صادق الطائي –
افتتحت مؤسسة الحوار الانساني بلندن موسمها الثقافي الجديد يوم الاربعاء 3 شباط 2016 ،بأمسية ثقافية ضيفت فيها الدكتور عبدالله الموسوي ،الذي تحدث فيها عما حصل في الواقع التعليمي العراقي بعد ان كان العراق يتمايز عن دول الجوار في المستوى التعليمي المتقدم ، وعرج الضيف في حديثه على دور تغير الانظمة الحاكمة في انهيار الواقع التربوي نتيجة تغيير المناهج وانحسار التعليم الالزامي ومحو الامية وتعليم الكبار الذي شهدته حقبة السبعينات من القرن المنصرم.
والدكتور عبدالله الموسوي حاصل على شهادة الدكتوراه من جامعة ويلز(بريطانيا)1990،عمل رئيسا لقسم العلوم التربوية والنفسية /كلية التربية جامعة بغداد،كما شغل منصب رئيس الجمعية العراقية للعلوم التربوية والنفسية، وقد اشرف خلال رحلته الاكاديمية في عدد من الجامعات العراقية على العديد من رسائل الماجستير الدكتوراه، ونشر اكثر من (50 ) بحثا في دوريات محكمة ، وقد منح جائزة المعهد الدولي للبحوث التربوية / واشنطن عام 2009.
وقد ابتدأ الدكتور الموسوي محاضرته ،بالتطرق الى ان محاضراته عادة ما تكون مبنية على ابحاث تجريبية ،وان الموضوعات التي يتناولها في المحاضرات التي يقدمها هي عبارة عن خلاصات ابحاث ينتهج فيها المنهج التجريبي الذي يعتبره منهجا مهما وناجحا في العلوم الاجتماعية بشكل عام وفي العلوم التربوية بشكل خاص.ثم اشار الدكتور الموسوي الى ما جاء في عنوان محاضرته وهو مفهوم (التدني) ،وقال ان هذا المفهوم يعني بضمن ما يعني اننا كنا في مستو عال وانحدرنا الى ما هو اقل منه ،فكيف حصل ذلك؟وما هي الاسباب التي ادت الى هذا التدني ؟ وما هي طرق معالجة ذلك؟ اي اننا سنقدم استعراضا تاريخيا لما كان عليه حال التعليم في العراق ثم سنتناول اسباب التدني والتدهور،ومن ثم سنحاول تقديم ملخص بما يمكن عمله لمعالجة هذه الظاهرة الخطيرة.
في البدء يجب الاشارة الى ان هنالك اربعة مناهج مستخدمة في البحوث الاجتماعية وهي المنهج التاريخي والمنهج السردي او الوصفي ومن ثم وعلى يد العالم فونت عام 1813 انزل البحث في العلوم الاجتماعية من برجه الميتافيزيقي الى عالم التجريب عبر استخدام المنهج التجريبي ،ثم وعلى يد العالم الفرنسي جلتن ولد في منتصف القرن التاسع عشر المنهج المقارن.
ثم اشار الدكتور عبد الله الموسوي الى انه اشرف على اكثر من 240 طالب ماجستير ودكتوراة في حوالي خمس جامعات عراقية على امتداد حياته الاكاديمية ،وقد ساعده طلبته الذين اصبحوا تدريسين واداريين في المؤسسات التربوية في انحاء العراق في البحث الذي اجراه لدراسة واقع التعليم في العراق، فقد صمم استمارة استبيان بعث بها الى طلبته السابقين ،وعادت له نتائج الاستبيان الذي اشتغل عليه في بحثه الذي قدمه في الامسية .
