عدنان حسين أحمد –
ضيّفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن الدكتور إبراهيم الحيدري الذي تحدث في موضوع بالغ الأهمية يحمل عنوان “الإسلام والحداثة” وقد طرح فيه بضعة أسئلة جوهرية تتعلق بالنهضة والحداثة من بينها: “لماذا نجحت الحداثة في أوروبا ولم تنجح في العالم الإسلامي؟ ولماذا تقدّم الأوروبيون والمعسكر الغربي برمته بينما تأخرنا نحن في العالمين العربي والإسلامي؟ ولماذا هم أقوياء ونحن ضعفاء؟ وهل دخل العرب عصر الحداثة أم
أنهم لا يزالون بعيدين عنها؟”. يعتقد الحيدري أن هذه الأسئلة جميعها هي ردود فعل لصدمة الحداثة التي واجهها العرب بعد دخول نابليون مصر وما نجم عن هذا الدخول من تداعيات معروفة.
يعرِّف الحيدري كلمة النهضة (Renaissance) بأنها “انبعاث أوروبا من سبات القرون الوسطى في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، أي بعد تفكك علاقات الإنتاج الإقطاعية التي مهدّت الطريق لقيام عصر التنوير والحداثة في أوروبا والتي قامت في إيطاليا أولاً حيث شهد النظام الرأسمالي بدايات تطوره”. أما النهضة في الإسلام فتتمثل بمشروعين: الأول في العصر الوسيط والثاني في العصر الحديث.
مشروع النهضة في العصر الوسيط
أوضحَ الحيدري في محاضرته بأنّ مشروع النهضة في بغداد قد انطلق في العصر العباسي تحديداً، أي منذ القرن التاسع وحتى القرن الثالث عشر الميلادي. وقد شهدت الدولة الإسلامية تطوراً كبيراً وتوسعاً في حدودها الجغرافية بحيث امتدت إلى شرق البحر الأبيض المتوسط، وشمال أفريقيا، وأواسط آسيا، وتطورت المدن في العراق وإيران من بينها البصرة والكوفة وبغداد وخراسان وأصفهان، كما نشأت الطبقة الوسطى التي حملت على أكتافها التقدم الاجتماعي. إنّ تطور الاقتصاد والتجارة في البحر العربي هو الذي أفضى بشكل غير باشر إلى سيطرة الأسطول العربي الإسلامي في القرن الثامن الميلادي على موانئ كثيرة، كما تمّ فتح إسبانيا عام 711م ووصل العرب إلى مدن الجنوب الفرنسي، حيث ازدهرت الطرق البرية التجارية كطريق الحرير الذي ربط الشرق بالغرب، والأكثر من ذلك فقد شهد العالم الإسلامي نهضة علمية وفكرية وثقافية حيث تطور علم الكلام وكوّن حركة عقلانية نقدية ذات نزعة إنسانية تنويرية عند الجاحظ والفارابي وابن سينا وغيرهم، كما تطور علم الفلك والملاحة والبصريات على المستويين العلمي والتجريبي إضافة إلى تطور حركة الترجمة والتأليف والنشر حيث تمّ نقل أمهات الكتب العلمية والفلسفية والطبية من اللغات اليونانية والسريانية والفارسية الى اللغة العربية، وخاصة بعد تأسيس دار الحكمة ببغداد والمستنصرية.
توقف الحيدري عند ثلاثة تيارات مركزية نشأت في هذه البيئة الثقافية الصحية وهي: “التيار التقليدي الذي يقول بأولوية النقل على العقل، والتيار العقلاني الذي يقول بأولوية العقل من دون أن ينفي النقل، والتيار الثالث الذي أعطى للعقل مكانة خاصة في الفكر الإسلامي عندما دخل في مواجهة مباشرة مع العقل الفلسفي والعلمي الإغريقي “عن طريق الترجمة” والذي تجسد في فكر المعتزلة التنوير الذي أسس البدايات الأولى لنشوء الفلسفة الإسلامية”. أما التيار الصوفي الذي يقوم على التجربة الروحية والاستبطان الداخلي والتأويل الرمزي للنصوص فقد تحول إلى مجرد طقوس جامدة فيها الكثير من البدع والشعوذة والخرافات خصوصاً بعد أن أصبح خادماً للسلطة أولاً ثم الاستعمار لاحقا.
