ثامر الدليمي –
علينا ان نعترف كعراقيين ان مشكلتنا الكبرى تكمن فينا وفي فهمنا لتاريخنا الطائفي الذي كان اجدادنا ضحيته علي الدوام وانتقل الينا عبر ثقافتنا الموروثة، وان لا نعلق جل ما يحدث علي شماعة الاخرين لأننا نساهم جميعا وبلا استثناء بما يحصل رغما عن ارادتنا، سواء كنا شيوعيين او ماركسيين او قوميين وطنيين او لبراليين ديمقراطيين او مستبدين دينيين او لا دينيين يساريين او يمينيين لان ازدواجية الشخصية المركبة التي نتقمصها دون ان نعي هي الدافع، كما ان القدر الزائد من الحرية ساهم بصنع هذه الفوضى التي تلف بلادنا بغالبيتها…ان ثقافتنا هي كل المركب الحاضن لمعرفتنا وعقائدنا وفنوننا واخلاقنا وقانوننا اكتسبناها كأفراد من مجتمعنا الكبير.. وحتي امثالنا الشعبية كثفت الحكمة الشعبية ونقلتها لنا كتعبير عن ظاهرة معينة حدثت ضمن ظرف عام مر به السابقون..
وللأسف الشديد ان عراقنا كان على الدوام وما زال المجال الحيوي لكل اختلاف وصراع ديني او اقتصادي او جغرافي ولم يكن لأهله دور سوى دور الضحية والمتلقي السلبي في معظم الصراعات التي حصلت بين الحضارات علي ارضنا العراقية، فمنذ بداية الصراع بين علي ومعاوية والحسين الشهيد ويزيد والامويين والعباسيين والبويهيين والعثمانيين والسلاجقة والصفويين والاسماعيليين وائمة المذاهب الاربعة والوهابيين والاتراك والانكليز، كل هذا الكم من التاريخ الدموي ومخلفاته ترسب ضمن ثقافتنا، وظل يتنقل وينقل لنا ارثا طائفيا عبر الزمن وهو ارث غير مقبول مطلقا، خصوصا بعد ان ولجنا عصر العولمة والاتصالات التي قلصت المسافات بين الشعوب وخلخلت نظم الحكم المستبدة وقلصت سيادات الدول والتي هي في طريقها للاضمحلال والافول…ان محاولات وأد الطائفية تجابه من قبل الكثير من المعنيين بالموضوع بالرفض او التأجيل او الخوف من اللاحق مما بعد المصالحة، وبناء عراق ديمقراطي ينعم فيه الانسان بالمساواة والعدالة.. ان الشرخ الحقيقي هو شرخ فقهي بأساسه كان من اللازم حصره ضمن المدرسة الدينية لأنه جدال فلسفي بجوهره لا يغني او يسمن في وقتنا الحاضر ابدا.. ان الخلاف السياسي الصفوي العثماني كان الدافع لاستفحال هذا الخلاف الاستراتيجي وتحول العراق بفعله الى ينبوع من الدم ما زال ينضح ولم يجف.. يقول علماء الانثروبولوجيا ان لكل حضارة او ثقافة اثارها الخاصة على سلوك افراد المجتمع، مما يصبغهم بطابع خاص يختلف من مجتمع لآخر، وهذا ما انعكس على ثقافة مجتمعنا طائفيا، والتي اصبحت تراثنا العام الذي انحدر الينا من اجيال سابقة، بشكل سلوك ومشاعر بين الافراد والجماعات، وعلاقتهم ببعضهم واننا كمجتمع بشري صارت لنا ثقافتنا تميزت عن غيرنا من المجتمعات المجاورة، وساهم بصنع هذه الثقافة عدد من الشخصيات والاحداث، وفي كثير من الاحيان لعبت العوامل السياسية والدينية والاقتصادية والجغرافية الدور الاكبر في عملية الخلق الثقافي هذه، وكان للعثمانيين والصفويين النصيب الاكبر بتشريعهم ثقافة القتل على الهوية الطائفية التي استفحلت بشكل متعاظم وخلقت كما كبيرا من المآسي.
