03-04-2013 –
لندن / عدنان حسين أحمد
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الروائية الفلسطينية سلوى جرّاح التي اختارت أن تكون عراقية بإرادتها لأنها عاشت فيه ردحاً من الزمن، وأحبّته، وهي لا تمتلك وطناً سواه، كما تؤكد في كل مناسبة على الرغم من حصولها على الجنسية البريطانية التي تتيح لها أن تزور وطنها الأول فلسطين كلما شدّها الشوق أو دفعها الحنين إلى عبق النبع الأول، ورائحة الأهل والأحبّة والأصدقاء. توقفت جرّاح عند روايتها الأخيرة “بلا شطآن” الصادرة أوائل عام 2012
التي تتمحور على ست شخصيات أساسية وهي “جُمانة”، المرأة الفلسطينية التي تتزوج من العراقي رضا الكاتب، وبلقيس التي ترتبط بعبد القادر الحلاوي، وخلود التي تقترن بعادل النعماني، ولكن حين تموت هذه الأخيرة بعبوة لاصقة في العراق تحفّز بقية الشخصيات على العودة إلى العراق لمواراتها الثرى فيكتشفون أن نهر “دجلة” كان يجري “بلا شطآن” في إشارة واضحة إلى أن كل شيئ قد تغيّر في هذا البلد الذي تمحضه شخصياته الست الرئيسة، وبقية الشخصيات المؤازرة حُباً من نوع خاص. ومن هذه النقطة بالذات تطرح الروائية سؤالاً استفهامياً واضحاً مفاده: أين هو الوطن؟ هل هو المكان الذي كُنّا نعيش فيه، أم هو الصورة المُتخيلة التي نحملها في أذهاننا عن المكان الذي ولِدنا فيه، وترعرعنا بين جوانحه، لكننا غادرناه قسراً أو اختيارا؟ حاولت جرّاح أن تسلّط الضوء على شخصياتها الرئيسة كي تحيط المتلقين الذين حضروا أمسيتها علماً بثيمة النص الروائي، وبشخصياته الست الرئيسة من جهة، وببعض الرموز التي تتعلق بعنوان الرواية من جهة أخرى. ولكي لا نخوض في التفاصيل الدقيقة للنص الروائي نقول إن “جمانة” قد واجهت موت زوجها رضا الكاتب في منفاه البريطاني، بينما واجهت بلقيس موت ولدها “علي” في العراق قبل أن تغادره أو “تهجّ” منه على حد وصفها، فيما يواجه عادل النعماني الموت المفجع لزوجته “خلود” التي عادت إلى العراق لتواجه مصيرها المحتوم بشظية عبوة لاصقة. لا شك في أن جرّاح تتعاطف مع شخصياتها جميعاً، لكن هذا التعاطف يتجسّد بقوة مع “جمانة” التي تحمل العديد من مواصفات الكاتبة نفسها وخصائصها الفردية فكلتاهما تتزوج من عراقي، وتصبح عراقية باختيارها الشخصي. تجدر الإشارة إلى أن جرّاح معجبة جداً بشخصية عادل النعماني الذي ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، فهو محامٍ معروف، وسليل أسرة إقطاعية عريقة، لكنه سوف يقارع مفاهيمها الاستعبادية مناصراً الطبقة الفقيرة في المجتمع العراقي، وربما يكون زواجه من “خلود” التي تنتمي إلى هذه الطبقة هو خير أنموذج لما نذهب إليه حيث ترك الأهل متخلياً عن الحسب والنسب، وغادر العراق إلى لندن بغية إنعاش هذا الحُب الصادق في حاضنة صحيّة مناسبة. لابد من الانتباه إلى ثنائية الغربة والحنين إلى الوطن، لكن المفارقة هنا أن “جمانة” على وجه التحديد كانت تلوم أبويها اللذين هاجرا من فلسطين وبدءا يبكيان عليها، لكنهما جعلاها تمر بنفس التجربة حيث تهاجر من العراق ثم تبكيه، فهي لم تكن تبكي على فلسطين، وإنما كانت تبكي على العراق بوصفه وطناً أصيلاً لها، وليس بديلاً عن