ركّز الحيدري في شرحه على المعتزلة وقال: “إنها حركة فكرية وفلسفية تناولت مسائل دينية كالنبوة والإيمان والأخلاق، والاعتزال هو الخروج من الجماعة أو التنحي عنها والابتعاد منها درءاً للوقوع في الخطأ..وهناك أسباب دينية وسياسية للاعتزال أهمها اعتزال واصل بن عطاء عن مجلس الحسن البصري بسبب الاختلاف حول مرتكب الكبائر وهل هو كافر أم بين بين؟ فالكبائر، كما أوضح الباحث نوعان: كبيرة وصغيرة، “فالكبيرة هي الكفر والقتل والسرقة، والصغيرة هي الخطأ والكذب والنسيان”. كما توقف الباحث عند أهم أفكار المعتزلة التي أوجزها بأربع نقاط وهي نزول القرآن والقول بخلقه، أي أن الله خلق القران وأنزله على النبي محمد بلسان عربي مبين، في حين يرى الآخرون أن القران أزلي، أي كان موجودا منذ الأزل مع وجود الله. كما اعتمدوا على العقل، ولم يعد النقل محور المعرفة، فلا عقل دون حرية ولا حرية دون عقل. كما آمنوا بالإرادة الحرّة للإنسان، وفصلوا بين الدين والسياسة على الرغم من أنهم لم يجدوا تناقضاً بين العقل والدين. اختتم المحاضر حديثه عن حركة المعتزلة بالقول: بأنها حينما وصلت إلى السلطة كما حدث في زمن المأمون، تنكرت لمبادئها وأفكارها الثورية، وأخذت تقمع بدورها خصومها.”، مذكراً إيّانا بمحنة أحمد ابن حنبل التي راح ضحيتها المئات من الناس.
نوّه الحيدري بأهمية “أخوان الصفاء وخلان الوفاء” التي قال عنها: “إنها حركة فلسفية تنويرية سبقت فكر المعتزلة أو رافقته، نشأت في البصرة في القرن العاشر الميلادي. اهتم أصحابها بتطور العلوم والرياضيات والفلك والسياسة والتربية والمجتمع وحاولوا التوفيق بين العقيدة والفلسفة، وأصدروا (52) رسالة فلسفية سُميت برسائل “أخوان الصفاء وخلان الوفاء”، وهي بمثابة موسوعة فلسفية.
أوجزَ الحيدري أسباب فشل النهضة بست نقاط وهي: “تفكك الدولة العربية الإسلامية، غياب دعم الطبقة الوسطى المتفتحة كما هو الحال في أوروبا، اضطهاد المتوكل والواثق للمعتزلة وإحراق كتبهم بعد المحنة، إقفال باب الاجتهاد لدى فقهاء السُنة “هجوم الغزالي على الفلسفة والعقل في “تهافت الفلاسفة” الذي أنتج ظاهرة محمد عبد الوهاب(1703-1791) والأخوان المسلمين ثم السلفيين. إعادة الاعتبار للمنطق الأرسطي الذي يقول: “منْ تمنطق فقد تزندق”، وأخيراً سقوط بغداد على يد التتر عام (1258) والذي أسفر عن دخول العالم العربي والإسلامي في عصر الظلام الذي لم يفق منه إلاّ على مدافع نابليون وهي تدك شواطئ مصر التي أيقظت العرب والمسلمين لينهضوا مرة ثانية كما يرى الحيدري.
النهضة الثانية في القرن التاسع عشر
يرى الحيدري أن حملة نابليون على مصر عام 1798م كانت صدمة حضارية للعرب والمسلمين الذين وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام الغرب المتقدم الذي يملك كل أسباب الحضارة والتقدم والمدنية وأدركو حجم التأخر الذين يعانون منه وقدروا الهوّة الحضارية التي تفصل بينهم وبين الغرب المتقدم نحو خمسة قرون. فأخذوا ينفتحون على الغرب ويتحاورون معه، بغية التخلص من محنهم وضياعهم.
أثارت العلاقة المعقدة بين الأنا والآخر تساؤلات عديدة، كما أدخلت إلى العالم العربي مفاهيم جديدة لم يألفها من قبل مثل الحرية والتقدّم العلمي والتكنولوجي وحقوق الإنسان، كما لعب فتح باب الاجتهاد دوراً مهماً في تحديث الفقه وربط الخطاب الديني بمقتضيات العصر بغية مواجهة الغرب الاستعماري المتقدم كرد فعل على صدمة الحداثة.