وللتعريف التاريخي بواقع التعليم العراقي اشار د.عبدالله الى ان سليمان فيضي قد افتتح اول مدرسة تعمل وفق النظام الحديث عام 1906 في ولاية البصرة ،وفي نفس السنة اشرف جعفر ابو التمن ومعه نخبة من اثرياء بغداد على افتتاح مدرسة في بغداد ،وفي عام 1908 تم افتتاح مدرسة الحقوق وتم الاعتماد على الاساتذة العراقيين الذين لم يكن عددهم كاف كهيئة تدريسية فتمت الاستعانة ببعض الاساتذة من الاستانة،وقد تطورت هذه المدرسة بعد ذلك لتصبح في 1935 كلية الحقوق وقد تم جلب اساتذة من الشام ومصر بالاضافة الى الاساتذة العراقيين للعمل فيها وكان من ابرز من درس في كلية الحقوق عبدالرزاق باشا السنهوري من مصر الذي يعد من ابرز فقهاء الدستور في العالم العربي بالاضافة الى العديد من الاساتذة الاكفاء في مجال تخصصهم ،ثم توالى افتتاح الكليات في مختلف الاختصاصات ،فبدأ من الحقوق عام 1908 مرورا بدار المعلمين العالية عام 1923 ،الطب 1927حتى الخمسينات عندما افتتحت كلية الزراعة وكلية الطب البيطري في ابي غريب ،لتنشأ عام 1957 جامعة بغداد من تجميع كل هذه الكليات ،وقد رأس الجامعة ثلاثة من علماء العراق ،والمفارقة ان احدهم كان مسلما وثانيهما كان صابئيا وثالثهما كان مسيحيا في دلالة على تعايش مختلف الطوائف في مؤسسة علمية رصينة ومتميزة في المنطقة ،فقد رأس جامعة بغداد الدكتور عبد العزيز الدوري المسلم والدكتور متي عقراوي المسيحي والدكتور عبد الجبار عبدالله الصابئي ،عالم الفيزياء العراقي المميز و تلميذ اينشتاين الذي اذل واهين بعد ذلك على يد جلاوزة الانظمة الشمولية التي حلت على العراق بعد 1963 .
واستمرت رحلة بناء النظام التعليمي ففي الستينات افتتحت الجامعة المستنصرية وجامعة البصرة وجامعة الموصل ،وكلها جامعات رصينة انشأت وفق اعلى معيار عالمي للتعليم ،وقد اضاف الدكتور الموسوي ،كما أحب ان اشير الى نقطة مهمة ، وهو افتتاح 14 دار معلمين ابتدائية في 14 لواء (محافظة) بعد ثورة تموز 1958 في خطة شاملة للنهوض بواقع التعليم الابتدائي عبر التوسع في تهيئة الكادر التعليمي المطلوب،كما تجدر الاشارة الى خطوة قام بها الزعيم عبد الكريم قاسم ،وهي الطلب من 1200 رجل دين التحول من الخدمات الدينية المحدودة التي يقدمونها للناس الى تدريس اللغة العربية والتربية الدينية بعد ادخالهم دورات تؤهلهم لذلك .
ثم انتقل د.الموسوي الى مرحلة اخرى فأشار الى ان اليونان القديمة كانت تتقاسمها ثقافتان ،الثقافة الاثينية التي تركز وتعنى بالعقل ،والثقافة الاسبارطية التي تركز على الجسد وتربيته تربية رياضية وعسكرية صارمة ،لأعتقاد القائمين على التربية ان الجسد القوي المنظبط وفق اسس عسكرية هو عماد بناء الدول ،ويذكر الموسوي ان التحول الذي حصل بعد 1963 في العراق فيما يتعلق بمناهج التعليم هو اشبه ما يكون بالتحول نحو النمط الاسبارطي الذي ركز على عسكرة المجتمع وادى الى تغييب دور العقل.
ثم ولالقاء نظرة على سياقات التعليم ،اشار الضيف الى ان مخرجات وزارة التربية هي مدخلات وزارة التعليم العالي وان مخرجات وزارة التعليم العالي هي مدخلات وظائف الدولة والمجتمع ،وكثيرا ما سمعنا الشكاوى والاتهامات المتبادلة بين الوزارتين ورمي القصور من كل جهة على الاخرى ،وهنا يتسائل الدكتور الموسوي عن الغاية من فصل الوزارتين ،وان اغلب دول العالم المتقدمة لا تمتلك الا وزارة تربية اما الجامعات فانها تحضى باستقلالية ادارية وعلمية ومالية ،اذا لماذا لانسعى الى هذا المنهج في العراق؟.
كما تطرق الضيف الى ان العراق مر بتجربة مهمة جدا في السبعينات وهي الحملة الوطنية لمحو الامية ،وقد وصل العراق الى نتائج مهمة من محو الامية في النصف الثاني من السبعينات حيث اصبحت نسبة المتعلمين حوالي 98% وهي مقاربة للنسبة في لبنان التي تعد من الدول المتطورة في هذا المجال ،وقد زار العراق ابان هذه الحملة الرئيس الكوبي السابق فيدل كاسترو فاشار الى انه يتمنى ان يرى كوبا تحذو حذو العراق في هذا المضمار ،ثم ذكر د.الموسوي الى انه كان مستشارا في وزارة التربية عندما اشتعلت الحرب العراقية الايرانية عام 1980 ،وقد صدر امر رسمي حينها بالتغاضي عن تطبيق قانون التعليم الالزامي وقانون محو الامية الذي كان يفرض عقوبات على المتسربين من التعليم سواء الصغار(الامر يتعلق بولي الامر) او الكبار ،ومن هنا بدأت اسوء مرحلة تدهور في حالة التعليم الاولي والجامعي في العراق.
