د.عامر صالح
يعتبر الظلم الاجتماعي الذي يقوم على خلفية فساد الحكم من اخطر الآفات الاجتماعية والسياسية التي تهدد أي مجتمع إنساني بالزوال والانهيار والدمار, وانعدام الأمن والسلم الاجتماعي, وغياب الاستقرار السياسي,
من خلال انعدام التوازن الاجتماعي وانتفاء العدالة, وانتهاك الحقوق العامة للناس, واكل أموال الناس بالباطل, وممارسة التميز العنصري والعرقي والطائفي, ونهب المال العام والفساد بمختلف مظاهره:الإدارية والمالية والاجتماعية والأخلاقية.
وقد أكد ابن خلدون في مقدمته أن الظلم مؤذن بخراب العمران, وحين يشخص بعض مظاهر الفساد التي تعتبر سببا رئيسيا للظلم, حيث يذكر أن الكثير من أصحاب الممالك والملك صار ينزع إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان,بما حصل في يديه من”مال الدولة”,والفرار إلى دولة ثانية لما يراه انه اهنأ وأسلم في إنفاق ذلك المال والحصول على ثمرته, وهو يشير إلى إن في ذلك فسادا لأحوال البلاد والعباد ودنياهم,أنها إشارات حية من العالم ابن خلدون استدركها قبل أكثر من ستمائة عام تنطبق على الحالة العراقية حين يفر المسئولون العراقيون بعد فضائح مالية واختلاسات للمال العام إلى دول الجوار لكي يقيموا فيها بصفة المستثمرين هروبا من العدالة !!!!.
ويؤكد ابن خلدون حين يشخص ظاهرة الفساد فانه يعزو ذلك إلى الطور الخامس من مراحل عمر الدولة حسب تصنيفه,حيث يكثر الإسراف والتبذير,ويكون صاحب الدولة في هذا الطور متلفا لما جمعه السابقون في سبيل الشهوات والملذات والإنفاق على بطانته,وبذلك يفسد كبار أوليائه ويخرب ما ابتناه إسلافه.وهذا الطور لا يؤدي إلا إلى انقراض الدولة حيث أن الانقراض يكون نتيجة للأزمة الاقتصادية التي تحل لنقص الأموال والحاجة إليها من قبل صاحب السلطان التي تجبره على السلوك الإكراهي في زيادة الضرائب على الأكرة والفلاحين وسائر أهل البلاد مما يدعو الناس إلى التقاعس عن العمل بسبب فساد السلطان وبالتالي تتفاقم الأزمة وتدخل الدولة في مرحلة الاضمحلال, وإذا كان استنتاج ابن خلدون لا يتفق مع حالة العراق حول شحة المال, حيث يقف العراق على بحر من الذهب الأسود, إلا إن مفهومه حول اضمحلال الدولة يثير تساؤل بالنسبة للعراق,هل العراق في بداية النهاية أم نهاية البداية !!!!!.
أن من مظاهر الظلم هو وضع الشيء في غير مكانه,إلا يكون الكفوء المناسب في المكان الذي يليق به ويستحقه لأنه ليس من نسب معين, أو من جماعة أو من عشيرة معينة, أو من حزب سياسي أو من طائفة بعينها,فيوضع الإنسان غير المناسب في المكان الذي لا يناسبه ظلما وزورا,فيتصرف بقوت الناس ومصيرهم وفق أهوائه فيكون عندها ضالا ومضلا وظالما,ولا يقتصر هذا على سياسة الدولة فقط,بل يشمل جسد المجتمع بأكمله من أحزاب ومؤسسات ودوائر حكومية ليستفحل ويصبح سلوكا يوميا,يندمج مع المنظومة القيمية ليصبح جزء منها ليبث سمومه يوميا في تصرفات الناس ليهدد الدولة والمجتمع بالفناء الكامل,فيتحول إلى أشبه بالدائرة المغلقة يتناوب فيها الإفراد الأدوار,مرة ظالم وثانية مظلوم وهكذا دواليك !!!.
