الرباط: محسن المحمدي للشرق الأوسط: صدر خلال هذه الأيام الأخيرة كتاب جديد للدكتور سعيد شبار بعنوان: «حوارات من أجل الذكرى والذاكرة» عن مركز دراسات
المعرفة والحضارة. وهو يجمع بين دفتيه حوارات أنجزها المؤلف مع بعض كبار الفكر العربي، منهم من قضى نحبه كعبد الوهاب المسيري ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون، ومنهم من هو على قيد الحياة، الدكتور طه عبد الرحمن.
وقد سبق نشر بعض هذه الحوارات في تسعينات القرن الماضي في بعض الصحف المغربية. والمحاور شبار هو أستاذ للفكر الإسلامي وتاريخ الأديان ورئيس مركز دراسات المعرفة والحضارة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة المولى سليمان ببني ملال المغربية.
الحوار مع المسيري
ينطلق المؤلف بداية من عرض خلاصة لمشروع المسيري، متحدثا عن بعض مجهوداته الفكرية، سواء تلك الموجهة لنقد «أخلاق الآلة» باعتبارها من مساوئ «النموذج الغربي الليبرالي العلماني» الذي أصبح بحسب المسيري لا يؤمن إلا بثالوث: الإنتاج والربح والاستهلاك.
وهو الأمر الذي يقود البشرية نحو التشييئ والمادية المفرطة التي تقتل عالم المعنى باعتباره بؤرة التميز البشري. ثم يذكرنا المؤلف ببعض كتب الرجل: «المادية وتفكيك الإنسان» و«العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة» و«إشكالية التحيز.. رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد»… إضافة إلى موسوعته الشهيرة عن «اليهود واليهودية والصهيونية».
ينتقل المؤلف بعد ذلك ليحكي لنا لقاءه بالمسيري ليقول إنه تم في أواخر الثمانينات ومطلع التسعينات من القرن العشرين، وبخاصة في المحاضرات التي كان يلقيها في الرباط، لتأتي الفرصة ذات يوم للتواصل المباشر على طاولة الغذاء، فحصل الاستئناس بسرعة بينهما، وبخاصة بعدما بدأ شبار في سرد عناوين كتب ومقالات المسيري، وبعض من أهم القضايا التي يطرح… فتوطدت العلاقة بين الرجلين في كل زيارة سواء في المغرب أو في مصر، وهنا يحكي لنا المؤلف تفصيلا طريفا حينما كان في مصر، حيث أهداه المسيري الطبعة الفاخرة من موسوعته عن «اليهود واليهودية والصهيونية» في ثمانية مجلدات، وكيف أنه رجع يحملها من مصر مزهزا وكأنه يحمل ريشة، وفاصلا إياها عن الأمتعة خشية الضياع. كما يشير المؤلف إلى أن المسيري كان يطلعه على بعض الرسائل التي تبعثها له بعض الجماعات اليهودية المتطرفة، مهددة إياه بالتصفية في حالة ما إذا نشر موسوعته…
يصف الدكتور شبار المسيري بخفة الروح، وبداهة العقل، والحس الناقد، والتعليق المباشر. والمهم من كل ذلك هو أن المؤلف قد ظفر بحوار معه سنة 1995 الذي يصفه بأنه لا تزال به عناصر الجدة والراهنية.
الحوار مع الجابري
وكما مع المسيري، يقدم المؤلف نبذة عن مشروع الجابري، ويذكرنا برباعيته النقدية: «تكوين العقل العربي» و«بنية العقل العربي» و«العقل السياسي العربي»و «العقل الأخلاقي العربي»، كما يتحدث لنا عن عدم اقتناع الجابري بالتغيير بمجرد فحص المنتج العربي فقط، بل الأمر عنده يستلزم فحص آلة الإنتاج بعينها، وكيف أن التراث بقدر ما ينبغي أن نتصل به للإبقاء على عناصره الحية، التي منها يكون الاستئناف، بقدر ما ينبغي أن ننفصل عنه بقراءته في سياقه وزمانه. أو لنقل بحسب شبار إنه ينبغي للبناء أن يكون من داخل البيت لا من خارجه، وإعادة تأثيثه «بالضروري من أثاثه أولا» أما استعارة الأثاث من الغير جاهزا فذلك مجرد «تحسيني مكمل».
