مريم الساعدي –
عندما تنتهي من كتابة نص أو مقال جديد لا تفكر أن ترسله لأحد لالتماس رأيه فيه قبل النشر. حتى لو كان هذا الأحد أقرب صديق لك، فاهم ومهتم ومن «الوسط». حسناً، في الواقع لن يقرأ مسودتك أحد حقاً حتى لو كنت الصديق المقرب الأقرب له. أقصى ما يمكن أن يقولوه لك «جميلاً» أو «رائعاً» أو ربما يتوقف عند جملة ما ليصححها لغوياً أو يحذفها أو يضيف عليها، فيبين أنه قرأ بتمعن فقط. ويخلّص ضميره. كل شخص مشغول بمشروعه الشخصي، وهذا حقه، ونصك هو مشروعك الشخصي، فأعطه أنت حقه. هذا من ناحيته هو «القارئ»، أما من ناحيتك أنت «الكاتب» فأنت ستتأثر برأيه. حتى لو ظننت أنك أكثر الكتّاب عدم اهتمام بالنقد أو الإهمال أو المديح. ستتأثر. لن يعجبك الرد المقتضب، ولن يعجبك التأخر في الرد، ولن يعجبك عدم وضوح الرد. وربما يريحك المديح فتجلس على النص من دون أن تمنحه إمكانية التنفس بشكل أفضل. وحتماً لن يعجبك النقد. نعم، نحن متحيزون جداً لكتاباتنا. لا تصدق من يقول لك عكس ذلك، حتى وإن صدق نفسه. تأثرك هذا لن يكون ردة فعل مباشرة وواضحة. إنما فقط يمكن أن تشعر بهبوط فجائي في المعنويات من دون أن تدرك السبب. كنت بخير منذ قليل؛ كنت تكتب!
في البداية لن تُرجع سبب الهبوط هذا للنقد أو الإهمال الذي تلقيته، فأنت تعرف عن نفسك أنك ذو صدر رحب منفتح متقبل لاختلاف الآراء، ومتفهم لظروف الآخرين. ستظنه فقط أثر الجو الحار أو التكييف البارد أو لأنك لم تنم جيداً ليلة البارحة أو بسبب كابوس رأيته، وستحاول تذكر ماذا حلمت. وستفكر أن ترتاح قليلاً، ربما تأكل شيئاً ما، وربما تفكر في الخروج للترفيه عن نفسك، للسينما مثلاً، بغض النظر عن المعروض. وستأكل، ربما وجبة دسمة ليست في وقتها، ثم ستشرب قهوة، أو أياً كان مشروبك المفضل، وستحادث أحد ما، تضيع وقت لا تعرف ماذا يزعجك فيه. وستجلس طويلاً تحاول الاسترخاء، ربما أمام جهاز تلفاز، تتابع أخبار تصيبك بالغثيان، وسترجع هبوطك لاحقاً للأخبار، حتى يمضي الوقت وتذهب للنوم، ولن تعود في ذلك اليوم لمراجعة نصك الذي أنهيت كتابته صباحاً وأرسلته لصديق التماسا لرأيه فيه. وربما لن تعود للكتابة لأيام عديدة تالية بعد ذلك. وهذا ما يحصل غالباً حين تلتمس الرأي.
نصك ابنك. حين تكتبه لا تدع أحد يخبرك عن رأيه فيه لتعترف به. أنت تعرفه أكثر. لن يعرفه أحد كما تعرفه. ولو عرفه، فلن يحبه أحد كما تحبه. أنت تحب نصك، لأنك كتبته بإقبال على الحياة. كتبته وأنت تشعر بأن لديك شيئاً تقوله، وأنت تشعر بأنك «فرد» ذو رأي ورؤية. وهذا الشعور بحد ذاته انتصار لنهوض الإنسان من انهياراته. اقرأه وحدك. في هدأة معتزلك. في غمرة السكون من كل شيء إلا صوت الكلمات الحرة. اقرأه مرة، وثلاث، وعشراً، وخمس عشرة. اقرأه بعين فاحصة، ناقدة، ليست عينك، إنما عين مُربٍّ. افصله عنك، دعه يروح بعيداً عنك، ثم عد إليه لتراه بعين جديدة، مثل ابنك، تبعده عنك ليستقل بذاته وتربيه. ربّي نصك، احذف منه الثرثرة، وأضف ما يجب أن يضاف، وأعد صياغة جمل قرأتها لاحقاً ولم تفهمها وأنت كاتبها فما بالك بقارئ لا يعرفك. وحين تجد أنه لم يعد يحتمل منك توجيه أكثر، أتركه يمضي لفضاء النشر، فيكون شخصية مستقلة عنك، ولن يمسك بعد ذلك غرور بمديح أو إحباط بنقد.