الوطن الأول، وحينما تعود فإنها لا تجد الأشياء التي تبحث عنها. وفيما يتعلق ببلقيس فإنها كانت تبكي على خسارتها الشخصية الموجعة لـ “علي” تارة، وللعراق تارة أخرى. أما “خلود” فقد كانت علاقتها بالوطن إشكالية لأنها لم تشبع من بغداد حينما عادت إليها، وأنها فارقتها قبل الأوان حين عاجلها الموت وخطفها من أحضان الأهل لتخلد في تراب العراق الذي أحبته وأخلصت لرائحته المتفردة التي لم تجدها في أي مكان آخر من العالم. إذاً، يأخذ الحنين إلى الوطن في رواية “بلا شطآن” أشكالاً مختلفة، ولعل من المفيد هنا أن نذكِّر القارئ الكريم بأن جرّاح قد أنهت هذه الرواية بشكلٍ مكثف نختصره بالجُمل الآتية: “هنّ ثلاث نساء عراقيات، واحدة فقدت الوطن، والثانية لم تعد راغبة فيه، والثالثة لم تعد تعرف إن كان موجوداً أو غير موجود”. تطرقت جرّاح إلى روايتها السابقة “أرقٌ على أرق” لتشير إلى موضوع الوطن أيضاً، وغربة المواطن الفلسطيني، لكنها حاولت التفريق بين غربة العراقي وغربة الفلسطيني، فالعراق ما يزال موجوداً ويستطيع المغتربون العراقيون أن يعودوا إليه متى شاؤوا، أما فلسطين فهي مغتصبة ولم تستطع أن تزورها إلاّ بجواز سفر بريطاني! و”آية” التي أُنتهكت من قبل عبد المنعم صبري وصبيح الشريف هي رمز لفلسطين ومعادل موضوع لها على الرغم من أنها لاذت في خاتمة المطاف بالدكتور حسين الخياط لأنها وجدت عنده الحماية والأمان. ذكرت جرّاح بأن شخصيات الروايتين السابقتين تتخذان من لندن مكاناً للغربة، وربما هي مكان للاغتراب الروحي والذهني في آنٍ معاً، وهي تغازل وطنها، وتغضب عليه، وتعاتبه، وتشتاق إليه بهذه التقنية الإبداعية الخارقة. لفتت جرّاح انتباه الحاضرين إلى أنّ كل واحد منا يرى الوطن بطريقته الخاصة، وهناك من لا يترك وطنه على الرغم من السجون والمذابح والحروب، فيما يترك البعض الآخر أوطانهم بحثا عن بلدان حُلُمية بديلة. اعترفت جرّاح بأنها مثل “جمانة” ليست عراقية أباً عن جد، لكنها اختارت أن تكون عراقية بإرادتها، وتزوجت من رجل عراقي، وأنجبت أطفالاً عراقيين يتحدثون باللهجة العراقية، لكن هذا الوطن قد صار “بلا شطآن”. ختمت جرّاح محاضرتها بالقول: “هل المطلوب أن يكون الوطن جحيماً نقبل أن نعيش فيه من دون أن نتذمر، وهل أن بريطانيا أو أي منفىً آخر هو الجنة أو الوطن البديل الذي تجري فيه أنهار من اللبن والعسل!
غِبَّ الانتهاء من الأمسية دار حوار طويل ومعمق بين الروائية سلوى جراح والحضور وفيما يأتي نصه الكامل:
غانم جواد: لقد اخترتِ العراق وطناً، وتركتيهِ لأسباب معينة، يا تُرى، هل أن العراقَ ترككِ؟
-كلا، لا يمكن أن يتركني العراق. سألني صديق: “لماذا اخترتِ أن تكون إحدى بطلات رواية “بلا شطآن” فلسطينية؟” فقلت له ببساطة: “أردت أن أُظهر كم أنّ العراق وطن حقيقي يمكن أن تعيش فيه وتحبه. أنا نشأت في العراق، وتعلّمت فيه، وأحببتهُ. وحينما كان يُقال لي عندما كنتُ صغيرة أرسمي شجرة، أرسم نخلة لأنني أحبُّ البصرة ونخيلها. كيف يتركني العراق وأنا متزوجة من عراقي، وأولادي يتكلمون باللهجة العراقية في البيت، وأقربائي الذين يزورونني يبذلون جهداً لكي تبدو لهجتهم قريبة من النبرة العراقية؟”.