يضيف الدكتور عبدالله الموسوي قائلا ،نحن نتسائل عن المخطط؟ وما يراد بنا ؟ومن وراء ذلك ؟،لقد قالها جيمس بيكر في حرب الخليج (تحرير الكويت)عندما تكلم عن العراق وانهم سوف يعيدوه الى العصر الحجري ،كما تساءلت عضوة الكونغرس الامريكي متعجبة عن شعب تعداده 28 مليون وفيه هذا الكم الهائل من العلماء والاساتذة والاختصاصين في كل المجالات ؟ كيف يمكن ان يحدث هذا؟.واهم من يقول لكم انهم جاءوا من اجل البترول ،اي بترول الذي اصبح سعره 20 دولارا ،وماذا عن البترول الصخري وهم يمتكلون اكبر خزين في العالم ،لقد جاءوا لاعادتنا الى العصر الحجري كما قالها بيكر وقد فعلوا ،واضاف لقد قدمت امسية في شهر شباط عام 2006 في منتدى عام ،اي قبل عشر سنوات ،واخرجت من جيبي قائمة موثقة وانا مسؤول عما ورد فيها من ارقام ،القائمة تشير الى اغتيال اكثر من 1000 عالم عراقي حتى شباط 2006،اغتيلوا على يد مختلف الجهات من دول الجوار كلها دون استثناء ،كيف يمكن لبلد ان يعوض اهدار هذه الثروة من العقول ؟ اما بعد القتل فقد حصلت موجة لا مثيل لها من هجرة العقول استفادت منها مختلف دول العالم القريبة من العراق او البعيدة في المهاجر،المملكة الاردنية على سبيل المثال فيها 34 جامعة كلها قائمة بشكل اساس على الكفاءات العراقية الهاربة من جحيم العراق،كما يمكنكم ان تشاهدوا هنا في بريطانيا وهي نموذج للمهاجر التي ينتشر فيها العراقيون ، في اي مستشفى تزورنه يمكنكم ملاحظة وجود اخصائي عراقي او اكثر في كل قسم من اقسام المستشفى ،وهذه كلها عقول هاجرت وكان الواجب ان تدرس وتعود الى بلدها لتخدمه.
وفي حملة الغزو الامريكي الاخير الذي اسقط النظام السابق وفي احصاءات موثقة تشير الى سرقة محتويات اكثر من 2300 مدرسة في انحاء العراق ،146 مدرسة هدمت جراء القصف في الحرب ،197 مدرسة احرقت مع محتوياتها،وكان النظام السابق قد حول 136 مدرسة الى مخازن للاعتدة ،و100 مدرسة حولها لمخازن اسلحة مما عرضها للتدمير،كما سرقت مكتبات لا يمكن ان تقدر بثمن من مؤسسات بيت الحكمة والمجمع العلمي والمتحف العراقي وكافة الجامعات ،واتلفت عشرات الالاف من المخطوطات التي لايمكن تعويضها ،كل ذلك ونحن نسأل من وراء ما حصل ويحصل لنا؟ ،يجب علينا ان نقرأ بامعان ما كتبه هنري كيسنجر احد اهم مخططي السياسية الامريكية في عام 1973 ،وسنجد كل ما يحصل في المنطقة مخططا ومرسوما منذ ذلك الوقت.