أن الظلم منبوذ ومدان ومحذر منه في كل الأديان السماوية وغير السماوية,وإذ اذكر هنا دلالات محاربة الظلم في الإسلام فأعني به أن الإسلام وقع متأخرا لما قبله من الأديان ومستفيدا من زخمها في محاربة مختلف الظواهر المرضية, أي أن الإسلام ليست وحده منفردا بذلك وكأني هنا اختزل ما ورد على لسان الأديان الأخرى بشدة,وهنا أشير إلى قول النبي(ص):” اتق دعوة المظلوم فانه ليس بينها وبين الله حجاب”,وقال أيضا: ” دعوة المظلوم مستجابة وان كان فاجرا وفجوره على نفسه”,وقال علي ابن أبي طالب(ع): ” الظلم في الدنيا بوار,وفي الآخرة دمار ” ,وغزارة النصوص القرآنية حول الظلم بمختلف مظاهره لا حصر لها,فقد وردت كلمة الظلم واشتقاقها في القران أكثر من 150 مرة,ونكتفي فقط بما ورد في سورة النساء بقوله تعالى: ” أن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدا وكان ذلك على الله يسيرا “,وفي هذا النص إشارة إلى إن الكافر والظالم سواسية مهما اختلف دينه أو طائفته!!!!.
لقد نشأ الظلم والفساد في العراق في عقوده الأخيرة على أرضية قسوة خارقة واستثنائية حيث قائد الضرورة كان على هبة الاستعداد لذبح مئات الألوف من عامة الناس ومن كوادر البلد العلمية والمهنية والسياسية ومن خيرة مفكريه وأدبائه وكتابه وشعرائه, وحتى من أنصاره ومؤازريه,وحرب ضروس استمرت ثماني سنوات لم تلبث أن انتهت بأعجوبة ساهم العناد الإيراني باستمرارها وإراقة الدماء عند كلا الطرفين,حتى لحقت بها حرب احتلال الكويت,ثم تلتها حرب تحرير الكويت ضد العراق وكان في ذلك اشد دمارا للبنية التحتية الاقتصادية والاجتماعية للدولة العراقية,وقد ساد مناخ من الإعتام واليأس والقنوط والإحباط ارتبط بفقدان الأهل والإخوة والأقارب في الحروب وتصدع العائلة والمدينة والقرية والحي والحارة والجار بتأثير شدة الفقر والحاجة حيث بلغت الرواتب في أفضل الحالات من 5 الى6 دولارات في بلد نفطي كالعراق,إضافة إلى التصدعات القيمية والأخلاقية العامة كمحصلة لهذا كله,وقد قادت هذه الظروف إلى شيوع الجريمة العادية والسرقة ولكنها كانت في معظمها تحت قبضة النظام السابق حيث كان على استعداد لتشجيعها أو القبض على منفذيها بنفس الوقت للتخفيف من أزمته الداخلية,وكذلك تاركا لأجهزته المخابراتية والأمنية حرية ارتكاب الجرائم النوعية ضد مناوئيه !!!!.
ثم أتت فترة ما بعد الاحتلال الأمريكي عام 2003 حيث شيوع وانتشار التنظيمات السياسية الطائفية التي نمت نموا مذهلا وسريعا وبتشجيع من دول الجوار العربي وغير العربي مستفيدة من حالة الإحباط التي عانى منها الشعب العراقي لعقود في ظل النظام السابق جراء الكوارث الاقتصادية والاجتماعية التي سببها له,وهي بمثابة استجابة انفعالية ـ سياسية في تصور غير عقلاني للخلاص من الظلم الاجتماعي دون فهم قوانينه وأسبابه,والكثير من هذه التنظيمات الطائفية ـ السياسية تربى في جبال أفغانستان أو في سهول إيران ” دون اتهام محدد لأحد بالإرهاب ” ولكن الجميع حمل أجندة البلد الذي قدم منه لينفذها على ارض العراق المظلوم ويتلقى إلى اليوم وباستمرار دعم تلك البلدان واشتراطاتها السياسية,بما فيه حتى شروط تشكيل حكومته القادمة ,أنها كارثة حقيقية ضد استقلال البلد وسيادته,وعلى خلفية ذلك اشتد الاقتتال بين طوائف الدين الواحد ليتخذ طابع التصفيات الدموية والانتقام والتكفير المتبادل,بل امتد ليشمل أديان وطوائف أخرى لا ناقة لها ولا جمل في الصراع الدائر في عمل هستيري لا حصر لحدوده,وفي محاولات عبثية لحرق الأخضر باليابس !!!!.
لقد تواجدت هذه القوى تحت المظلة الأمريكية والجميع غير مؤمن بالديمقراطية السياسية كأسلوب لإدارة الحكم, وإذا كان المحتل صادقا في نيته في بناء نظام ديمقراطي في العراق فتلك هي حالة الاغتراب بين المحتل وبين من يتعامل معهم لإدارة شئون البلاد,وكما يقول المثل ” إن كنت تدري فتلك مصيبتي وان كنت لا تدري فالمصيبة أعظم “,وعلى خلفية ذلك ولد الدستور”رغم مثالبه “معطلا والمؤسسات الديمقراطية الناشئة فارغة المحتوى غير ذات جدوى,والجميع يعمل على شاكلته وبطريقته الخاصة مستلهما من الدكتاتورية السابقة اعتى دروسها في “التبعيث الجديد” والاستحواذ والقمع,وكل من هؤلاء انشأ ميليشياته “الجيش الشعبي الجديد ” وحتى منظمات مجتمعه المدني الصفراء,وقواه الأمنية ليدافع عن نفسه وعن امتيازاته وبقائه بعيدا عن الانتماء إلى الوطن والمواطنة.
