19-06-2013 –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية شعرية للشاعرة ريم قيس كبّة. وقد ساهمت في تقديمها الروائية والصحفية إنعام كجه جي. ونظراً لأهمية هذا التقديم نورده كما جاء على لسان كجه جي التي قالت:
“بقامتها النحيلة، بنظارتها، ببحّة صوتها، بحركات يديها، بالفضة والفيروز في جيدها ومعصميها وأناملها تبدو ريم وكأنّ من السهل أن يرسمها فنان، لكنها تبقى السهلة الممتنعة على التقديم، أتخيلها تلك الشاعرة التي كانت تتمنى لو كرّست حنجرتها لأناشيد الحب. هكذا خلقها ربّها، وهكذا اختارت أن تكون لولا أن الشاعرة تعيش في بغداد النبيلة التي قال فيها مصطفى جمال الدين: ” بغدادُ ما اشتبكت عليكِ الأعصرُ / إلاّ ذوت ووُريق عمرك أخضرُ”. عاشت ريم عواصف العراق ولما خطر لها أن في مقدور قصيدتها أن تستريح، أن تتريّض وأن تتكأ على وسادة الولع في الشام في القاهرة طاردتها العواصف وفرضت عليها أن تنشطر ما بين حُب وحرب. لقد كانت الحروب على مدى التاريخ الإنساني رغم أهوالها أرحاماً ولّادة للأدب العظيم. لن أقول إنها شاعرة عظيمة، لكنها بفضل اجتهادها في الطريق لأن تكون. هناك صلة قديمة بين عائلتينا قبل ولادتها، لا بل شاءت الظروف أن ألتقي بها في أوجع فترات الحصار على العراقيين يوم شكت لي بأنه يجثم على صدرها مثل جرن جدتها العتيق ويمنعها عن التنفس، ولما سألتها عن الإبداع ردّت: “أحتاج لطاقة عشرة رجال لكي أكتب”. كان البلد خارجاً من حربين فلما قامت حربنا الثالثة كما تقول في إحدى قصائدها قالت ريم في حديث صحفي “تحولنا إلى محللين سياسيين من البائع الجوال بالعربة إلى البروفيسور بالجامعة، حتى الأطفال صارت السياسة لغتهم ونحن نريد أن نعيش. . . أن نعيش . . . أن نعيش”، كررتها ثلاث مرات بإصرار عاشقة للحياة تأبى أن تفرّط بهذه النعمة. شبّهوها بنازك الملائكة. قالوا إنها نازك الصغيرة، لكن الصغيرة تكبر، وتزرع بدأب وشغف الشاعرة حديقتها الشعرية إضمامة بعد إضمامة تطير مع “نوارس تقترف التحليق” عنوان ديوانها الأول يوم كان التحليق اقترافاً لا احترافاً بديعاً، ثم تحتفي بالوقت الضائع، ديوانها الثاني، ثم تغمض عينيها لكي تسترق الكتابة، ثم تُطلق زقزقات، أول ديواني صوتي في العراق إلى أن تُصدر قبل خمس سنوات مجموعة شعرية بعنوان “بيتنا” أي بيت منهم، لقد فرضت عليها الهجرات المتتالية أن تؤثث عدة بيوت وأن تزرع الخضرة في نوافذ أكثر من عاصمة، وأن تبدأ بتجميع مكتبتها مرة بعد مرة من جديد، لا أحد سوى المكتوين بنار الأدب يعرف لوعة فقدان المكتبة الأولى. يعجبني عنوان مجموعتها الصادرة في بيروت “متى ستصدِّق أني فراشة؟”. إن عناوينها جُمل شعرية. وأنا يارسم أصدِّق أنك فراشة وزهرة رازقي عراقية تنشر شذاها حولها ووريثة تراث شعري باذخ يمتد قديماً في العصور. أسمعينا فكلنا آذان صاغية”.
ثم قرأت الشاعرة ريم قيس كبّة عدداً من القصائد نورد بعضها علّها تعطي للقارئ صورة معمّقة عن تجربتها الشعرية.
ريم قيس كبّة
وطن لعطركَ
رائحةُ الشطِّ
عندَ ضفافِ الوطنْ
للمسِ الاُبوةِ
من كفـّكَ الثـرِّ
دفءُ الوطنْ
للمدامعِ
تلمعُ في مقلتيكَ
حنينُ الوطنْ
لرحيقكَ
للقُبلةِ المستفيضةِ
من شفتيكَ،
لريقكَ
طعمُ الوطنْ
كم أضعتُكَ
حين أضعتُ الضفافْ !