أحمد الكاتب: هناك شخصيات مناضلة ضحّت من أجل وطنها وغادرت إلى المنافي العالمية، وهناك شخصيات أخرى ضحّت بالوطن وعادت لتتاجر به، بل وتحارب كلَّ مَنْ يعمل بجد من أجل رُقي الوطن وتطوِّره لأنها عادت من أجل أن تتبوأ المناصب، وتكسب الأموال. أتمنى أن تسلِّطي الضوء في رواياتك القادمة على هذا النمط من الشحصيات المُرائية؟
-كنتُ في رواية “أرقٌ على أرق” سليطة اللسان جداً على السلطة الفلسطينية وبعض الفلسطينيين الذين انحرفوا عن المسارات الصحيحة. وفي هذه الرواية تحديداً كان عندي بعض الشخصيات السلبية مثل عبد المنعم صبري وصبيح الشريف، فعبد المنعم رجل بدأ حياته في مخيّم للاجئين الفلسطينيين، وهذا أمر لا يُعاب عليه، فهناك بالمقابل شخصية حسين الخيّاط الذي نشأ هو الآخر في مخيّم برج البراجنة، لكنه أصبح طبيباً في إحدى مستشفيات لندن واسمه مكتوب على مدخل المستشفى مثل كثير من الأطباء العراقيين، ولكن عبد المنعم الذي ذهب إلى قبرص وعاد منها ثرياً، وبدأ يستغل هذه الثروة مُتلاعباً بـ “آية”، ومُغرياً إياها إلى دروب الخطيئة والرذيلة. حين كتبتُ “بلا شطآن”، وهي رواية عن العراق كانت تنتابني رغبة شديدة لأن أكتب عن الشخصية العراقية التي تستغل وطنها، وتعمل ضده، لكنني لم أستطع أن أفعل ذلك، لكنني في روايتي القادمة سأكتب عن هذه الشخصيات السلبية التي تتاجر بالوطن.
هادي حدّاد: ألا تعتقدين أن الإنسان إذا عاش ثلاثين سنة خارج وطنه يصبح غريباً عنه؟ وهل أن هجرة عادل النعماني في رواية “بلا شطآن” قد سلخته من وطنه أم لا؟
-عادل النعماني هو شخصية عراقية إشكالية وهو يشبه الإسفنجة التي تتشبّع بأشياء كثيرة كالحضارة والثقافة والعلم، وكان يحب زيارة الغرب وينهل من ثقافته وفنونه وحضاراته. يا تُرى، هل انسلخ من وطنه أم لا؟ أنا أعتقد نحن لا ننسلخ من أوطاننا حينما نهاجر. أنا كامرأة أفكر بهذه الطريقة، ولا أدري إذا كان الرجل يفكر بهذه الطريقة أم لا! فإذا أحبت المرأة رجلاً ثم قرر هذا الرجل أن لا يبادلها الحب فبالتأكيد أنها سوف تتعذب داخلياً وتحزن مع نفسها، لكنها بعد ذلك تقول، وأنا هكذا أفكر، بأنني لا أريد الإنسان الذي لا يريدني. فعادل النعماني تزوج من خلود لأنه أحبها وأحبته على الرغم من أنها تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، لكنه قرر أن يتزوجها، وينهي علاقته بأهله، وأن يغادر العراق بغية بدء حياة جديدة توحي إلى حدٍ ما أنه قد انسلخ من من بلده.
