لندن / عدنان حسين أحمد–
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية شعرية للشاعر مجيد ياسين حيث قرأ فيها عدداً من قصائد ديوانه الثاني المُعد للنشر. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. ارتأى الشاعر مجيد ياسين أن يتحدث ضمن قراءاته الشعرية عن ثلاثة محاور رئيسة وهي “السونيت”، “الحسيّة” و “الرتابة” في الشعر العمودي التي تفضي في خاتمة المطاف إلى التنويم المغناطيسي. كما تطرّق في سياق حديثه إلى بعض الأشكال الشعرية الأخرى مثل “الشعر الحر” و “قصيدة النثر” وما إلى ذلك. استهل ياسين قراءاته الشعرية بقصيدة “زهرة الأزاهير” التي تتسم ليس بالبهجة حسب، وإنما بحلاوة اللغة، وطلاوة الأسلوب، وجمال الصور الشعرية حيث يقول:
“أرى علياً بين أطفال الورى قرنفلة
خصلات شعره الجميل كالرخاء مرسلة
وضحكاتٌ مثل أنسام الربيع جذلة
يبسم للشمس فتحني الشمس رأساً خجلة
تقول لو لم تكن النور لكنت يا عليُ أوّله
إنّ الذي صاغك قد أودع فيك مثله
فصرت أنت موئل النور وصرت مَثَلَه”.
بدأ الشاعر مجيد ياسين حديثه عن “السونيت” قائلاً: “أطلقتُ على بعض قصائدي اسم السونيتات “الياسينية” وهي في الحقيقة لا تحمل من ملامح السونيتات الشيكسبيرية أو البتراركية سوى خصوصية الخطاب، فهناك ملامح أخرى مثل عدد الأبيات، والوزن والقافية، والشكل الكلاسيكي. أما أنا فقد خرجت عن هذا الإطار دون التقيّد بعدد الأبيات، وقد كتبت إحدى القصائد، على سبيل المثال لا الحصر، بأسلوب الشعر الحر، وهي طويلة بحيث أنها تصل إلى ثلاث أو أربع صفحات، ولم أقرأها لذواتكم الكريمة لأنها طويلة”.
يعتز الشاعر مجيد ياسين بالقصيدة العمودية، ويراهن عليها، كما يمحض الشعر الحرّ حُباً من نوع خاص، ويدافع عنه كنمط شعري، ويكتبه كشكل شعري محبّذ، لكنه يعلن بالفم الملآن أنه لا يعتبر قصيدة النثر شعرا. كتب ياسين بعض السوينتات الحزينة تحية لذكرى زوجته الراحلة “ليلى” طيّب الله ثراها، كما كتب عنها سابقاً قصائد مبهجة حقاً، لكنه ارتأى أن يقرأ قصيدتين، الأولى عمودية، والثانية بصيغة الشعر الحر. وأورد ياسين قبل قراءته النص المعنون “ليلى” رأي الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد بهذه القصيدة التي قال عنها في رسالة إليكترونية خاصة بينه وبين الشاعر مجيد ياسين: “أقسم يا أبا خالد بأنها من أجمل الشعر”. نقتبس من قصيدة “ليلى” الأبيات التالية:
“أنتِ النجاة إذا دنا خطبُ / والريُّ والسرّاء والخصبُ
والنور يطرد كل داجيةٍ / عن دربنا فيشعشعُ الدربُ
إلى أن يختم سونيتته بالبيت الأخير قائلاً:
يا أمّ خالد أنتِ سيدةٌ / بين النساء مكانها القلبُ”.
وتأكيداً لعدم تقيّده بقواعد واشتراطات السونيت فإن القصيدة آنفة الذكر تتألف من “12” بيتاً في حين أن السونيت تتألف من “14” بيتاً، وبالتحديد من ثلاثة مقاطع، وكوبليت يتكون من بيتين يوجز فيهما الفكرة الشعرية التي نمت نمواً طبيعاً في المقاطع الثلاثة السابقة التي يتألف كل مقطع فيها أو “ستانزا” من أربعة أبيات. ثم قرأ القصيدة الثانية التي كتبها على لسان نجله مازن وهو يؤبِّن والدته الراحلة.
