23-04-2014 –
تغطية : عدنان حسين احمد –
الدكتور إبراهيم الحيدري
موضوع الشخصية هو من أعقد المواضيع وأصعبها في علم الاجتماع ولذلك يحتاح إلى مؤسسة وعدد من علماء اجتماع وعلم النفس والأنثروبولوجيا الاجتماعية. ولذلك أحاول دراسة الشخصية العراقية وسبر أغوارها ومعرفة أسرارها وإكمال ما بدأه أستاذي علي الوردي الذي لم يكمل مشروعه الرائد.
أحاول في هذا الكتاب دراسة الشخصية وتحليلها تحليلاً سوسيو- ثقافياً وسيكولوجياً وتفكيك مكوناتها وعناصرها الأولية وتشخيص خصائصها وسماتها الثابتة والمتغيرة وفق ما استجد من تغيرات وتحولات بنيوية خلال العقود الأخيرة وكذلك معرفة أسباب الخراب والتشوه والانكسار الذي أصاب الشخصية العراقية بعد تعرضها إلى انتهاكات فظيعة وذلك بسبب عوامل عديدة أهمها: التخلف الاجتماعي والركود الاقتصادي وتركة النظام الشمولي السابق ووالغزو والاحتلال وما خلفه من فوضى وتدهور أمني وإداري وسياسي.
كل هذه العوامل عرضت الشخصية العراقية إلى هزات عميقة وتغيرات بنيوية نوعية في خصائص وسمات الشخصية العراقية وغيّرت كثيراً من ثوابتها الأصيلة.
الشخصية العراقية في الأصل هي شخصية حيّة بناءة وانفعالية قلقة ومسالمة بطبيعتها، ولها قابلية على الصبر والتحمل وقدرة عالية على التكيف مع الظروف المتغيرة والتمسك بالحياة. والدليل على ذلك هو تجاوز العراقيين حربا أهلية طاحنة وصمودهم أمام نيات تدمير الوطن وتجزئته إلى دويلات طوائف.
خصصنا الجزء الأول لدراسة التكوينات الاجتماعية المتنوعة والهويات المتعددة والثقافات الفرعية المختلفة والأجيال والنخب المتعاقبة والعوامل التي أثرت وتؤثر في انقسام الهوية الى هويات فرعية متصارعة في محاولة لمعرفة الذات ونقدها واستشراف شخصية عراقية متكاملة وهوية وطنية واحدة.
ويبحث الجزء الثاني في التغيرات والتحولات البنيوية التي حدثت في العراق خلال العقود الأخيرة وتأثيرها على انقسام الشخصية العراقية إلى واحدة متسلطة قامعة(سادية) تقدم قيم الموت والكراهية على قيم الحب والتعاون، وأخرى عاجزة خائفة وعاجزة ونكوصية سلبية(ماسوشية) لاأبالية وتقول: أنا شعلية!
أما الجزء الثالث فيبحث في الشخصية العراقية بعد سقوط النظام السابق والغزو والاحتلال وما صاحب ذلك من ردة حضارية من أهم مظاهرها تشوه الشخصية العراقية وخرابها الذي يظهر في انحلال القيم والمعايير الاجتماعية والدينية والأخلاقية وانتشار ثقافة العنف والإرهاب والاحتراب الداخلي وبروز المحاصصة الطائفية والتكالب على المصالح والمنافع المادية واستشراء الفساد والرشوة والمحسوبية والمنسوبية، إلى جانب تردي القيم والمعايير الحضرية والاخلاقية وانحطاط الذائقة الجمالية. وما سُوق مريدي المشهور سوى شاهد على الخراب.
كتاب الشخصية العراقية والبحث عن الذات-الجزء الأول
يتضمن الفصل الأول اطلالة تاريخية عن العراق أرضاً ومجتمعا وحضارة انطلاقا من أن الباحث الاجتماعي إذا أراد معرفة حاضره واستشراف مستقبله لابد له من فهم ماضيه وتتبع مسيرته وتأشير المحطات التي توقف فيها الزمن أو التي تحرك فيها وما حدث فيها من قطيعات حضارية وتحولات بنيوية وتغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤكداً على أهمية الفكر الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وأنماط الإنتاج المتعايشة التي كان لها تأثير عميق على المجتمع وتشكيل شخصية الفرد العراقي.
وفي الفصل الثاني قمنا بتقسيم تاريخ العراق الحديث منذ تأسيس الدولة العراقية الى ثلاث مراحل (كل مرحلة 30 سنة تقريبا) تمثل كل مرحلة منها جيلا. والاجيال الثلاثة تكون تاريخ الدولة العراقية الحديثة.
الجيل الأول هو جيل التأسيس 1915-1945 الذي يمتد من بداية القرن الماضي حتى الحرب العالمية الثانية. وقد سبقه جيل ما قبل التأسيس (جيل العمامة والطربوش) الذي وضع اللبنات الأولى لمشروع النهضة في العراق.