سمير طبلة: هل أن جانباً من روايتكِ فيه إدانه لاستلاب الإنسان الذي نتلمّسه من خلال القتل أو التفجير أو نعي الابن الذي مات في الحرب؟
-هي ليست إدانة، وإنما كنتُ أقصد أن أهل العراق قد تعبوا، وخاضوا حروباً عديدة، وحزنوا كثيراً. فبلقيس، مثلاً، كانت تحب الألوان حتى أن أنها طلبت سجادة بنفسجية اللون، وهي نفسها ترتدي ملابس ملونة وأقراط وأساور براقة، لكنها أصحبت ثكلى بعد أن مات ابنها الذي ذهب إلى الحرب. بلقيس، بالنسبة لي، تمثل آلافاً مؤلفة من النساء العراقيات، فهي تمثل الحزن الكثيف الموجود في العراق، حزن النساء العراقيات على أزواجهن وأبنائهن واخوانهنّ الذين دفنوا في المقابر الجماعية. إذاً، أنا لا أريد أن أُدين هنا، وإنما أريد أن أقول إن العراق بقدر ما فيه من جمال فيه حزن أيضاً، ولكن العراقيين مثل رضا الكاتب يرون هذا الحزن، ولكنهم يحبون العراق، ولا يستطيعوا أن يعيشوا من دونه، إنها صرخة حُب لهذا البلد.
كريم السبع: أعتقد أن تسمية “بلا شطآن” جميلة جداً، وأنها فهمت العنوان فيزياوياً حيث لا يستطيع أي نهر أن يجري بلا شطآن، ولكن تسميتكِ تعني أن النهر ضائع وهذا الضياع يوحي بضياع العراق الذي لا نعرف إلى أين يتجه! سؤالي يتمحور على ازدواجية الاغتراب الذي يعيشه أبناؤنا وبناتنا الذين ولدوا في الخارج وهم يفكرون بالإنكليزية ويتكلمون بها، بينما أنا لا أزال أفكِّر بالعربي وأتكلم باللغة الإنكليزية، وحينما أتكلم باللغة العربية مع أبنائي أشعر بالحاجز بيني وبينهم لأنّ مفاهيمهم تفتحت على الثقافة البريطانية وآفاقها الواسعة. هل تتفقين مع هذا الطرح، وكيف نكتب عن اغتراب الأبناء؟
-أنا أعتقد أن الجيل الثاني هو الذي يجب أن يكتب عن هذه الغربة المضاعفة التي ورثوا جزءاً منها عن أهلهم وذويهم. أنا نفسي حينما أريد أن أكتب عن العراق لا أستطيع أن أتذكر بعض الشوارع والأزقة في بغداد التي عشت فيها ووطئت دروبها وكأن الصورة أصبحت مضببة وضاعت تفاصيلها التي كانت راسخة في ذهني.
مجبل المرسومي: تعرَّض مفهوم الوطن والمواطنة إلى صدمة أدت إلى تفككه بعد أن تغلبت المشاعر الفئوية على المشاعر الوطنية. أتمنى لو تتحفين القارئ برواية تتناول موضوع الوطن والمواطنة؟
-أعترف بأنني لم أشعر بنفسي كمواطنة حينما كنت في العراق، صحيح أن العراق كان بلدي، والشارع هو شارعي، والسيارة سيارتي، لكنني، مع الأسف الشديد، شعرت بأنني مواطنة حينما جئت إلى بريطانيا وعرفت ماذا يعني أن تكون مواطناً له حقوقه وواجباته.
أحلام عرب: اقترنت بلقيس بالحزن الأبدي، هل سيظل الحزن مقروناً بالعراق؟
-يجب أن أعترف أن الأستاذ عدنان حسين أضفى على شخصياتي بُعداً أنا لم أقصده فيما يتعلق بالأسماء، ومع ذلك فكنت أعرف منذ البداية أن بلقيس سوف تمثل الحزن الأبدي، وهي نفسها قالت بأن هذا الحزن سوف يُدفن معي، وقالت لعبد القادر بأنني سأظل حزينة حتى في قبري. وهذا الحزن لا يمنع من أنها قد عاشت حياة جميلة فيها الكثير من الفرح مثلما كان العراق مليئاً بالفرح أيضاً.
مصباح كمال: أنا ممكن أن أقرأ العنوان بشكل رمزي فالعراق هو وطن الأحزان، والشطآن هي الوحيدة التي تحدّ أو تحتوي هذه الأحزان وهذا هو المقصود بالعنوان كما أتصور؟
-قال عادل النعماني في النص الروائي بأنه لا يريد الذهاب إلى بغداد لأن دجلة يجري بلا شطآن، فالشاطئ يمثل بالنسبة لي الوضوح والراحة والأمان كما يوحي لي أين يجب أن أضع قدّمي بثقة ومن دون تردد.