تستضيف مؤسسة الحوار الانساني بلندن يوم الاربعاء 15 ايلول/سبتمبر 2021 الدكتور ياسر البراك في أمسية ثقافية الساعة السابعة مساء بتوقيت لندن، التاسعة مساء بتوقيت بغداد على منصة زووم، سيتناول فيها أسباب قيام انتفاضة تشرين التحررية في العراق، ورمزية مدينة الناصرية في تصدرها لتلك الثورة وقيادتها لها، وخلقها لمفهوم (البديل السياسي) عبر إنبثاق حزبين رئيسين من الحراك التشريني وإستعدادهما لخوض الإنتخابات النيابية المبكرة.
ياسر عبد الصاحب البرّاك؛ولد في الناصرية 1968 . واكمل فيها دراسته الابتدائية والمتوسطة. درس الفنون المسرحية في معهد الفنون الجميلة في البصرة ثم كلية الفنون الجميلة في بغداد وحصل على بكالوريوسفي الاخراج المسرحي عام 1994. ثم حصل على شهادتي الماجستير والدكتوراة في الاخراج المسرحي في كلية الفنون الجميلة – جامعة بابل عام 2016 . شارك في تأسيس عدد من الفرق المسرحية، واخرج العديد من المسرحيات لمسرحيين عراقيين وعرب وعالميين، وحصلت مسرحياته على العديد من الجوائز وشهادات التقدير .أصدر كتابه النقدي (المسرح في البصرة : مقاربات في المتحقق ) عن دار الشؤون الثقافة العامة – بغداد عام 2008 . شغل منصب رئيس إتحاد الأدباء والكتاب في ذي قار لدورتين متتاليتين : الاولى من 2010 الى 2016 ،كما كان نائبا للرئيس في الدورة الثالثة. عمل استاذا ورئيسا لقسم الصحافة الاذاعية والتلفزيونية في كلية الاعلام – جامعة ذي قار للأعوام.
المقدمة
قدرة الناصرية على التصعيد جعل منها ملهمة لساحات الاحتجاج في العراق ، وبالرغم من أن العاصمة هي المتصدرة بين اخواتها المحافظات لناحية عدد الشهداء والمصابين والمعتقلين، إضافةً لما تمتكله من حظوة وسمعة وأهمية؛ إلا أن الناصرية، التي احتلت المركز الثاني في دوري ضحايا إرهاب السلطة وأحزابها، جرحت العراقيين أجمع بمآسيها المتكررة.
الرمزية التي حُظيت بها الناصرية ألهمت الناس وصارت مصدر توحد لساحات الاحتجاج وهذا ما يُقلق السلطة: الخوف من الرموز. لا ينسى العراقيون يوم الخميس المشؤوم، حين ارتكبت العصابات الإجرامية مجزرة بحق شباب الناصرية بفتحها النار عليهم دون سابق إنذار. كانت الليلة التي سبقت تقديم رئيس الوزراء المخلوع عادل عبد المهدي استقالته. تلك الاستقالة التي لم تُفرح المحتجين الغارقين في حزنهم على ضحايا الناصرية.
لقد كانت الناصرية هي الأولى بين المحافظات في مسلسل حرق مقار الأحزاب، خاصةً بعد كل عملية قمع يتعرضون لها. والغريب، أن حرق المقار حاز على تأييد شعبي كبير عبر مواقع التواصل الاجتماعي، عكس ما حصل مع البصرة في العام الذي سبق انتفاضة تشرين. بالمقابل، ردّ المسلحون بحرق قلوب العراقيين جميعًا عبر قتل شبابها بدمٍ بارد. الدماء مقابل الأحجار، تلك هي معادلة الأحزاب التي جاءت بها الولايات المتحدة الأمريكية لتؤسس نظامًا ديمقراطيًا.
تُعيد الناصرية الكفة كلما مالت. تدفع الدماء، وترص الصفوف، وتشد الهمم. ويُمكننا القول إن الانتقام من هذه المدينة أصبح منهجًا لبعض الأطراف، فما مرت ثلاثة أسابيع على حرق بعض خيام المعتصمين، حتى جاء فجر الإثنين، 27 كانون الأول/يناير 2020، ليقتحم مسلحون ساحة الحبوبي، مطلقين النار على الشباب، قبل أن يحرقوا العشرات من خيامهم.
تسببت حالة التعاطف الشعبية مع الناصرية بجعلِها عدوةً للسلطة، لكن إقدام المتظاهرين على حرق مقار الأحزاب ليس وحده السبب؛ بل إن الرمزية التي حُظيت بها المدينة ألهمت الناس وصارت مصدر توحد للساحات، وهذا ما يُقلق السلطة: الخوف من الرموز.
تصعيد الانتفاضة
نقطة أخرى، كانت سببًا بهذا العداء، وهي التهديدُ بالتصعيد والقدرةُ عليه، تلك السمات التي امتازت بها الناصرية منذ انطلاق الاحتجاجات؛ فربما هي المدينة الأكثر فاعلية لناحية صنع الحدث على أرض الواقع، وليس في الإعلام.
