقديمها وإدارة الحوار الفنان التشكيلي رشاد سليم. وقبل الولوج في تفاصيل المحاضرة لا بد من الإشارة إلى أن الدكتورة جين مون حاصلة على وسام الإمبراطورية البريطانية “OBE” وذلك تقديراً لخدماتها المميزة في الحقل الآركيولوجي حيث عملت الدكتورة مون لمصلحة المدرسة البريطانية للآثار في العراق بين الأعوام 1976- 1985. وتشغل حالياً منصب المدير المشارك لمشروع أور الآثاري في محافظة ذي قار. أراد القائمون على هذا المشروع أن يكون بداية جديدة تضع حكاية نهب الآثار وتدميرها جانباً وأن تبدأ عملاً تعاونياً مشتركاً يهدف إلى الجمع بين المهارات والخبرات المحلية والعالمية، وتطوير كفاءة الخبراء والعاملين العراقيين، والافتخار بالمكتشفات الجديدة التي يتم العثور عليها من بواسطة التنقيبات الأثرية الجديدة. و”تل خيبر” هو موقع أثري قرب الناصرية تقدّر مساحته بمساحة ملعب كرة قدم. رأسَ فريق التنقيب كل من البروفيسور ستيوارت كامبل، رئيس قسم الآثار في جامعة ما نتشستر، والدكتورة جين مون التي تدرّس في القسم ذاته وقد عبّرا عن فخرهما بهذا الاكتشاف المثير من جهة، وبريادتهما في العمل ضمن هذا الموقع الذي ينضوي على كثير من المفاجآت.
جدير ذكره أن الفريق الآركيولوجي البريطاني الذي ينقب في جنوب العراق منذ ثمانينات القرن الماضي يعمل حالياً قرب مدينة أور القديمة حيث اكتشف السير ليونارد وولي “القبور الملكية” في العشرينات. كما أن الأراضي الريفية المحيطة بالموقع قاحلة ومقفرة وهي المكان الذي شهد ولادة المدن والحضارة العراقية قبل خمسة آلاف سنة وكانت موطناً للسوميريين ومن بعدهم البابليين كما ذكر البروفيسور كامبل في واحدة من تصريحاته الصحفية.
أشارت الدكتورة جين في محاضرتها إلى أنها لم تقع في حب شخص عراقي، ولم تتزوج من عراقي، ولكنها وقعت في حُب العراق، وهي تعني من دون شك وقوعها في حب الآثار العراقية التي أنتجها العراقيون عبر آلاف السنين. لقد استقرت الدكتورة جين عشر سنوات في العراق، كما أمضت عشر سنوات أخرى في البحرين، فلا غرابة أن تتحدث عن الحضارة البحرينية في محاضرة مكرسة عن العراق أو عن “تل خيبر” في مدينة أور العراقية.
ذكرت المُحاضرة أن عدد فرق التنقيب في إقليم كردستان العراق قد بلغت “38” فريقاً، بينما هناك فريقا تنقيب فقط لا أكثر في العراق وهو شيئ مؤسف حقاً. فالعراق بلد يعوم على آلاف المواقع الأثرية المطمورة تحت الأرض، هذا ناهيك عن المواقع الشاخصة للعيان.
عبّرت الدكتورة عن سعادتها لأن العراق قد بدأ ينهض من كبوته. وقد لفتت الانتباه إلى مسألة مهمة مفادها أن العراق يتجاوز الكوارث التي تقع عليه، وينهض من رماده دائماً ولكنها لا تمتلك القدرة على تفسير هذه الظاهرة. الأركيولوجيون عموماً، كما ذهبت جين، يحبذون التنقيب في العراق مهما كانت المخاطر التي تُحدق بالعاملين هناك، وهم لا يبالون بالحر ولا حتى بالجوانب الأمنية أو المخاطر الكثيرة التي تتهددهم. وإذا ما وُجهت الدعوة إليهم فهم يلبّونها على وجه السرعة كما لبيناها نحن.
نوّهت المُحاضرة قائلة “إن التقيبات لم تحدث في هذه المنطقة منذ الأربعينات، لكننا استئنفنا التنقيب. وما أراه أنا أن المعلومات التي نحصل عليها مهمة جداً، والأهم من ذلك نشرها بين الناس عبر الوسائل المتاحة وغالبيتها متطورة جداً وصار بإمكان القارئ في أي مكان من العالم أن يقرأ عن هذه المكتشفات الجديدة بعد مدة قصيرة جداً خاصة وأن لدينا بعض المصورين الذين يبذلون جهوداً كبيرة من أجل إيصال أحدث الصور عن اللقى الأثرية التي نجدها على الرغم من أن التصوير بواسطة السمتيات شبه متعذر الآن”، ومع ذلك فإن زوجها لديه كاميرا محمولة على ذراع طولة تسعة أمتار كي يصور المكتشفات واللقى الجديدة في مواقعها الحقيقية من هذا الإرتفاع العالي نسبياً.