وعلى خلفية هذه التعبئة المشوه اندفعت شرائح واسعة من مجتمعنا إلى الارتماء في أحضان هذه الحركات على خلفية فهم محدود لإزالة أثار الفقر ومسبباته في تصور خاطئ مفاده إن جرة قلم سوف تنقلهم من فقر مدقع إلى غنى لا حدود له, في ظروف سياسات انفتاح غير مدروسة وعبثية صوب الانتقال إلى اقتصاديات السوق,في وقت توقفت فيه الدولة عن أداء دورها التنموي في بلد غني كالعراق,وتتسع دائرة الظلم الاجتماعي والفساد,ويبدأ الفقر بالضرب بشدة في ما تبقى من صلابة التنظيم الاجتماعي بما فيه العائلة ليفضي إلى تصدع اجتماعي وترهل سياسي مخيف فيخيم على المجتمع شعور طاغ بالاغتراب وفقدان المعنى والمصداقية مع انعدام العدالة والتخلص من كل تخطيط ليقع المجتمع فريسة ضروب الفوضى وارتفاع مخيف لنسبة البطالة وسط غنى هو الأخر مخيف وفاحش,وتتعمد القوى السياسية لتسريع الانتقال إلى الرأسمالية المشوهة والوحشية لتحقيق مكاسب خاصة عبر الوكالات والسماسرة والفساد بكل أنواعه,ونفس هذه القوى تندفع إلى تسويات سياسية غير عادلة يسودها منطق الانهزامية الوطنية في ظروف يبدوا فيها محيط العراق الخارجي أكثر شراسة وعنف في التدخل في شئونه وارتهانه وأضعاف وحدته الداخلية.
أن الظلم والفساد ينتشران حيث تغيب العدالة الاجتماعية ولا يتوفر مبدأ تكافؤ الفرص فيصبح المواطن ينظر إلى السلطة على أنها لا عقلانية ويستبيح بالتالي الممتلكات والأموال العامة ويهضم حقوق الآخرين اقتداء بما فعلته هي به,كما ينتشر الفساد حيث الو لاءات الضيقة ” قرابة الدم وقرابة العشيرة والحزب والطائفة ” في ظل غياب الثقافة الديمقراطية وثقافة المواطنة,وفي ظل تفاوت مريع في الدخول بين الفقر المدقع والغنى المشبوه.
أن فتح حوار وطني لمكافحة الظلم والفساد ينتهي إلى وضع ميثاق وطني يحدد معايير المحاسبة وتسير المال العام والتعيين في الوظائف العليا للدولة والرقابة على الوظائف العمومية يعتبر من المهمات العاجلة والآنية,وان هذا الميثاق يحمل صفة الإلزام والمرجعية الأخلاقية ولا بأس حتى الدينية التي على أجهزة الدولة ومؤسساتها احترامها,ويكون من البديهي أن تشترك جميع فعاليات الوطن في صياغة مبادئه ويكون بمثابة الدستور الاقتصادي والمالي والأخلاقي للسلطة التنفيذية,وبالتالي يتيح لكل مواطن فرصة الرقابة على المال العام بغض النظر عن موقعه في السلم الاجتماعي,ميثاق يحمل صفة الإجماع الوطني,ويدعم السلطة الاعتبارية للقضاء الذي عليه أن يجتهد في تفكيك الفساد المنظم والمافوي,ويتيح للسلطات الوطنية النزيهة مجالا أوسع للتدخل على مسار الإرادة الشعبية,ويحرر الإعلام من عقدة الخوف المزمنة والتحوط من ردود فعل الشبكات الفاسدة !!!!.
أما التمادي في ذلك واعتباره واقع حال فهو نذير بمزيد من التدهور النفسي والسلوكي للمواطن العراقي وبشكل اكبر مما يتوقعوه الكثيرون,فهو يؤدي إلى مزيدا من التدهور في الانتماء حيث ينقله من الضعف إلى عدمية مطبقة,عندها يكون نذيرا بمزيد من عمليات الإرهاب والقتل باختلاف منفذيه من مختلف الطوائف والأديان والقوميات والملل وعلى خلقية انتفاء العدالة ودفاعا عن النفس !!!!.