انتقل ياسين من أجواء الحزن النبيل إلى مناخ الفكاهة والمرح ونسج على منوال قصيدة أبي نواس ” قل لمن يبكي على رسم درس” خمسة أبيات شعرية يقول فيها:
“قل لمن يبكي على رسم درس / واقفاً ما ضرّ لو كان جلس
قل له إن جاء يبكي أثراً / جئت مشياً أم على ظهر فرس
طفحت عيناه دمعاً ولظىً / وذوى الخدان والصوت احتبس
قل له إن أزفت ساعتنا / ما شدا طير ولا رنّ جرس
فدع الأطلال تبكي نفسها / وابتهج مادام في الصدر نفس
خذ بأيدنا إلى الدكة يا صاحبي / فالدنيا تراتيل وكأس”
وأشار بأن “التراتيل والكأس” هما كناية عن قول أبي نواس “دع المساجد للعباد تسكنها / وقف على دكة الخمار واسقينا” وأوضح ياسين بأن الإنسان يبدأ حياته، على ما يبدو، بالاستهتار ثم ينتهي إلى التوبة والإيمان العميق، وذكر بأن تجربة أبي نواس تكاد تكون مشابهة لتجربة رسّام إسباني معروف وهو فرانشيسكو غويا الذي بدأ حياته مثل أبي نواس موغلاً في البحث عن الملذات الحياتية، لكنه انتهى، في نهاية المطاف، إلى الإيمان، وكرّس كل أعماله حتى وفاته إلى أغراض دينية فمجمل ثيماته وفيغراته هي أجواء كنسية ورهبان، ويقال بأن أبا نواس قد مال في نهاية حياته إلى الزهد والتقوى واعتزال الحياة. ثم قرأ قصيدة “الشعر جرس جميل” وفيها إحالتان، الأولى للخليل بن أحمد الفراهيدي، والثانية للحطيأة، وأضاف ياسين بأن أحد الأشخاص جاء إلى الحطيأة وقرأ له قصيدة ليس فيها من الشعر شيئ فردّ عليه الحطيأة بالبيتين التاليين الذي أُطلق عليهما “ميزان الحطيأة” حيث قال: “الشعر طويل سلّمه / إذا ارتقى فيه الذي لا يفهمه / زلت به إلى الحضيض قدمه / يريد أن يعربه فيعجمه”. قرأ الشاعر مجيد ياسين قصيدة عمودية أخرى تحمل عنوان “إذا الشموس عافها سناؤها” وهي ذات روح قرآنية مكتوبة على بحر الرجز نقتبس منها البيتين التاليين:
“بـغـداد كـم مـوجـعــةٌ أدواؤهــــــــــا / كـم اســتـبـاح صـبـرهـا أعـداؤهــــا / هـل ذنـبـهـا أنّ الـنـّـدى رواؤهـــــــا /
أنّ الـرّخــاء و الـصـّبـا هـواؤهــــــا”.
قرأ ياسين قطعتين قصيرتين وأشار بأنه لا يميل إلى كتابة المطولات الشعرية، ليس لأنه قصير النفس، وإنما لأنه يجد أن بيتين أو ثلاثة أبيات في موضوع ما قد تكفي، وإذا أزاد فربما تكون هذه الزيادة على حساب الأبيات الأخرى، وهذا ما يفسِّر وجود “المثاني” في ديوانه الأول “البحث عن الفردوس”، وقد تكون أغراض هذه المثاني في الدعابة أو في الحكمة، ولكنه تظل شعراً متيناً كما في الأبيات التالية:
“رنوت إلى بغداد أنشد قربها / فقالت لي الأيام أنت كذوب
فلو كنت تهواها لكنت لزمتها / وكل حبيب للحبيب مجيب
فكيف لصاد أن يحيد بخطوه / عن النبع والماء الفرات قريب”
يعتقد ياسين أن “الحسيّة” كلمة شائكة، فعندما يقول “Sensuality” يصل المعنى إلى ذهنه، ولكن حينما يضع في مقابلها كلمة عربية يشعر بعدم الاستقرار، لذلك فكّر أن يستعمل كلمة “الحسيّة”، ومن خلال هذه الكلمة ساءل نفسه عن الحدّ الفاصل بين الأنا والأنا الأعلى، وهل هناك حقاً حد فاصل بينهما، أم أنهما متلازمان يكمِّل أحدهما الآخر؟ وهل أن الأنا الأعلى هي حالة تخطّي للأنا الذي يشّد الإنسان إلى أصوله الحيوانية الأصلية أم لا؟ استعاد ياسين في باله ما يعرفه من صور الإبداع البشري، وكان يدرس حالته الشعورية بإزائها فوجدها في أغلب الأحيان تحفِّز في الفرد نوعاً من التحدي لكل ما هو متدنٍ في الإنسان. وتوصل إلى أن الأنا هو فعل الإنسان في الطبيعة والحيوان، والأنا الأعلى هو تجاوز يحرر الإنسان من أناه المتدنية. توقف ياسين عند تمثال “داوود” لمايكل أنجلو، وهو عمل نحتي رائع في عظمته ودقة بنائه الجسدي مع تصغير مقصود لعضوه التناسلي الذكري إلى درجة قد تثير استغراب الناظر مع أن مايكل أنجلو يعرف الجسم البشري وحركة العضلات بكل تفاصيلها لأنه درس علم التشريح لمدة خمس سنوات، ولكنه قصدها، أي أن قصر العضو الذكري كان مقصوداً لأنه أراد أن يُخرج