ذكرت الدكتورة جين في محاضرتها أن فريقها يعمل ثلاثة أشهر في السنة وهذا ما تسمح به الميزانية التي يتوفرون عليها، أما بقية أشهر السنة فيحللون ويكتبون عن اللقى التي عثروا عليها. وخلال هذه الأشهر الثلاثة المنصرمة اكتشف الفريق عدداً من اللقى الأثرية لعل أبرزها “المتعبد” وهو منحوتة صغيرة يقف فيها الشخص بوضع الصلاة أو التعبد. كما توقفت المحاضرة عند منحوتة أخرى لامرأة عارية وقد وصفت هذا العمل بالمهم والمثير للعواطف على الرغم من حاجته للمسة الفنية، لكن نظرات المرأة تنطوي على الكثيرة من المشاعر المعبرة.
عرضت المُحاضرة العديد من الصور للأعمال الفنية التي تعود إلى مختلف العصور القديمة. كما توقفت عند بعض المظاهر اليومية التي يمارسها أعضاء الفريق من بينها الحفر والتنقيب وذكرت بأن الخبراء والعاملين الأركيولوجيين العراقيين بحاجة إلى الخبرات الأجنبية كي يطوروا كوادرهم وخبراءهم على حد سواء.
شكرت المحاضرة وجهاء المنطقة وأناسها الذين وفروا لهم الحماية وقدموا لهم الكثير من التسهيلات وقد عرضت للحضور العديد من الصور مع الأهالي وسكان القرى المجاورة لهم، كما أظهرت بعض الصور لقطات جماعية لفريق العمل وهم يتناولون وجبة الفطور مع عمال وخبراء عراقيين لم يعد ينتابهم هاجس الخوف من العمل مع الأجانب. ففي حقبة النظام السابق كان الأجانب من وجهة نظر الحكومة جواسيس، وكان العراقيون الذين يعملون مع الأجانب يعتبرون خونة. وبعد الانتهاء من محاضرتها القيمة التي شدت الحضور دار حوار معمق بينها وبين الجمهور. ولأهمية هذا الحوار سنتوقف عند أبرز النقاط التي أثارها السائلون وأولهم الدكتور جعفر هادي حسن الذي سأل عن حجم اللقى الأثرية التي سرقت ونهبت من المتاحف والمواقع الأثرية عامة. فكان ردها واضحاً حيث قالت بأنها لا تتوفر على أية إحصائية رسمية في هذا الصدد. أما الأستاذ نديم العبدالله فقد عقّب على كلام المحاضرة التي قالت بأنها لا تمتلك صوراً عن بعض المواقع الأثرية العراقية فأحالها العبدالله إلى 900 صورة ألتقطت عام 1929 وهي موجودة في الأرشيف. أما عن الدعم الحكومي العراقي للحملات التنقيبية فقالت جين أن الحكومة العراقية لم تقدّم الدعم لكنها أوضحت للحاضرين أن الدكتور أحمد الجلبي قد قدّم دعماً معنوياً أتاح لهم الوصول إلى أور والمناطق المجاور لها.
أثار الفنان المسرحي فلاح أربعة أسئلة ردت عليها المحاضرة باقتضاب شديد، إذ تمحورت أسئلته على وجود بعض المعادن كالذهب والنحاس في المواقع الأثرية العراقية أم لا؟ وهل كانت هناك حيوانات أليفة كالجاموس والأسماك وغيرها؟ وهل كانت لديهم بعض الأمراض التي قُضي عليها الآن؟ وطبيعة العلاقة بين السلطة والشعب آنذاك؟ وكان ردها أن المعادن كانت تستورد من البحرين، وأن الحيوانات التي كانت موجودة لديهم هي الأغنام والماعز والسمك والحمير. أما علاقة الشعب مع السلطة فهذا موضوع معقد ربما أتناوله في السنة القادمة.
وعن أوجه التشابه بين الحضارتين البحرينية والعراقية فقالت أنها مختلفة فهم يستعملون الحجر كمادة بناء فيما استعمل العراقيون الطين، ربما كان التقارب الوحيد هو الفخاريات، أما بصدد القِدم فإن الحضارة البحرينية ليست بقِدم الحضارة العراقية.
سأل الدكتور محمد علي زيني عن الكتابة المسمارية فيما إذا كانت تكتب من اليمين إلى اليسار وعن وجود المحاكم التي تحل المشكلات التي كانت تثور بين المواطنين. فأجابت بأن الكتابة كانت لديهم من اليسار إلى اليمين عكس ما هو شائع الآن. أما عن وجود المحاكم فقالت أن هناك محاكم وقضاة وشهود عيان ومرافعات قضائية وما إلى ذلك مما يعكس التطور الحضاري الذي كانت يعيشه العراقيون القدماء.
أما السؤال الأخير الذي ختمت به المحاضرة فتمحور حول استعمال البحرين كمقبرة لدفن الموتى العراقيين، خصوصاً وأن عدد المقابر كثير جداً قياساً بالتعداد السكاني لشعب البحرين آنذاك. لم تنفِ المحاضرة مثل هذا الطرح، ولكنها قالت بأن المثيولوجيا العراقية تصور البحرين جنة كما جاء في ملحمة كلكامش، وأن التأكد من صحة هذا الطرح يحتاج إلى أبحاث علمية رصينة.