وحين وجدتُكَ
أغمضتُ عينيْ
غفوتُ
وصدركَ
.. كـانَ الوطن!
وأثـملُ حـدَّ الفراق
يُبلّلُني الفجرُ
أصحو
وأهجسُ وجهكَ
– دون الوجوهِ –
يُعِـدُّ الحليبَ لقلبي
..
اُنفّضُ مايتبقـّى من الحلمِ
أفركُ عينيّ
كي أتبيّنَ خيط البياضِ
على مفرقيكَ
من الأسودِ المستفِز بليلٍ تطاولَ
..
ألبسُ لوني الحليـبيَّ ..
كم مرةً
أعلَنَتْ صدقَ فيروزِها لهفتي
دونَ وعدٍ بأن تلتقيكَ ؟
..
اُعيدُ تفاصيلَ صوتكَ :
كم دقةً عزفَ القلبُ مابينَ صمتينِ ؟
كم ريشـةً من حبورٍ ومن فرحٍ
ناثرتـْها شفاهكَ ؟
كم نظرةٍ شردَتْ منكِ
خضراءَ.. تنضحُ بوحاً
لتفضحَ مايعتريكَ ؟
..
يُقشّـرُني الشوقُ
تفاحةً من جنونٍ ومعنى
يعتـّقني الانتظارُ :
بكلّ احتمالاتكَ المنتقاةِ
اُعطّـرُ بالي
وأشربُ نخبَ النهايةِ، قبلَ ابتدائكَ
أثملُ .. حـدَّ الفراق
..
فلا تتمهّلْ
تعجَّـلْ قليلاً
ففي القلبِ عصفورةٌ
شرّدَتـْها البلادُ
وأربكـَها صمتـُكَ المستفيضُ
..
سأمضي إليَّ قريباً
أعودُ
كما ابتدأتْ رحلتي
لعبة الحلمِ صمتاً
اُطلّـقُ مفردةَ الإنتظارِ
وأرنو اليكَ
بعينين خاصمها الاشتهاءْ
..
تعجـّلْ
ولا تتوجّسْ
فما عادَ في القلبِ
متسـعٌ
للبـقاءْ
باب التوجس مقفل
باب التوجسِ مقفلُ
لا شيئ يستدعي التلفّت والحذر
القلب موج من خفوق
والجوانح أشهرت تحليقها
فالخمرة اندلقت على فستانها
وقميصكَ الصاخي سَكَرْ.
ماذا لو
أدخلُ
تحت قميصكَ
أجلسُ
في الزاوية اليسرى
أتنفّس منكَ
وأزرعُ
بين الأضلاع
قصيدة.
نذور
للكلماتِ وقعُ السـِحرِ
فلنَقسِـمْ تعاويذَ التقرُّبِ
بين مغتربَـينِ
مـذْ حطّ الرحيلُ بقاءهُ
فُتِحتْ شـبابيكُ الجِنانْ
واستوتْ للبوحِ بينهما فراسخُ
..
أوقدتْ لغةُ الجمالِ
شـموعَها
ألقـَتْ على الشـطّينِ
أسـرارَ النذورْ
تلألأَتْ للعشـقِ أسرابٌ
على النهرِ القديمِ
فأورقَ المنفى
وظللَ فسحةً للكشفِ
ضمّتْ مُتعبـَينْ
..
فكم مضى؟
منذُ اختفَتْ تلكَ النهاراتُ الفتيّـةُ ؟
كم توارى من مساءٍ
قيدَ بوْحينِ
إستفاقا عـنوةً ؟
كم قد توغّـلَ في صدى النسـيانِ
من أمـلٍ
بأن يأتي الجمالُ متوّجـاً
حتى انبلَجْـتَ على غضونٍ للجبينْ
دهشَـةً
تأتي بما لن يستقيمَ به التوقـّع ؟!
..
كـم اُحبكَ !
كـم اُحبكِ !
..
كنْ معي
فالوقتُ من مللٍ
ومن غيمٍ تثاقلَ
..
لسـتُ وحدي في الغروبِ
ولستَ وحدكَ
..
كم اُحبـّكَ !
