لندن / عدنان حسين أحمد
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية بعنوان “المنهج العلمي: منطق العمليات البحثية” للدكتور سعد عبد الرزاق، وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة الأستاذ غانم جواد الذي شكر المُحاضِر وأثنى على دعمه القوي لمؤسسة الحوار من خلال مشاركاته الجدية في المحاضرات القيّمة التي يقدّمها بين أوانٍ وآخر. استهل الدكتور عبد الرزاق محاضرته بالقول بأنه سيحاول أن يخفِّف من تخصصية المحاضرة وأكاديميتها كي يجعل مضامينها العلمية متاحة للمتلقين بمختلف مستوياتهم الثقافية. عرّف المُحاضر “المنهج” بأنه “طريقة علمية لحل مشكلة ما في إطار العلم سواء أكانت في العلوم الدقيقة أم في العلوم الاجتماعية. يرى المُحاضر أن عمر العلم الحديث ليس أكثر من أربعة أو خمسة قرون، أي أنه بدأ منذ عصر النهضة الأوروبية. وقد يسأل سائل: ألم يكن هناك علم قبل هذا التاريخ تحديداً؟ والجواب هو: كانت هناك تطبيقات ومعارف وممارسات تستعملها الحضارات القديمة من خلال علوم معينة مثل الفلك والتنجيم، لكن المنهج العلمي بصيغته الحالية لم يظهر إلا مع ظهور العلوم الحديثة التي انفصلت عن الفلسفة منذ عصر النهضة وصولاً إلى الوقت الراهن، لأن العلوم في حينه كانت جزءاً من الفلسفة، بل أن كتب بعض العلماء الكبار من طراز إسحق نيوتن كانت تتكلم عن فلسفة، أو الفيلسوف ديكارت الذي بدأ عصر النهضة بفلسفته العقلانية، ثم بدأ بعدهم الكلام عن المنهج وطرائقه واستعمال وسائل القياس مثل التليسكوب والميكروسكوب بغية الوصول إلى نتائج محددة.
ذكرَ المُحاضِر بأن الإنسان قد تعلم منذ بدء الحضارات البشرية القديمة بأن هناك سياقات منتظمة مثل شروق الشمس وغروبها يومياً، وحدوث الفصول الأربعة في السنة الواحدة قد فرضت على الإنسان أن يتعلمها ويدركها جيداً لأنه من دونها لا يستطيع أن يبقى على قيد الحياة، خصوصاً بعد أن تعلّم القراءة والكتابة وتفتحت مداركه، وتوسعت آفاقه العلمية فصار لزاماً عليه أن يحترم الليل والنهار، ويضع في الحسبان فصول السنة الأربعة بغية أن ينتج ويبقى على قيد الحياة. وقد انتبه الإنسان إلى ذلك في الحضارات الأولى، وخصوصاً الحضارات المائية التي كانت تحتاج إلى إدارة الفيضانات والسيطرة عليها في الأنهر الكبرى في العالم في بلاد الرافدين ومصر والهند والصين وغيرها من البلدان ذات الوفرة المائية التي تحرِّض الإنسان وتدفعه للإفادة منها في الزراعة والرعي بغية تأمين هاجس الطعام. أشار المُحاضِر إلى أن الإنسان كان يتعلّم على مدى قرون طويلة وقد بنى على هذه المعرفة قضايا كثيرة تقوم غالباً على جانبين نظري وعملي في الوقت ذاته. فاليونانيون القدماء قد كانوا يهتمون كثيراً بالعلوم العامة، لكنهم، مع الأسف الشديد، لم يولوا التطبيقات أهمية موازية، لذلك أصبح علم الرياضيات من أكثر العلوم تجريداً، وعندما لا يجد الإنسان ضالته في مثل هذه العلوم التجريدية كان يلتجئ إلى الدين ويستعين بالخرافة والسحر لتغطية عجزه وقصوره المعرفي.
يعتقد الدكتور عبد الرزاق بأن البدايات الأولى للعلوم والمناهج قد بدأت في عصر النهضة حيث حصلت ثلاث قضايا أساسية اختصرها بظهور الحركة الإنسانية في الفن، وإطلالة الفلسفة العقلانية لديكارت، وحدوث الإصلاح الديني الذي تمثل بإيقاف الكنيسة الكاثوليكية من قبل البروتستانتية حيث كانت الكنيسة الكاثوليكية مهيمنة على عقول الناس وقد أفضى الإصلاح الديني إلى تغيير جذري في أفكار الناس وتصوراتهم مع المحافظة على خصوصية العلاقة بين الخالق والمخلوق وقد حدثت هذه القضايا الثلاث بفضل ظهور العلوم الحديثة.