والجيل الثاني هو جيل البناء 1945-1975 الذي حاول بناء اسس عراق جديد كان يمكن أن يقود العراق إلى الاستقرار والحداثة والتقدم الاجتماعي. وقد ساعد ذلك الجيل على إنتاج ملامح طبقة وسطى نامية أخذت على عاتقها بناء مؤسسات الدولة والمجتمع المدني. وكادت فترة الخمسينات أن تكون فترة ذهبية في تاريخ العراق الحديث، غير أن نظام الملكية الكبيرة والعلاقات شبه الإقطاعية سبب نزوحاً ريفياً واسعاً إلى المدن الكبيرة مما أنتج بطالة وبطالة مقنعة كان لها آثار وخيمة على المجتمع العراقي ما يزال يجني ثمارها العراقيون حتى اليوم.
وخلال جيل البناء نمت في العراق الطبقة الوسطى وتطورت خلال فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وساهمت في بناء العراق وكذلك دورها في ثورة 14 تموز ثم ضمورها بعد صعود المؤسسة العسكرية إلى السلطة ودخول العراق في الحرب العبثية مع إيران.
أما الجيل الثالث فهو جيل الضياع-جيل الحرب والحصار 1975-2004 وينقسم الى:
1- جيل ما قبل صدام حسين، الذي حافظ على شخصية ذات سمات وخصائص ثابتة تقريبا.
2- جيل ما بعد صدام حسين، الذي نشأ وترعرع في ظل الحروب والحصار والقمع وتشوه الشخصية والذي لا يحمل سوى ذاكرة القتل والدمار.
والسؤال الذي يتبادر الى الذهن: كيف يمكن لهذا الجيل الذي يعيش الخراب وانحلال القيم والمعايير ولا يعرف الاستقرار والمواطنة ولا يحترم الدولة ومؤسساتها ان يربي الجيل القادم بشكل سليم؟!
المجتمع العراقي في بداية هذا القرن
لم يشكل المجتمع العراقي بحدوده الحديثة وحدة سياسية منفصلة ومستقلة نسبيا إلا في مطلع القرن العشرين. ولم يكن هناك “مجتمع عراقي” يمكن تشخيصه بكونه مجتمع متكامل ومستقر وله دولة مركزية بالمعنى الحديث للكلمة. حيث كان الافراد ينقسمون في فترة الحكم العثماني الاستبدادي الى رعايا وليس مواطنين والى افراد ينتسبون الى قبائل و طوائف ومناطق وحرف وينقسمون بدورهم إلى بدو وريفيين وحضر. وإذا كان هناك تناسق ظاهري بين مكونات الشعب العراقي، فهناك اختلافات عديدة مفعمة بالأهمية، فبالرغم من الادعاء بالأصل الواحد، فالعراق لم يكن إلا وارث شعوب وأجناس وقبائل وطوائف ولغات متنوعة تهيأت لها بعض المستلزمات الضرورية لقيام حكم وطني بدأت معالمه بالتطور التدريجي بدءا بتأسيس أولى الأحزاب والجمعيات الوطنية بعد الحرب العالمية الأولى.
وبقي العراق أمة تبحث عن دولة ودولة تبحث عن هوية، حيث لم يكن العراق قبل تأسيس الدولة العراقية شعبا موحداً في “أمة ” ويكون وحدة سياسية واحدة لتعدد وتنوع وخلاف واختلاف مكوناته، ولم يدفعهم وعيهم الاجتماعي والسياسي إلى تشكيل “دولة” تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءاتهم وتوحيدهم في هوية وطنية واحدة. وهو ما أدى الى نمو روح محلية قوية في المدن وروح عشائرية قوية في الريف، ليحافظ كل من الحاكم والمحكوم على وضعه الاجتماعي وحماية نفسه.
وكان تشكيل الدولة العراقية عام 1921 نتاجاً مشوهاً لنمط الهيمنة الكولونيالية الذي كان استجابة للنظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي السائد آنذاك. وقد تشكل النظام الجديد من (نخب) تكونت من جماعات تحالف تقليدية من:
شيوخ القبائل العربية والكردية وكبار الضباط السابقين في الجيش العثماني والأشراف وتجار المدن والوجهاء والافنديةالذين شكلوا نخبة سياسية غير منسجمة في الواقع، حاولت تشكيل هوية وطنية للقيام ببناء العراق وتحديثه وإضعاف الانقسامات القبلية والاثنية والطائفية.