بيضاءُ كقلبك
كيفَ قرأتَ الفضةَ في روحي
وكتمتَ الفيروزْ؟
كيف مشيتَ على الطرقاتِ المهجورةِ مني
من غيرِ أصابعَ ؟
كيفَ ؟
ألم تتحسّسْ وتراً ؟
او تستنفرْ انثى تحضنُ دهشةَ غيبكَ ؟
..
بيضاءُ كقلبكَ
كأسُ الخمرةِ
هل كان بياضاً حجرياً
أم كانت اُنثاكَ حجرْ ؟
أوَلم يُسكركَ بياضُ المعنى
لأديمٍ يتسلّلُ من ليلِ الثوبِ
بقصدٍ او بمزاحْ؟
أوَلم تكنِ الأرضَ لغيمٍ يتقاطرُ من عينيها؟
كيفَ إذاً
غادرتَ الشفتينِ بلا ذكرى
غير الضحكاتْ؟
..
وكيف تلبّسـكَ النبلُ
وأنتَ على الأعتابِ أميراً للصمتِ
وحولكَ نافورةُ اُنثى ومساءْ؟
..
ها أنت أخيراً
تتهجّى لحنَ بدايتها
وكأنكَ ما كنتَ الأولى
حين انتبهَ الوردُ
وأمطرَ تموزَ الوجعُ الأولُ
..
خانتكَ بسالتُكَ الأولى؟
أم أتعبكَ الفيروزْ؟
..
خذْ فضّةَ عمري
واشربْ نخبَ طفولتنا
بالأبيضِ
وابدأ من حيثُ إرتبكَ الوقتُ
ولا تحسبْ أن الدهشةَ ماتتْ
أو أن الحبَّ عجوزْ.
شوقٌ معتّق
لملم سماءكَ
وادّخِرها للمجيءْ
واجمع حروفكَ في السلال على مهلْ
سأجيء ملأى بالنخيل
. .
فاسكرْ بصبركَ
قبِّل المرآة عني
وانتظرني
ريثما يتعتقُ الشوقُ المُكابدُ
في تموري
. .
تغدو القصيدةُ خمرةً
وحروفها
تغدو قُبَلْ.
رسالة قصيرة
إذا استلمتُ جُملةً
أقبِّل المحمول
لعلّها يداك
أخطأتْ
وأرسلتْ لمسةْ
خـواتـم
خـَلَـعَتْ عنها الخواتمَ
دونَ اكتراثٍ
..
فأرسلَ
من غيرِ وعيٍ
لعري الأصابعِ
قـُبلةْ.
لُـفافة
في شفتيَّ
وضعتُ اللفافةَ
لفَّ أصابعهُ
حولَ كفي
وأشعلَ بردَ الحياءْ
..
فطارَ الدخانُ
حماماً
برأسي
وايقظَ
في الســرّ
كلّ النسـاءْ.
أتحدّاكُـم !
الصباحاتُ
تركضُ كالخيلِ
لكنني
قَـدْ أفـوزُ
بكـبوةْ
..
وليلُ إمرئ القيسِ
شـدَّدَ أمراسَـهُ
بيدَ أنيَ
قـد أبتَـليهِ
بنـزوةْ
..
وسُـدَّتْ دروبٌ
وعـمَّ خرابٌ
وحُـرِّمَ خمرُ المشاعرِ
..
لكنّـني
سـوفَ أسـكرُ
حتى بقهوةْ!
مـــاء
( من الموروث الشعبي: من يشرب الماء بعد أحدٍ يتبعه.)
مَن يشربْ
مِن كأسي بعدي
يتبعـْـــني
..
كنتَ طوالَ بدايتنا
تشربُ بعدي
تتلمّـظُ
من قطرةِ شهدٍ
قد تفلتُ سهواً من شفتي
..
عامدةً
لم أشربْ بعدكَ
..
لكنْ
..
حين تذوقتكَ
صرتُ طوال حنيني
أتبعُ خيطَ دخانٍ
يفلتُ سهواً
من جمرٍ
للُـفافةِ تبغٍ
في الطرَفِ الآخرِ منها
تبدو لاهيةً شفتاكْ
..
لا تشربْ بعدي
إشـربني
فأنا أتلاشى وجداً
في قطرةِ ماءٍ
حين أراكْ.
وفي ختام الأمسية دار نقاش بين الشاعرة وجمهور مؤسسة الحوار الإنساني وأبرزهم الدكتور هادي الحداد والروائية سلوى جراح والإعلامي فلاح هاشم والفنانة نجاة زكي.