جانيسا وايلدر في ضيافة الحوار الإنساني بلندن
هل يمكن للغرب الأميركي أن ينسجم مع الشرق الأوسط بعد 11 سبتمبر؟
لندن / عدنان حسين أحمد
استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الباحثة والموظفة السابقة في وزارة الخارجية الأميركية جانيسا غانز وايلدر في ندوة ثقافية تحدثت فيها عن بعض الهموم السياسية والاجتماعية والفكرية، إذ كان موضوع المحاضرة حسّاساّ وعميقاً يتمحور حول “عالمِنا المعاصر ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وكيفية الانتقال من الصراع إلى السلام”. وقد طرحت الباحثة وايلدر حزمة من الأسئلة الجوهرية مفادها:”هل يمكن للغرب والشرق الأوسط الآن أو في أي وقت مضى أن ينسجما؟ وهل أنَّ “صراع الحضارات” أمر حتمي لا مفر منه”؟ وما هي طبيعة العلاقة بين أميركا والغرب الأوروبي من جهة، وبين بلدان الشرق الأوسط برمتها من جهة أخرى؟ وهل من الممكن تحريك عالمنا الراهن إلى ما بعد حقبة 11/9 الموسومة بالنزاع وسوء الفهم؟ هذا إضافة إلى أسئلة فرعية أخرى تولدت في أثناء تقديم المحاضرة التي اتسمت بشموليتها وعمقها إضافة إلى نَفَسها الرومانسي الواضح، فقد اختارت الباحثة وايلدر أن تنتسب إلى النهر، وتنأى بنفسها عن الحرب جسداً وفكراً وذهنية. فقد استقالت من عملها كموظفة في الخارجية الأميركية حيث كان واجبها أن تحلل المعلومات وتقدّمها للجهات المعنية في الإدارة الأميركية. ويبدو أنّ هذه المهنة لم ترُق لجانيسا، لذلك اختارت الجانب الرومانسي وانتمت إلى نهر “الفرات” على وجه التحديد حيث أسست معهد الفرات، وهو منظمة مكرّسة لترويج الوعي وتعميق التفاهم حول الشرق الأوسط، كما يسعى هذا المعهد إلى التخفيف من حدة “صراع الحضارات” ورأب الصدع بين أميركا والغرب الأوروبي وبلدان الشرق الأوسط وفي مقدمتها العراق الذي تعرّض في عام 2003 لحرب كونية كان هدفها المُعلن إسقاط الدكتاتورية وإحلال النظام الديمقراطي البديل.
فكرة معهد الفرات
لابد من إحاطة القارئ الكريم بأن جانيسا غانز وايلدر قد وفَدت إلى العراق مع قوات المارينز الأميركية في عام 2003، وفي أثناء معركة الفلوجة الأولى التي اندلعت في أوائل أبريل “نيسان” عام 2004 كانت جانيسا هي المرأة المدنية الوحيدة التي رافقت قوات المارينز التي أحاطت بمشارف مدينة الفلوجة وحاصرتها من الجهات الأربع. وبعد انصرام الأسبوع الأول من تواجد جانيسا هناك وجدت نفسها واقفة عند ضفة نهر الفرات متعجبةً مدهوشة من التناقض الحاد بين الهدوء التام للنهر، ورقة تدفقه، وبين رعب الحرب التي جرّبتها تواً. وعندما تيّقنت بأن هذا النهر هو نفسه الذي يجري في مدينة الفلوجة من دون أن يعيقه أو يتحداه الموت والدمار اللذان يحيطان به من كل جانب، أدركت الاستعارة الكامنة في قوة الحياة وقدرتها على تجاوز الموت، بل قدرة الخير على تجاوز الشر واكتساحه والانتصار عليه ولو إلى حين. كان نهر الفرات رمزاً قوياً على مرّ الأزمنة، “ويُفترض أنه يتدفق من جنة عدن” وكان يعتبر حتى وقت متأخر الحدود القديمة بين الشرق والغرب، أما اليوم فهو مانح الحياة في الصحراء القاحلة، ونذير أمل وسلام في وقت الحرب، وبدلاً من أن يكون حداً بين الشرق والغرب، فقد أصبح جسراً للتواصل بين الحضارات، وآصرة للتفاهم بين “الأنا” و “الآخر”. هذه هي اللحظة التأملية الحاسمة التي أجبرت جانيسا على الانعطاف والاستدارة الكاملة إلى الطرف الآخر من الحرب، والتوجه صوب ضفة السلام حيث الحُب والأمل والصفاء الروحي الذي لا يكدِّره أزيز الرصاص، ودوّي القنابل.
لا تعوِّل جانيسا كثيراً على الجهود الرسمية التي تبذلها الإدارة الأميركية لوحدها، وإنما تطمح من مؤسسات المجتمع المدني نفسها لأن تقوم بهذا الدور الإنساني الكبير الذي يهدف إلى تجسير الهوّة بين الشرق والغرب أو تضييقها في الأقل، كما تتمنى على الجيل اللاحق أن يبذل قصارى جهده بغية تحقيق التفاهم بين الشعوب واستعادة الثقة التي فُقدت بسبب النزاعات والحروب المتواصلة.
