الدكتور رشيد الخيون –
ما شهدته بغداد في الشهر الماضي خصوصاً، وفي السنوات العشر الماضيات، من عنف فظيع ينبئ أنها تحت وطأة غازٍ دائم؛ يدعي أنه يحاول إعادة تشكيل سياستها، يقوم مقام مجبر العظام، إذا جُبر عظم بالخطأ يُعاد كسره ليجبر ثانية. لكن أي غازٍ يعدل المعوج، ليس الاعوجاج يُلقى على الغازي المجتاح، إنما تتحمله حاشيته (أهل البلاد) الذين يحثون السَّير تحت غبار سنابك خيله، فاضروا ببلادهم وشعبهم أكثر من ضرره. فعلى مر الزمان تثار غرائز الغزاة بظرف داخلي. هناك شراكة مفضوحة مع الغزاة على بغداد مِن داخل السلطة ومقاومتها، والغزاة ينفذون غزوهم هذه المرة بأيدٍ محلية! عليهم الخطط أما العدة والعدد فمتوافرة في سوق الطائفية.
كانت بغداد في عزِّ داخلها مهابة، لا جار يتعدى على الماء الجاري في دجلة والفرات، ولا غارات تدخل وتخرج كالطيور، بلا استئذان أو إشعار للمجاملة، تدعي الدولة المغيرة أنها تتعقب عصاة، ولا نسمع كلمة احتجاج، فإذا كان أصحاب الشأن فريق كرة مشتت الاتجاهات، يلعبون للغزاة، كل يلعب لصالح دولة، فمن يصيب الهدف؟ والوصف لأحد وجهاء الدول الغارقة في الخير.
إن قراءةً متأنيةً في الحالة المستعصية القائمة، تجد وراء ذلك ساسة توقفت عقولهم عن التدبير، وعجزت ضمائرهم عن حمل الأمانة، فالوجوه لم تتغير، فمَن يهتم بعقد نصف أو ربع قرن لقصر من القصور الرئاسية لا همه المواطن ولا الوطن ولا الدِّين ولا الطائفة، وإن علا صراخه بهذه العناوين. بفضل هؤلاء غدا العراق يتفجر من الداخل، وخلا ما يجري بسوريا فبقية الدول متماسكة، مع اختلاف الدرجات.
لو نظرنا في تاريخ غزاة بغداد لوجدنا الداخل هو الفاعل، فما غزاها البويهيون (347-447 هـ) إلا بعد مقاتل بين الخلفاء وقادتهم الترك، وما دخلتها فيلة السلاجقة (447 هـ) إلا عقب التعادل في الوهن بين السلطان والخليفة، فحسم الأمر الغزو السلجوقي. حينها هانت الخلافة، فقال الرضي (ت 406 هـ) لما شاهد (381 هـ) الخليفة الطائع لله مسحوباً على الأرض، وسُلبت ثيابه وثياب الأشراف والقضاة: «أمسيت أرحم مَنْ قد كنت أغبطه/لقـد تقارب بين العـزِّ والهـون» (الثعالبي، يتيمة الدهر).
نقفز إلى الغزو المغولي (656 هـ) ما كان يتحقق لولا ضعف الدولة، واعتزال كل أمير بإمارته، وتراجع المعاش، وكان الخلاف محتدماً والمؤامرات تُحاك لاستبدال ابن الخليفة بأبيه (الهمداني، تاريخ المغول)، فقال مجد الدين النَّشابي الأربيلي (ت 657 هـ) قُبيل الواقعة: «واضعية المُلك والدِّين الحنيف/وما تلقاه من حادثات الدَّهر بغدادُ (إلى) من قبل واقعة شنعاءَ مظلمةٍ/ يشيب من هولها طفل وأكباد» (مجهول، الحوادث الجامعة). فتهيأت الفرصة للغزو. أهمية الحدث في التاريخ دون غيره أن الغزاة ليسوا مسلمين، ووضع حد بين عصر وآخر.