نوّه المُحاضر إلى أن غاليليو وغيره من العلماء المبدعين اضطروا قبيل عصر النهضة أن يتوقفوا عن الحديث عن العلم ومكتشفاته الحديثة خشية من سلطة الكنيسة الي كانت تقف ضدهم وتكفّر البعض منهم إلى درجة أن بعض العلماء قد أبطلوا الأفكار التي أتوا بها وأحجموا عن ذكرها مثل كون الأرض مركزاً للكون! والسبب في ذلك يعود إلى تدخّل الكنيسة في أمور لا تعنيها. وحينما جاءت الحركة اللوثرية والكالفينية وأدب الإصلاح الديني تحرر البشر من هذا التفكير السقيم المناهض للعلم والعلماء. أشار المُحاضِر إلى أن المصلحين كانوا جزءاً من الدين، ولم يضعوا في حسبانهم أن يؤسسوا حركات مناهضة للدين، غير أنهم وجدوا في موقف الكنيسة المتشدد ما لا يمكن السكوت عليه لذلك ظهرت هذه الحركات الإصلاحية التي هزّت عرش الكنيسة ومنحتها حجمها الطبيعي. ذكر الدكتور عبد الرزاق غير مرة بأن رينيه ديكارت هو أهم فيلسوف أوروبي في تلك الحقبة الزمنية وأن كتابه الأساسي هو “مقال في المنهج” كان ولا يزال كتاباً مهماً يعيننا في كيفية استعمال الوسائل الطبيعية للوصول إلى نتيجة البدايات الأولى، بغض النظر عن بعض الهنات الموجودة في الكتاب، إلاّ أنه كان البداية الأولى التي أعطت أهمية بالغة للتجربة والمنهج.
أما الحركة الثانية والمهمة التي حصلت في عصر التنوير أن فلسفة الأنوار قد فتحت أمام الإنسان فتوحات جديدة وهائلة فقد بدأ الإنسان يفكر في تحقيق مجتمع سعيد، وهذا التفكير لم يكن سائدا من قبل لأن السعادة لم تكن تتحقق إلاّ في الجنة أو في الأسطورة، وقد بدأ التفكير الجدي بالمجتمع السعيد في القرن الثامن عشر حينما تطور العلم، وأنجز الميكانيك، وحقق الطاقة البخارية، والسكك الحديد وصار بالإمكان الوصول إلى مدن بعيدة ومكتظة بالسكّان بحيث يصل تعداها إلى مليون نسمة. وكما هو معروف فإن سكان المدن لا يعملون في إنتاج الغذاء، وإنما كان يأتيهم الغذاء من خارج المدن، أي من القرى والأرياف، ولهذا فقد سبقت الثورةُ الصناعية الثورةَ الزراعية بحيث استطاع الإنسان الأوروبي أن يوفر غذاءه وبات من الممكن نقل الفلاحين من القرى إلى المدن ليصبحوا جزءاً من مجتمع المدينة كما حصل في مانتشستر وغيرها من المدن الكبيرة التي شهدت ثورة صناعية فتقدم العلم، وازدهرت المعرفة فيها. وعلى الرغم من التقدم الكبير الذي شهدته المدن والعواصم الأوروبية بعد الثورة الصناعية إلا أن بعض المفاهيم مثل السحر والخرافة والأسطورة ظلت قائمة وموجودة حتى منتصف القرن التاسع عشر بحيث أن المريض نفسياً كان يعتقد بأن روحاً شريرة قد ولجت إلى داخل جسده وظل الأمر كذلك لحين ظهور علم النفس، وحدوث الثورة الصناعية، والتقدم العلمي الكبير الذي تجاوز الكثير من هذه المسائل الغيبية.