إذا كان هدف المعهد الأساسي هو إنهاء “صراع الحضارات” في الوقت الحاضر، فإن غاياته الأخرى هي نشر الوعي بأبعاده السياسية والثقافية المعروفة في الشرق الأوسط، وتحسين العلاقات بين الطرفين على أساس الاحترام المُتبادَل، والمصالح المُشترَكة.
يعتمد القائمون على معهد الفرات على مختلف الوسائل السمعية والبصرية لشدّ الانتباه إلى قضايا الشرق الأوسط المهمة والمصيرية مثل المطبوعات بأنواعها، وشبكات التواصل الاجتماعي التي يروجون بواسطتها نشر أخبارهم وندواتهم الفكرية والثقافية، هذا إضافة إلى الأفلام الوثائقية التي ينتجها المعهد بنفسه. وفي أثناء المحاضرة التي احتضنتها مؤسسة الحوار الإنساني في الثامن أكتوبر الجاري عرضت جانيسا للحاضرين جانباً من فيلم وثائقي عن التغيير الجذري الذي حدث في العراق، وقد رأينا بعض الشخصيات السياسية والثقافية التي تحضر بقوة في المشهد السياسي والثقافي العراقيين نذكر منهم د. صالح المطلك، و د. إبراهيم الجعفري، والأستاذ مصطفى الكاظمي وقد تحدثوا خلال المُقتطفات المُنتخبة عن معاناة العراقيين خلال حقبة النظام الشمولي، وهمومهم الجديدة التي تتعلق بالبطالة، ونقص الخدمات الأساسية وما إلى ذلك.
يسعى معهد الفرات إلى تحقيق جملة من العناصر المهمة من خلال أنشطته وفعالياته المتواصلة نذكر أبرزها “الإخبار” و “الإلهام” و “التغيير” في مواقف الناس. فمن حق المتلقين، أياً كان نوعهم، أن تخبرهم بالحقائق كما حدثت على أرض الواقع، وأن تلهمهم أو تحفِّزهم على الإلهام في الأقل لأن يجترحوا أفكاراً جديدة، وأن تساهم في تغيير مواقفهم نحو الأفضل بهدف بناء الإنسان النموذجي المُسالم الذي ينبذ الحرب، ويبذل قصارى جهده بغية تحقيق السلام. يتمنى القائمون على معهد الفرات وعلى رأسهم جانيسا وايلدر، أن يحقق الناس تقدّماً يومياً في حياتهم على الصعيد الشخصي، فهي تتمنى علينا أن نتعلّم أكثر، وأن نحب أكثر، وأن نكون أكثر عطاءً، كما تلتمس من كل أعضائها ومؤازريها في كل مكان أن يروا إنسانية الإنسان الآخر، وأن يضعوه على قدم المساواة مع أنفسهم، ويجب أن تكون هذه الرؤية الإنسانية مُلهِمة لنا لأن نذهب وراء مخاوفنا، وحدودنا الوهمية المصطنعة، لكي نعانق الصورة الأكبر لإنسانية الإنسان التي يجب أن تكون كامنة في كل واحد منا على انفراد. لا تكتفي جانيسا بالتعلّم اليومي واكتساب الثقافة العامة، وإنما تطالبنا بأن نتوصل للاكتشافات الروحية للإنسان والكون في الوقت ذاته.
بعد الانتهاء من محاضرتها القيّمة انهمرت عليها أسئلة الحاضرين ومداخلاتهم “الطويلة جداً” وكأن السائلين لديهم الرغبة الكبيرة في البوح لأجل البوح ذاته، أو ربما للتنفيس عن الكم الكبير من المعلومات والآراء المحبوسة في أذهانهم وصدورهم، وكانت غالبية الملاحظات تنصّب حول الأخطاء التي ارتكبها الحاكم المدني للعراق بول برايمر من بينها الاعتماد على عناصر غير كفوءة في تشكيل الحكومة العراقية، وحلّ الجيش والمؤسسات الأمنية وبعض الوزارات التي أثرّت في كفاءة الحكومات التي صعدت إلى سُدة السلطة بعد التغيير.
درست جانيسا وايلدر في كلية برنسبيا وحصلت فيها على شهادة البكالوريوس، ثم نالت درجة الماجستير في السياسة الدولية من جامعة ستانفورد. عملت لمدة خمس سنوات كموظفة مدنية في الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، ثم أصبحت مستشارة في وزراة الخارجية، وأستاذة متخصصة بقضايا الشرق الأوسط في جامعة برنسيبيا. ونظراً لخبرتها الواسعة في الشرق الأوسط فقد أقامت بالعديد من الرحلات ذات الطابع الثقافي الاستقصائي في عدد من البلدان العربية. جدير ذكره أن جانيسا تتحدث الفرنسية وشيئ من الإسبانية والعربية.