وبكل صراحة ودون خوف وخجل ساهمت الاحزاب الدينية الان بالنصيب الاكبر لأنها تعمل ضمن ايديولوجيتها على اساس مذهبي شيعي وسني، كما انها تفردت تقريبا من خلال استيلائها علي السلطة عبر انتخابات قيل عنها الكثير، وان قادة ومنظري هذه الاحزاب يدركون جيدا بان الخلاف الفقهي المذهبي الذي يعتنقونه لم ترتب تصدعاته ولم تلتئم شروخه المخبأة تحت رماد السنين، بفعل ملايين الضحايا الذين قتلهم الصفويون والعثمانيون الذين كان لهم الاثر الكبير علي الثقافة الدينية والمذهبية في العراق وايران. ان الامام جعفر الصادق (702 ـ (765) والذي كان يرأس المدرسة الدينية في المدينة كان في حقيقة الامر زاهدا في الدنيا ولم يطلب لنفسه شيئا. وان استنباطه فقها لمذهب منفصل سمي باسمه كان الزلزال الذي زعزع الدين الاسلامي، ووسع الخلاف السياسي بين المسلمين وتجلي ذلك عند ضعف الدولة العباسية، حيث ظهرت في عهودها المتأخرة انشقاقات وانقسامات ضمن المذهب الجعفري، وادى ذلك الي ظهور فرقة الاسماعيلية التي تفضل الامام السادس اسماعيل بن جعفر علي اخيه موسى وهو المقبول من الاكثرية، والاسماعيلية كطائفة يعترفون فقط بسبعة ائمة وعرفهم التاريخ باسم (الحشاشين) كما ان التأثير الذي حدث على الدين الاسلامي اثناء سيطرة البويهيين علي مقاليد الحكم.. وجاء الشاه اسماعيل الصفوي الذي تولي عرش ايران ((1502 واجبر غالبية الايرانيين بحد السيف علي التحول للمذهب الشيعي بعد ان كانوا من اهل السنة والجماعة واصبح المذهب الشيعي هو المذهب الرسمي لإيران وفرض علي المصلين ادخال لعنات الخلفاء الثلاثة الاولين ابو بكر وعمر وعثمان ضمن الصلوات الخمس وخلال الاذان للصلاة الذي اضاف اليه عبارة حي علي خير العمل، كان الشاه اسماعيل شديد البطش والقسوة حيث قام بقتل كل معارض لمذهبه الجديد ويقول ريتشارد كوك في كتابه بغداد مدينة السلام ان الشاه اسماعيل عندما قام باحتلال بغداد في العام ((1508 كان اول فعل قام به، هو نبش قبر الامام ابي حنيفة صاحب المذهب الحنفي ومن ثم قام بقتل كل اهل السنة في بغداد، ومن الطبيعي ان قام نفر منهم باللجوء الي العشائر المحيطة ببغداد، ولم يسلم من عملية القتل سوى سكان بلدة الكاظمية الصغيرة علي اعتبار انها بلدة شيعية.
وبعد اربع سنوات من هذه الواقعة الاليمة التي حلت باهل بغداد صعد نجم السلطان العثماني (سليم ياوز) الذي قال عنه لونكرك في كتابه اربعة قرون من تاريخ العراق انه كان اشرس سلطان عثماني، وكان هذا متطرفا بسنيته حيث استطاع الحصول علي فتوى من علماء الدين السنة تجيز له قتل الشيعة وبرد فعل متأخر قام بأرسال شرطته السرية لإحصاء السكان الشيعة ضمن سلطنته وبعد ان حدد مواقعهم واماكن تواجدهم امر بقتلهم جميعا في ساعة واحدة بخطة رهيبة كانت نتيجتها اكبر مذبحة باغتيال جماعي منظم في العالم حتى ذلك التاريخ تقوم بها الشرطة السرية معلنة تأسيس الدولة البوليسية!
وفي العام 1514 وقعت معركة جالدران الشهيرة قرب تبريز انتصر فيها العثمانيون علي الصفويين وبعد القتال جلس السلطان سليم في وسط ساحة المعركة وهو يتأمل جنده وهم يشيدون له هرما من الجماجم البشرية اثناء تأديته صلاة الشكر لله. وبعد سنوات عديدة في العام 1534 تمكن السلطان العثماني سليمان القانوني من فتح بغداد حيث جاءها قادما من الشرق بعد اندحار الجيوش الصفوية وهزيمتها امام مدافعه العملاقة واستسلمت له حامية بغداد دون مقاومة تذكر بعد انسحاب الكثيرين من افرادها، وبعد استقراره قام بزيارة المراقد المقدسة في الكاظمية وكربلاء والنجف ومن ثم مرقد الامام ابي حنيفة في منطقة الاعظمية وامر ببنائه من جديد وشيد خانا ودارا للضيافة ومجموعة من الدكاكين وبذلك تأسست مدينة الاعظمية من جديد في ذلك العام.
ان مشكلتنا الطائفية ظلت تتفاقم وتتعاظم يوما بعد يوم علما ان الخلاف الذي يقوم على اساس الخصومة بين من يدعي التمسك بأصحاب النبي وبين من يدعي التمسك باهل بيته ..وهذا الخلاف او الصراع انتقل الينا بشكله الحالي وصار جزءا مهما وحيويا من تراثنا الثقافي، نحن نعلم الان ان الدولة العثمانية والدولة الصفوية كانتا بعيدتان كل البعد عن القيم الانسانية والاسلامية الحقيقية التي كان يدعو لها اصحاب النبي (ص) وآل بيته….