إشكالية الدولة
عانى العراق وما يزال من ضعف الدولة، كمؤسسات مدنية، حيث لم يسبق أن جرب العراقيون تأسيس دولة حديثة منذ سقوط بغداد على يد المغول واحتلال الدولة العثمانية للعراق. ولم يكن العراقيون يعرفون كيف يؤسسون دولة حديثة، كما ظهرت في أوروبا في العصر الحديث، تقوم على مؤسسات المجتمع المدني واحترام حقوق الانسان والتمتع بحق التعبير الحر عن الذات واحترام الاخر المختلف، وفي ذات الوقت، استماع الدولة الى مطاليبه ومحاولة تحقيقها. ولم يكن ناضجاً ولم يدفعهم إلى توحيد أنفسهم وتشكيل وحدة سياسية تستقطب مشاعرهم وانتماءاتهم وولاءتهم وتوحدهم في هوية وطنية واحدة. كما لم يكن الدين أو العروبة مقرران لتوحيدهم في هوية وطنية واحدة. ولذلك تأسست الدولة من الخارج!
وحالما تأسست الدولة تفجرت العصبيات الإثنية والقبلية والطائفية والجهوية ووصلت إلى قمة السلطة وبدأت المنازعات العشائرية والانقلابات العسكرية. وهو ما يفسر وإلى حد بعيد إشكالية ” الدولة” وعدم نضجها وتخلفها وضعفها، بحيث بقيت “العصبية القبلية” كنقيض للدولة الحديثة واستمرت كبنية مؤسسية سلبية وملتبسة. كما استمر دور العشيرة والعائلة والطائفة في الحياة السياسية والاقتصادية كضمانة لها في توفير الأمن والحماية للفرد والجماعة بدل الدولة، التي ما زالت لم تستكمل شروط قيامها.
إشكالية المواطنة
أما المواطنة فهو مفهوم ذو دلالات اجتماعية وسياسية مستمد من كلمة وطن بكل ما تحمله الكلمة من معاني الارتباط بالارض والتاريخ واللغة ومشاركة الفرد في السلطة.
وبهذا المعنى تعني المواطنة منظومة من القيم ومشاعر الولاء والانتماء التي تكرس معنى المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وتحترم التعددية والتنوع وتلغي الفوارق الإثنية والدينية والطبقية والجنسية بين البشر. وبهذا فالمواطنة هي إطار فلسفي عام وشامل لكل الامم والشعوب، ولا يرتبط بالمعنى القانوني للجنسية فحسب، وإنما يتجاوزه إلى معنى أوسع واشمل هو الولاء الأقوى والانتماء الأشمل إلى الارض- الوطن. أي الانتماء للوطن والولاء لهوية وطنية جامعة لكل المكونات الاجتماعية.
إشكالية الهوية
الهوية من الهو، أي الآخر، وهي تحدد العلاقة مع الآخر, وتظهر عندما تكون العلاقة مع الآخر ملتبسة، أي في حالة الخلاف والتباين والصراع. والأصل في الهوية يرتبط بفكرة المواطنة والولاء للوطن والانتماء السياسي للدولة. ومن الناحية القانونية ترتبط الهوية بالجنسية التي تحدد الانتماء وليس الولاء. وتتحول الهوية إلى إشكالية في حالة الحروب والكوارث والانقلابات العسكرية والصراع على المصالح. وهي ترتبط بالحرية والديمقراطية واستقلالية الفرد. فبدون حرية تتفكك الهوية وبدون ديمقراطية تضيع حقوق الهويات الفرعية.
وتحدث الأزمة بين الهويات عند حدوث منازعات بين المكونات الاجتماعية المختلفة على توزيع الحقوق والواجبات حيث تنقسم الهوية الوطنية الواحدة إلى عدة هويات فرعية متصارعة تحتمي بثقافاتها الفرعية بدل الوطن والدولة.
وهكذا ظهرت في العراق أجيال جديدة لا تعرف معنى الانتماء والولاء للوطن والدولة واضطرت بشكل أو آخر إلى الالتفاف حول نفسها ومصالحها الآنية والتضامن فيما بينها, إثنياً ومذهبياً وعشائرياً وطائفياً بالرغم من انخراط عدد كبير منهم في الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية والمؤسسات العسكرية والأمنية وأخذ كل منهم يمارس قيمه وأعرافه وعصبياته بالرغم من ولائهم الشكلي للوطن والدولة، وهو ما كّون ردة حضارية عميقة الأثر والتأثير على المجتمع العراقي أرجعت العراق إلى ما قبل تأسيس الدولة العراقية .
وأخيرا أقول:
إذا كانت الشخصية العراقية تتصف بهذه الخاصية، فهذا لا يعني أنها شخصية منحرفة أو مريضة أو غير متكاملة بطبيعتها، لأن جوهر الشخصية العراقية أنها طيبة وكريمة ومتسامحة وأن ثنائية التسلط والخضوع هي نتيجة للظروف والشروط الموضوعية والذاتية التي مرّ ويمر بها العراق. ومن الممكن التخلص منهما إذا ما تغيرت الظروف والشروط التي أنتجتهما.