وطبعا يقف المؤلف عند تفاصيل أخرى عميقة في مشروع الجابري التي تم تتويجه بقراءة في القرآن الكريم الذي يقول عنها إن بها اجتهادات جريئة، لكن غير كافية؛ فهي عموما تنحو منحى التفسير المأثور، وكان الأجدر بحسب شبار أن تكون قراءته أعمق باعتبار الجابري عقلا فلسفيا كبيرا.
بعد كل ذلك ينتقل شبار إلى سرد تفاصيل عن لقاءاته بالجابري التي بدأت حينما كان بالسلك الثالث بكلية الآداب بالرباط عام 1988، حيث كان يحضر بعضا من محاضراته، وإن لم يكن من شعبة الفلسفة، وكان يطرح عليه بعض القضايا للمناقشة. ويقول شبار إنه كان حريصا على أن يكون الجابري ضمن لجنة مناقشة أطروحته للدكتوراه لولا ظروف طارئة حالت دون ذلك، لكن على الأقل ظفر منه بحوار سنة 1996 على كثرة مشاغله.
الحوار مع أركون
يذكر الدكتور شبار أنه حينما كان يحضّر لدبلوم الدراسات العليا كان منكبا على التيارات التجديدية، سواء عند الجابري أو حسن حنفي… وهنا بالضبط تعرف إلى أركون ومواقفه الأكثر جرأة؛ فهو كان يطرح الأسئلة التي لربما من الصعب الإجابة عنها. وهنا يقارن بين الجابري وأركون في اهتمامهما بالعقل والفكر والتراث الإسلامي، بل حتى كتبهما كانت أحيانا تصدر متزامنة، وتعالج الإشكاليات نفسها. ومن كتب أركون نذكر: «تاريخية الفكر العربي الإسلامي» و«الفكر الإسلامي قراءة علمية»… التي ستتوج بآخر كتبه «قراءات في القرآن». ولا ينسى المؤلف أن يذكرنا بطغيان الآراء والمناهج والعلوم الغربية التي يتوسل بها أركون في مشروعه الذي يشيد به سواء أصاب أو أخطأ، فهو ساهم بشكل لا يمكن إنكاره في حركية الفكر العربي الإسلامي.
وقبل أن يغلق المؤلف الحديث عن مشروع أركون، وجّه شبار شكرا كبيرا للدكتور هاشم صالح على مجهوداته في تقريب أعماله للتداول العربي، فلولاه لربما لم يكن ممكنا الوصول إلا إلى النزر القليل منها، فضلا عن مقدماته وهوامشه التوضيحية.
أما عن لقاء المؤلف بأركون، فهو كان في محطات قليلة (برنامج تلفزي، ندوة، محاضرة) لكن الأهم هو الحوار الذي فاز به، والذي دام نحو خمس ساعات سنة 1997، ويقول عنه: «لعله من الصعب احتجاز مفكر من حجم د. أركون طيلة هذه المدة، لكن رغبته في التوضيح والبيان كانت مساعدة كذلك».
الحوار مع عبد الرحمن
يصف شبار طه عبد الرحمن بغزالي عصره، وأنه «هو من بقي لنا اليوم»، فهو النموذج الذي تجتمع فيه النماذج المتقدمة، فهو استجمع مزايا تفرقت في غيره، وهو متميز في أسلوبه وعدة اشتغاله الصارمة، يكتب ببناء هندسي شامخ ومعمار محكم الطبقات؛ نظرا لتخصصه في المنطق وفلسفة اللغة. أما عن لقائه بالدكتور طه عبد الرحمن فكان في الفصل الدراسي، حيث كان يدرّسه أصول الفقه، ناهيك على حرص شبار على حضور حصصه الأخرى في اللغة والمنطق والفلسفة، ومتابعة محاضراته وندواته.
يقول شبار إن سبب تأخر كتابه هذا راجع إلى عدم تمكنه من إجراء حوار مع طه عبد الرحمن، حيث لم تسمح الظروف، وبخاصة مع تعثر صحته مؤخرا؛ لهذا وفي لقاء يصفه بـ«الماتع» مع عبد الرحمن عقب تكريمه بجائزة الفكر والدراسات الإسلامية بمراكش طلب منه أن يسمح له بتركيب حوار يطرح أسئلته ويجيب عنها من خلال كتبه ومقالاته فوافق، وأجاز له التصرف والقول عنه.