ان الخلاف الطائفي ظل يتعاظم بفضل هؤلاء المحتلين ففي عهد الشاه عباس الصفوي الذي احتل بغداد في العام 1623 بعد حصار دام ثلاثة اشهر اضطر فيها اهل بغداد الي اكل الجيف والكلاب والحمير لا بل يذكر عباس العزاوي في كتابه العراق بين احتلالين ان البعض من الفقراء اضطروا الي اكل الاطفال. والكارثة ان الشاه عباس كان اشد من سلفه اسماعيل لأنه اباح قتل كل سكان بغداد المحاصرين ولم يسلم منهم احد من اهل السنة الا من تمكن من تسلق الاسوار اثناء الحصار وهرب، وقام هذا السفاك بنبش قبري الامام ابي حنيفة والشيخ عبد القادر الكيلاني وغير معالم المكان. وبعدها تقدم نحو بغداد المنكوبة السلطان العثماني مراد الاول وتمكن من فتحها واحتلالها من جديد وأمعن جنوده بقتل حاميتها من الايرانيين وسكانها قاطبة دون تفريق وقام على اثر ذلك بزيارة قبر ابي حنيفة وادي صلاة الشكر بكل تضرع وخشوع وكانه لم يبطش ببشر! ان هذا الجانب من الثقافة الطائفية السياسية الهمجية ترسخ في تراثنا وانحدر الينا عبر الاجيال وشوه ذهنية الانسان البسيط وكذلك ذهنية رجال الدين الذين كانوا السبب بترسيخه ونقله للبسطاء من الناس لا بل ان هؤلاء كانوا يعظمون الامور ويهولونها وان هؤلاء هم المروجون الحقيقيون للطائفية ونسوا ان اسلافهم المساكين كانوا ضحايا لها ولم يكن لهم يد بتشريعها.
ان مروجي الطائفية اليوم انحرفوا كثيرا عما جاءت به التعاليم الفقهية المستنبطة من الدين وسيروها وفق مصالحهم الذاتية ومصالح حكامهم وسلاطينهم ووظفوا الدين بغير مجاله الروحي مستغلين انعدام الوعي الثقافي والفقر بين افراد الشعب، والان تتكرر التجربة في العراق وبشكل اكبر واعنف واقسى بفعل حداثة الاسلحة وتطور الاساليب. ان تأسيس احزاب دينية علي اساس المذهب يعيد الي الذهن مباشرة الصراع الصفوي ـ العثماني ويقود للصراع الطائفي بشكل حتمي وكأن مؤسسيها، لم يقروأ تاريخ الطائفية السياسية، وخلافها العميق واشك ان حكومة الوفاق المستحيل ستتمكن من النجاح رغم الدعم العسكري الهائل والدعم الدولي الكبير الذي لم تحصل عليه اي دوله في العالم بما فيها المانيا بعد الحرب العالمية. من وجهة النظر ان هذا مستحيل، لان هناك من يعمل على اسقاط الحكومة ومن ضمن الحكومة ومجلس نوابها اكثر مما يفعله الارهابيون، لان الايديولوجيات المذهبية تتضارب بشدة تصل الي العداء السافر والمعلن احيانا وتخرب اية خطوة تخطوها نحو النجاح، والامن واعادة الاعمار، ناهيك عن محركي فرق الموت.
المطلوب من الاحزاب المذهبية ان تعيد بناء نفسها وبعناوين جديدة ووفق اسس وطنية وببرامج تعيد التنمية لبنيتنا التحتية المهدمة وتعيد بناء الانسان العراقي والمجتمع العراقي وفق اطر مناسبة وتجدد المصالحة مع الذات العراقية المخربة.. ومن الضروري ومن اجل النجاح ان تضم هذه الاحزاب الشيعي والسني والكردي والعربي والمسيحي وباقي القوميات والطوائف الاخرى وان تستمد ثقافتها من واقعنا العراقي بحلوه ومره وان تضع في الحسبان الظروف الرهيبة التي مر بها شعبنا ووطننا طوال سنوات الحكم المستبد ولحد الان.
اننا لو تجردنا من انتمائنا الطائفي ونظرنا من زاوية المراقب.. وسألنا.. هل تسمح تركيا والدول العربية وفي مقدمتها مصر والسعودية لحزب شيعي ان يتنفذ في العراق سيكون الجواب حتما لا، لان الدول ستنعته بانه عميل لإيران اولا وامريكا واسرائيل ثانية. ونسأل هل ستسمح ايران بما لديها من نفوذ نووي ومركز اقتصادي للسنة ان يقودوا العملية السياسية في العراق من جديد فسيكون الجواب حتما لا. ومن الطبيعي ان ثقافة كل من مجتمعي تركيا وايران المذهبية هي مشابهة لثقافة مجتمعنا كون ان اسلافهم العظام كانوا هم من شرع للطائفية السياسية لانهم فهموا الاسلام وفق مصالحهم السياسية لا الروحية كما انهم فهموا الاسلام متجردا من انسانيته التي قام وتأسس من اجلها وخلالها.. ومن اجل العراق فقط يجب ان نتجرد بحكمنا وان لا نرمي ببيضنا بسلال الغير وحري بنا ان نتأمل المثل الشعبي الاصيل الذي تناقل الينا عبر الاجيال المنكوبة من الاجداد والذي يقول ببساطة ووضوح المعني (بين العجم والروم بلوة ابتلينا).
الامين العام للرابطة الوطنية لزعماء وشيوخ العشائر العراقية