الإنسان من نطاق الأنا إلى نطاق الأنا الأعلى. توقف ياسين عند منحوتة “النِعم الثلاث” لأنتونيو كانوفا والتي تمثل “الجمال والفتنة والبهجة” وهي منحوتة من الرخام، وكما هو معروف فقد تجاوز عصر النهضة كل التابوات المعروفة، فلاغرابة أن يتعاطوا مع كل الموضوعات اللافتة للنظر، ولعل من المفيد الإشارة إلى أن كنسية سيستين بالفاتيكان تحتوي على العديد من الأعمال الفنية لمايكل أنجلو بما فيها لوحة “الخليقة”، كما رسم بوتشيللي لوحة “فينوس” المشهورة وهي تخرج من الصدفة، فيما أنجز أنتونيو كانوفا منحوتة ” النِعم الثلاث” التي تخطى فيها الأنا إلى الأنا الأعلى وهي الطريق إلى النرفانا. يرى ياسين أن الإنسان البدائي الأقرب إلى الهمجية حينما يرى امرأة فهي تحرك عنده رغبات طبيعية تحكمه في أكثر الأحيان، بينما الإنسان الذي يتأمل تمثال كانوفا يتلمس ليس فقط جمال الصنعة، وإنما جمال التكوين الأنثوي بحد ذاته، فأية عظمة يتوفر عليها هذا النحات البارع؟ لقد اختار ياسين التضاد بين لوحتي “مايا العارية” لفرانشيسكو غويا ولوحة “فينوس وكيوبيد” لدييغو بيلاثكيث وترك للمشاهد فرصة عقد المقارنة. ذكر ياسين بأنه حينما ينظر إلى لوحة بيلاثكيث لا يشعر أنه إزاء امرأة على الرغم من جمال التكوين المدهش الذي حققه بيلاثكيث، بينما كان يشعر بشيئ من الفجاجة حينما ينظر إلى لوحة غويا التي تتوفر على دنو في مشاعر الإنسان العادي. هذا العملان تحديداً هما اللذان حفّزا الشاعر مجيد ياسين لأن يدرك بأن الإنسان يمكن أن يخرج من أناه ويرتقي بها إلى الأنا الأعلى. وختم حديثه في هذا الصدد بأن قصائده الحسية تتناول هذه المسألة بشكل دقيق لذلك طلب من المستمعين أن يتأملوا هذه القصائد الحسية التي كتبها بهذه الطريقة غير المألوفة. وفيما يلي قصيدة “وجد وخضوع” التي يقول فيها:
“كنت كل مساء أقبِّل أنملها
أتعبّد عند جدائلها
أجعل الليل ينسلّ عن جيدها
أنا لم أرَ أجمل من فجرها
حين تنساب عن نهدها ظلمة الموسلين”.
توقف الشاعر ياسين عند كلمة “الموسلين” القماش المشتق من كلمة “الموصلي” وهو ينسج بلونين الأسود والنيلي أو الأزرق، وفي القصيدة ثمة تضاد لوني بين البشرة البيضاء التي وصفها بالفجر، وبين ظلمة الموسلين المنزاح عن نهدها. قرأ الشاعر مجيد عدداً آخر من القصائد الحسية التي رسم أجواءها من خلال التشبيه والضوء والظل لإعطاء الصورة المشهدية المؤثرة.
“تنضو عنها ثوب العرس
لؤلؤة تنزع محارة
همس ينساب
حفيف ثياب
ضحكات خجلى تتوارى
يخفت نور
يوصد باب
نور ينسل كخيط الفجر
أرى غدراناً من مسك
وتلالاً من عاج
وأرى في الثلج المتوهج بركانين وأفعى
تتوارى كل المرئيات
أتخيلها
أمد يداً تلمس بعضاً من هذا العاج”.
أشار ياسين إلى أن بياض البشرة هو اللون الجميل عند الشرقيين، فحينما تنزع ثوب العرس الأبيض فهي تشبه اللؤلؤة التي تخرج من محارة، وهذه صورة حسيّة بامتياز، لكنها أرقى من مجرد الإحساس البدني، لأنها تتجاوزه إلى النشوة الروحية. أما قصيدة “ريم أشقر” فقد قال الشاعر مجيد ياسين “إنّ التشبيهات الموجودة في هذه القصيدة لا سابق لها في الشعر العربي”! نقتبس منها الأبيات التالية:
“ريــــم أشــقـــــر…
مـحـــيّـا يـتـمـازج فـيــه الـثـلـج ولـون الـخـمــر
و شـعـر…
د فــق رذاذ مـن عـنـبـــر
والـعـيـنــان مـرايـا شـــذر
والـثـغــر قـلائــد مــن عـــاج
وهــلالان مـن الـمـرجــــان
والـخـصــر… تـبـارك ربّ الـخـلــق..
ســــوار …
أ م خاتـم سـليـمـان”!!
أما القصيدة الأخيرة فكانت تحمل عنوان “والتين والزيتون” وفيما يلي نصها الكامل:
” والـتـّيـن و الـزّيـتــون
وربّ هــذا الـعـالـم الـضـنـيـن
و فـتـنـة الـعـيــون
و ثـغـرهـا
و نـهــد هـا
و قــدّهـا
و صـبـوة الـسـّـنـيـن
و خـافـقـي الـمـجـنــون
***
لـيــت الـّتـي ســاقـت لـي الـعــذاب
أن تـفـكّ عـن فـؤادي الـمـحـزون
قيده…
وأن تـرحـمـه
مـن لـعـنــة الأوهــام و الـظّـنــون”.