الصراع بين القديم والجديد
أحدثت الصدمة الحضارية والسيكولوجية، كما يرى الحيدري، صراعا وتناشزا بين فئتين واسعتين يطلق عليهما علي الوردي، بـ “فئة المجدِّدين” و “فئة المحافظين”، واحدة تدعو الى الاصلاح والتحديث والأخذ بعناصر الحضارة الغربية المادية والمعنوية، والأخرى تتمسك بالنظام القائم ومؤسساته التقليدية وتطالب بالرجوع الى الاسلام الأول وقراءته وإعادة إنتاجه من جديد.
التيارات الفكرية الرئيسية
توقف الحيدري عند أربعة تيارات رئيسة نشأت وسيطرت على الساحة آنذاك وهي: “التيار الديني التقليدي الذي مثّله الماوردي وابن تيمية، والتيار الديني الإصلاحي الذي قاده الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، والتيار الليبرالي الذي دعا إليه ناصيف اليازجي وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وجرجي زيدان وقاسم امين وصدقي الزهاوي ومعروف الرصافي وغيرهم، والتيار التقدمي الذي تصدّره عبد الرحمن الكواكبي وشبلي شميل وفرح أنطوان، وهو تيار عقلاني نادى بالمبادئ الاشتراكية للتخلص من الاستبداد والتخلف، عن طريق احياء المعارف والعلوم.
رد فعل الاحتكاك مع الغرب
يعتقد الحيدري أن الاحتكاك مع الغرب قد ولّد ردود أفعال كثيرة أبرزها صدور كتاب الجبرتي “التقديس في زوال دولة الفرنسيس” حيث أطلق على الفرنسيين صفة” غزاة أرض الخلافة وأنها دولة دهرية إلحادية ومارقة عن الدين”، انبهار رافع الطهطاوي بالغرب المتقدم حيث قال: “عرف الأخرُ الدنيا فعرفَ الدين، وعرفتُ أنا الدينَ فجهلتُ الدينَ والدنيا معا”، كما دعا جمال الدين الأفغاني المسلمين إلى فهم الدين فهماً صحيحا وإعادة بناء وحدة الأمة وذلك عن طريق قطف ثمار العقل والعلم، مؤكداً على أن العلم والإسلام لا يتناقضان.
أسباب فشل مشروع النهضة
يُرجع الدكتور الحيدري أسباب فشل مشروع النهضة إلى عدة عوامل من بينها: “تخلّف البنى الفكرية والمجتمعية مثل عدم نمو مجتمع صناعي ونظام رأسمالي يراكم الثروة، غياب العقل النقدي، عدم تحقيق قطيعة مع الماضي بأعرافه وتقاليده البالية، عدم توفر حرية الفكر والاستقلال الذاتي للعقل العربي، وضرورة تلازم التحديث المادي والمعنوي الذي يشمل المعرفة والتعليم وحقوق الإنسان وما إلى ذلك.
اختتم الحيدري محاضرته بالقول إنّ الحداثة قد دخلت من الأبواب الخلفية للمجتمع العربي والإسلامي، وقد مسّت السطح والقشرة الخارجية، لكنها لم تلج إلى عمق البنية المجتمعية، الأمر الذي أحدث صراعاً وتناشزاً اجتماعياً وقيمياً وأخلاقيا. كما خلص الباحث إلى “أن العرب قد أخذوا منجزات الحضارة المادية “السيارة والإنترنت والموبايل” دون قيمها ومعاييرها وأفكارها العلمية والتقنية التي صنعتها، في حين بقيت قيمنا وسلوكنا مشدودة إلى القرون الوسطى على الرغم من أننا نستعمل تكنولوجيات القرن الواحد والعشرين”. فيما عادت بنا قيمنا البالية إلى استحداث ظواهر متخلفة جداً مثل “الفصل العشائري الذي امتد إلى الأطباء في حالات فشل علاج بعض المرضى أو موتهم لأسباب قاهرة. كما بتنا نسمع بصدور فتاوى غريبة تعيدنا إلى عصور الظلام مثل “جهاد النكاح، وارضاع الكبير، وقتل ميكي ماوس” وما إلى ذلك من فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان. وبعد الانتهاء من الأمسية دار حوار طويل بين المحاضر وجمهور الحوار الإنساني حيث أجاب الدكتور الحيدري على أسئلة الحاضرين وتعقيباتهم وملاحظاتهم التي أثرت الأمسية الفكرية.
لندن / عدنان حسين أحمد