ما هي الأهداف الحقيقية للمنهج العلمي؟
ذكرَ المًحاضر بأنه كي يتأكد من أن هذه النظرية صحيحة فلابد أن يجد لها بيانات يحصل عليها من الطبيعة أو المجتمع ثم يتحقق منها إذا ما كانت صحيحة أم خاطئة. إن أهم شيئ في النظرية هي البداية التي ننطلق منها، ثم يأتي بعدها التفسير، ويتبعها أخيراً التنبؤ. وكما هو معروف فإن التنبؤ في الكيمياء والفيزياء هو عملية سهلة فحينما تضع حامض زائداً قاعدة ينتج عنهما ملحاً وماء، وهذا قانون متعارف عليه، لكن من الصعب جداً التنبؤ بالظواهر الاجتماعية. أما المنهج العلمي فيعتقد المًحاضر بأن هناك علماء أسسوا نظريات مثل نيوتن وأينشتاين وغيرهما من الذين توصلوا إلى هذه الاكتشافات عن طريق النظرية، وليس عن طريق التجريب، بينما طبّقها غيرهم واكتشفوا أنها صحيحة.
أشار المحاضر إلى أن الطريقة التي يستعملها العلماء هي تقسيم المراحل وكمثال على دور النظرية في مناهج العلوم الدقيقة توقف عند أنريكو فيرمي الذي تمكن من إطلاق طاقة نووية بسيطة إعتماداً على نظرية أنشتاين التي تقول إن الطاقة تساوي المادة x مربع سرعة الضوء وهذا المربع هو خيال، أما كمية المادة أو حجمها فليس مهماً بقدر ما هي مضروبة في مربع سرعة الضوء التي تنتج طاقة هائلة في خاتمة المطاف. ذكر المحاضر بأن هناك عالِمين حاولا أن يطبقا قانون نيوتن (السرعة تساوي مسافة الزمن) على سرعة الضوء وأرادا أن يعرفا كيف يتحرك الضوء ويصل للأرض بهذه السرعة، لكنهما اختفيا ولم تنجح محاولتهما، لكن غيرهما نجح في ذلك واستطاع أن يتحقق من نظرية أنشتاين، فدور النظرية مهم جداً للتحقق والإثبات.
نوّه المحاضر إلى أن الفرق في المنهج بين العلوم الدقيقة والعلوم الاجتماعية كبير ويمكن ملاحظته والإلمام به، فعندما تكون لديك فلزات وعناصر كيمياوية وفيرياوية تستطيع أن تعمل عليها تجارب سواء بلندن أو ببغداد وتخرج منها بنتيجة، لكن هذا الأمر لا ينطبق على المنهج الاجتماعي ولا تستطيع أن تتنبأ به. وهناك من يقول في العلوم الدقيقة أن كل نظرية ترتقي على النظرية التي سبقتها لأن الأولى أصبحت قديمة ولا تستطيع أن تفسر العديد من الظواهر، أما في العلوم الدقيقة فنجد أن هناك بناءً شاقولياً، أي أن النظرية الأخيرة هي الصحيحة في العلوم الدقيقة، بينما لا ينطبق هذا الأمر على العلوم الاجتماعية فأرسطو مثلاً لا يزال يعيش معنا، وهناك بعض المقولات لا تزال صحيحة، وأن النظريات القديمة تتجاور مع النظريات الحديثة وأن التطور في العلوم الاجتماعية أفقياً وليس عموديا.
عرض المحاضر بعض مشكلات البحث التي تبدأ بالنظرية أو بجمع البيانات. ففي حال البداية بالنظرية يجب أن تتبع التسلسل الآتي:”النظرية / المفاهيم / المتغيرات / المؤشرات / البيانات / الاستنتاجات”. وهذه النظرية ممكن أن نضعها ونقيسها ونتوصل إلى أنها صحيحة أو خاطئة، كما يمكن تغييرها إلى نظرية جديدة. أشار المُحاضر إلى أن عملية بناء النظرية ممكن أن تبدأ من الملاحظة إلى أن نصل إلى نظرية، كما يمكن أن نبدأ من النظرية لكي نصل إلى الملاحظة.
قدّم المُحاضر دراسة الانتحار لدوركايم مثالاً ومن خلال النسب والاحصائيات والبيانات لاحظ ان الانتحار يحدث في المدن أكثر من الأرياف، وعند العزّاب أكثر من المتزوجين، وعند المسنين أكثر من الشباب، وعند البروتستانت أكثر من الكاثوليك، وكلما كان الإنسان مندمجاً في المجتمع كلما قلّت نسبة الانتحار. وقد بدأ عالم الاجتماع هنا من البيانات وتوصل في النهاية إلى نظرية.