نتائج الاستبيان الذي ارسله الدكتور عبدالله الموسوي جاءت مفزعة ،فبدأ بالصحة النفسية للطفل العراقي الذي تعرض بلده لسقوط اربعة ملايين ومئتا الف طن من القنابل واستمرار التوتر والقتل والخطف والسيارات المفخخة انتجت ازمات نفسية لايمكن حصرها لدى الطفل العراقي .في المملكة المتحدة بكل اجزائها (ايرلندا واسكوتلندا وويلز وانكلترا )هنالك نظام جامعي واحد يؤهل الافراد ليصبحوا مدرسين ،بينما تجد الحالة في العراق تتوزع على دار المعلمين ومعهد المعلمين وكليات التربية والدورات الخاصة التي تخرج المعلمين ،وكل نظام له سياقاته ونظامه مما ينتج اشخاصا قائمين على العملية التربوية متبايني القدرات ،كما ان التغيرت السياسية التي ادت الى تغيرات سريعة وعشوائية في المناهج الدراسية ادت الى زعزعة النظام التعليمي المفتقد للتخطيط الاستراتيجي،وكذلك الاكتظاظ الحاصل في المدارس نتيجة عدم كفاية عدد المدارس الذي يؤدي الى تقليص ساعات الدراسة وهذا الامر يؤدي الى تدني مستوى الطلبة العلمي ،كما ان العامل الاقتصادي وسوء وضع المعلم على امتداد اكثر من ربع قرن ادى الى تهرؤ المنظومة التعليمية ونخرها،وان سوء الادارة المدرسية التي تحولت الى بيروقراطية فارغة لا تؤدي دورها في قيادة العملية التربوية كان لها دورها التدميري في العملية التربوية ، وان غياب المتابعة الادارية يعد احد اهم المشكلات التربوية وذلك لعدة اسباب ،منها تجاهل مشاكل الطلبة وتركهم ومشاكلهم للبيت او الشارع ليحل لهم مشاكلهم ، تنامي الاحساس بعدم المسؤولية خلق شبابا ضعيفي الشخصية يحركهم مبدأ (اني شعلية ،وقابل بس اني )،كما ان تردي الاوضاع الامنية وما يصاحبه من تهجير وقتل وتفجير وتعطل الدراسة لفترات طويلة ادى الى نتائج سيئة جدا انعكست على المستوى التعليمي،وكذلك استفحال ظواهر الغش وعدم رفضها اجتماعيا وتفشي ظاهرة الرشوة والمحسوبية في العملية التربوية ادى الى نخر ما تبقى من وجودها المهترء ،كما ان المعلومات التي توفرت لدي على هذا الصعيد تشير الى وجود 700 شهادة مزورة تم تعيين اصاحبها معلمين في خمس محافظات عراقية ،كذلك وجود 1200 مدرسة مبنية من الطين او القصب في محافظات مختلفة في العراق مثل الموصل والسليمانية وصلاح الدين والانبار والبصرة والناصرية والعمارة والبصرة.
مما تقدم اعلاه قدم الدكتور عبدالله الموسوي توصياته للنهوض بواقع التعليم في العراق في مجموعة من النقاط وكما يلي :
يجب العمل على اعادة تفعيل قوانين التعليم الالزامي ومحو الامية مرة اخرى.
تولي وزارة التعليم العالي والتربية والدوائر الهامة فيها من قبل من هو اهل لذلك بعيدا عن المحاصصات الطائفية والحزبية المقيتة.
توحيد مؤسسات اعداد المعلمين.
لايجوز انفراد شخص واحد باي شكل من الاشكال بوضع المناهج ،وانما يجب ان يتم ذلك بواسطة لجان معدة علميا لهذا الامر.
تحديد العطل المدرسية والتشديد على الصرامة في هذا الامر لان التسيب وصل مديات غير مسبوقة في هذا الامر.
ادماج وزارتي التربية والتعليم و التعليم العالي والبحث العلمي في وزارة واحدة تخطط وتنفذ السياسية التربوية والتعليمية في البلد لتلافي التضارب الحاصل في مخططات الوزارتين.
مدارس المتميزين يجب ان تكون للمتميزين كما كان مخططا لها وليس للاثرياء ولاصحاب الواسطات والنفوذ.
الغاء ازدواجية الدوام في المدارس عبر انشاء العدد الكافي من المباني المدرسية.
الاهتمام باعداد المناهج الدراسية بما يتلائم ونمو وعي الطفل والفتى والشاب .
العمل وبشكل مكثف على القضاء على روح التمييز والسعي لغرز الهوية الوطنية واحتواء كل الطيف المكون للعراق من اعراق واديان.
وفي ختام المحاضرة تلقى الدكتور عبدالله الموسوي بعض الاسئلة والمداخلات التي تناولت موضوعات الامتحانات والمدارس والجامعات الخاصة ومدى فاعليتها في العملية التربوية ،وباجابته عن الاسئلة اغنى موضوع المحاضرة .