أما الحدث البارز الآخر فهو غزو تيمورلنك (ت 808 هـ) لها بجيش جرار (795 هـ)، وكرّ عليها في (797 هـ). كانت بغداد للسلطان الجلائري أحمد بن أويس (قُتل 813 هـ)، وكان زمنه مشحوناً بالفتن بين الزعماء، ولشدة الخلاف قَتل أخاه حسين، فذهب كبار المسؤولين إلى تيمورلنك يستقدمونه، فهيأ ابن أويس جيشاً قبل تحرك تيمورلنك، إلا أن الأخير باغت السلطان وهو مطمئناً للصلح (العزاوي، العراق بين احتلالين).
على أية حال، خبر تيمورلنك ليس خافياً، كان ابن خلدون (ت 808 هـ) قريباً من هذا الغازي، ودخل عليه وقَبل يده، وطلب منه إعفاء العلماء وهو بالشام (ابن خلدون، التعريف). أراه في هذا الموقف لعب دور الفلكي نصير الدين الطوسي(ت 673 هـ) مع هولاكو. لم تأمن الأمم غزوات تيمورلنك حتى مات على أسوار الصين. وتغافل ابن خلدون عما رواه ابن أمير قلعة دمشق لسلطان مصر، آنذاك، ابن تغري بردي (ت 867 هـ)، من فظائع ما فعله الغازي بدمشق، فكان يرعب خصومه ببناء منارات من رؤوس القتلى (النجوم الزاهرة). إنما كتب ابن خلدون صفحات عن لقائه الشخصي به، ذاكراً طلبه للمال من أهل بغداد: «بالمصادرات لأغنيائهم وفقرائهم، حتى مستهم الحاجة، وأقفرت جوانب بغداد» (كتاب العبر).
أما أسباب آخر الغزوات لبغداد، وأخاله ليس الأخير، عندما اجتاحتها الجيوش الأميركية وتمت لها السيطرة خلال عشرين يوماً، لأن بغداد أُنهكت من الداخل، بعد الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988)، والاستنزاف المادي والبشري فيها، ثم اجتياح الكويت (1990)، والانشقاقات المتوالية، حتى وصلت إلى ابن عم الرئيس وزوج ابنته، والحصار الذي أضر بالشعب والجيش، وصار العراق أرضاً طاردة، صارت أماني الشباب الحصول على لجوء، والنظام غير قابل للتعديل لأنه العلة نفسها، فجاء الغزو سهلاًً. وفوق تحمل الغزو وطيش الغزاة عادت النتيجة نفسها، السلطة هي العلة ولا ينفع فيها ترميم وترقيع!
ربما تطلب ظرف بغداد الراهن غزواً جديداً، ليس بالضرورة على يد هولاكو أو تيمورلنك أو فرانكس، غازٍ من نوع آخر طلائعه موجودة في الداخل، وما موجات العنف المتلاحقة إلا أنياب غزو قد غُرزت، فطرائق الغزاة وأساليبهم تتباين من عصر إلى آخر، مهمة هذا الغزو، حسب منطق الغزاة، تفريط العِراق إلى إمارات طوائف دون حساب للكارثة.
لم آت بما تقدم من تاريخ ترفاً، إنما أريد الوصول إلى ما أضعه أمام الواهمين بأن تقسيم البلاد إلى دويلات طائفية سينهي النزاع، وكأن ما يجري قضية مذاهب لا سياسات، إن آل أويس كانوا شيعة وتيمورلنك كان شيعياً (حسب الأمين في أعيان الشيعة عن تواريخ عدة، وموقع الشيخ علي الكوراني)، فكيف يغزو أبناء الطائفة الواحدة بعضهم بعضاً؟ وإن هولاكو سلم السلطة لنخبة سنّية، هي حكومة بغداد العباسية نفسها، فكيف للطوسي الشيعي أن يظل مخلصاً لهذه الحكومة والمغول الذين أشهروا إسلامهم على المذهب السُّني؟
كيف كان لابن خلدون السياسي والقاضي السني (مالكي) أن يقصد تيمورلنك ويدفع عنه ما قيل في فظائعه بحق الأمم؟ كيف للشيعي أويس التَّعاون مع سلطان مصر السني الظاهر برقوق (ت 801 هــ) ضد الشيعي تيمورلنك؟ لا تستخفوا بعقولنا. أنتم في السعي لتقسيم البلاد تريدون تحقيق: «مالا يدرك كله لا يترك جله»! وإنجاح مهمة الغازي الجديد، وهو يوزع الموت لفرض الحالة الطائفية كأمر واقع، إنها سياسات لا طوائف