وفيما يتعلق بالنظريات الكبرى ونظريات المدى المتوسط فقد ميّز عالم الاجتماع الأميركي روبرت ميرتون بينهما واعتبر الأخيرة مناسبة أكثر للبحث الاجتماعي لأنها تقدِّم مؤشرات أوسع وأفضل للبحث من الأولى، كما أنها أقل تجريداً، وسواء اعتمد البحث على نظرية كبرى أو متوسطة المدى فإن هذه الأبحاث التي تعتمد على نظرية استدلالية تسير عى وفق الشكل الآتي: (النظرية / الفرضية / جمع البيانات / النتائج / تأكيد الفرضية أو نقضها / تعديل النظرية).
يعتقد المُحاضر بأن أهم شيئ في أية نظرية هي المفاهيم لأنها تُعد بمثابة الطابوق للبناء النظري التي تروم الوصول إلى بيانات. فعندما يشرع عالم الاجتماع بالبحث لابد أن يسأل نفسه عن المفاهيم التي يريد التطرق لها مثل الطبقة الاجتماعية، الطائفة، الأقلية، الإناث، الذكور وكيف يحوِّل المفهوم إلى مؤشر، فنظام الطبقات كان صعباً لدى ماركس، وهو أقل صعوبة لدى وارنر، لكنه أسهل بكثير لدى أرسطو الذي قسّم المجتمع إلى ثلاث طبقات عليا ووسطى وسفلى. لم يجد المُحاضر صعوبة في تناول الجنس لأنه إما أنثى أو ذكر، وفي الديانة إما يهودي أو مسيحي أو مسلم أو لا ديانة له. إن مكمن الصعوبة هو في تناول مفاهيم معقدة مثل (الحرمان) لأن سببه قد يكون نفسياً أو سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصاديا أو بدنياً، فكيف تستطيع أن تقيس على أساسه، فالفقير يمكن أن تقول عنه محروماً، لكنه قد يكون سعيدا. يرى المُحاضر أن الجانب الاجتماعي يمكن تقسيمه إلى ثلاثة أبعاد وهي نقص في المهارات الاجتماعية وانعدام الأدوار فيها والعزلة، ولكن يمكن التغلب على هذه المشكلة بتعلّم المزيد من هذه المهارات وكسر جدار العزلة الاجتماعية، وقد استعمل الباحث مقاييس تستعمل في علم النفس مثل مقاييس الانطواء الذاتي ومقاييس التنفيس، وهنا يعتقد الباحث إنه إذا استعمل كل هذه البيانات فإنه يستطيع أن يتكلم عن الحرمان. كما قدّم نموذجاً آخر عن (الغربة) وقسّمها إلى خمسة أقسام وهي: (الغربة من العمل / الغربة الاجتماعية / اللامعيارية / اللامعنى / اللانفوذ)، كما قدّم نموذجاً آخر حاكى فيه النموذج السابق، لكنه يتمحور حول (الديمقراطية) وقد قسّمه على الشكل الآتي: (الانتخابات الحرة / حرية التعبير / حرية التنظيم / المساواة بين الرجل والمرأة) طرح فيها عدداً من الأسئلة الشائعة من قبيل: (هل تعتقد بأن الانتخابات الأخيرة كانت حرة ونزيهة / هل تشعر بأن هناك أشياء لا يمكنك التصريح بها / هل لديك الحرية بالانتساب إلى حزب معين / هل تشعر بالمساواة بين الرجل والمرأة؟).
أوضح المُحاضر أدوات البحث المستعملة وأوجزها بالملاحظة والاستبيان والمقابلة والوثائق الأخرى. أما العيّنات فقد قسّمها إلى قسمين وهما: العينات الاحتمالية والعينات غير الاحتمالية مُدرجاً تحت العينات الاحتمالية خمس نقاط وهي: العينة العشوائية البسيطة، والعينة المنتظمة، والعينة الطبقية، والعينة العنقودية وعينة المنطقة، أما العينات غير الاحتمالية فتضمنت ثلاث نقاط أيضاً وهي العينة القصدية والعينة الحصصية والعينة المتيسرة أو المتاحة. ذكر المُحاضر في ختام حديثه بأن حجم العينة يجب ألا يكون أقل من مئة. وبعد انتهاء الدكتور سعد عبد الرزاق من محاضرته القيّمة دار بينه وبين الحاضرين حوار عميق شارك فيه الدكتور إبراهيم الحيدري والدكتور حميد الهاشمي وخالد القشطيني.