جاءت مهلة الناصرية، التي انتشر الوسم الخاص بها في أرجاء مواقع التواصل الاجتماعي، وانضمت المحافظات بما فيها بغداد إلى مهلة الأسبوع التي انطلقت من الناصرية لتسمية رئيس وزراء جديد، واستبقت المليونية التي دعا إليها الصدر، وسرقت الأضواء الإعلامية من التحشيد لتظاهرات الجمعة الماضية. وفي ذات الطريقة المُعتادة، تعاملت الأحزاب معها باستخفاف، وقلل المتحدث باسم وزارة الداخلية من أهميتها، وأشار إلى عدم تعامل الأجهزة الأمنية “بجدية” معها، وما إن حل صباح يوم انتهاء المهلة، حتى قُطعت شوارع مهمة في جميع المحافظات المنتفضة.
لدى الناصرية القابلية على التصعيد، والقدرة على التنظيم، والإمكانية الساحرة في استعادة الأنفاس والعودة بعد كل نكسة أو عملية قمع بعد الهجمة على البصرة وبغداد، وحرق الخيام في المدينتين، وتقدم قوات الشغب إلى مواقع يسيطر عليها المتظاهرون، أطلق أحد الناشطين في الناصرية دعوة لزحف مليوني من كافة المحافظات إلى بغداد، وعند أسوار المنطقة الخضراء، وهي دعوةٌ ربما تخلط الأوراق على من يسعى لإنهاء الاحتجاجات، فحتى لو لم يتم تحقيقها بحذافيرها، فأن الدعوة للقدوم إلى بغداد خطوة مقلقة للسلطة الحقيقية: أعني من يتحكم بزمام الأمور، وليس المخلوع.
كانت بعض القوى تُراهن على إرهاب المتظاهرين لإنهاء احتجاجاتهم مستعيرة بقاموس بعض الأنظمة التي واجهت الثورات العربية؛ لكنها لن تنسى أن محاولتها لإنهاء الاحتجاجات في الناصرية تسببت بإنهاء ولاية عبد المهدي، الرئيس المُطيع لأوامر الأقوياء والساكت عن جرائمهم. لن ينسوا ذلك ولن يغفروا للناصرية.
سلمية الانتفاضة
في العراق، هناك كمٌ هائلٌ للسلاح منتشر خارج إطار الدولة، بين ميليشيات وعشائر، في البيوت والمحال، ورغم ذلك، فإن الناصرية كما هي المحافظات الأخرى، اختارت أن تتلقى الرصاص من السلاح المنفلت وغير المنفلت، دون أن ترد عليه. لم تُعطِ الناصرية الشرعية للسلطة لتقمعها وفق القانون، بل أجبرت بسلميتها أن تُرسخ أمرين مهمين على الصعيد الشعبي:
الأول: هو أن السلمية التي كانت شعارًا لشباب تشرين منذ مطالبتهم بإسقاط النظام وقمعهم بالقنص والرصاص الحي، حتى مطالبتهم بالإصلاح وقمعهم بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع التي تُفجّر الرؤوس، وأن هذه السلمية هي السلاح الأقوى، ما أعطى ـ رغم الدماء والشهداء ـ صورةً للمجتمع المحلي والدولي بأن شبابًا عُزّل يتظاهرون بسلمية ويقمعون بوحشية، وكانت الناصرية خير مثال على ذلك.
لقد صنعت السلمية حاجزًا بين فريقين، فريقٌ سلميٌ وطنيٌ يُناضل من أجل الإصلاح، وفريقٌ سلطويٌ وحشيٌ يُناضل من أجل المناصب على حساب أرواح أبناء الوطن.
الثاني: هناك مقاربات دينية مذهبية تُراثية، فانتصار الدم على السيف مقولة شيعية حسينية تُلهب حماس وشجن أبناء الوسط والجنوب حين سماعها، وقد مثّلت الناصرية إحدى جوانبها حين بقيت ساحات الاعتصام صامدة بدماءها رغم القمع والرصاص، وما زاد هذه المقاربات عملية حرق الخيم في ساحة الحبوبي التي تُذكّر بواقعة الطف المزروعة في ذاكرة شيعة العراق على وجه الخصوص.
لا إصلاح.. إذن لا هدوء
لقد جرّت الناصرية الانتفاضة إلى مساحات رغم ألمها، إلا أنها أربكت أحزاب السلطة، وبعثرت أوراقها، وردّت العديد من الرمزيات والطقوس والوقائع التاريخية على “مستثمريها” بشكل عكسي، لتُصبح أيقونة للمجتمع العراقي بكافة أطيافه، بمرّها وملّحها وجرحها.
أبت الناصرية أن تُفارق بغداد، حتى في الشهداء الذين تحولوا رموزًا، فحين كان صفاء هُنا، كان عمر هناك في 2018، كان الحزنُ كل الحزن، أن بغداد لا تُشارك البصرة في احتجاجاتها بالمستوى المطلوب، ثم عادت وفجّرت الانتفاضة في الأسبوع الأول من تشرين الأول؛ لكن الناصرية أبت أن تُفارق العاصمة، حتى في الشهداء الذين تحولوا رموزًا، فحين كان صفاء هُنا، كان عمر هناك.
حالة الهدوء النسبي التي عاشتها مدن وسط وجنوب العراق خلال الأشهر الماضية، بعد الانتفاضة العارمة التي كانت قد شهدتها شوارع وساحات تلك المدن بدءا من تشرين الاول/اكتوبر 2019 وعلى مدى أشهر طويلة بعدها، لا تبدو مع عودة الاضطرابات إلى مدينة الناصرية سوى مجرّد تهدئة ظرفية من قبل المحتجين استعدادا لجولات جديدة من التظاهر والاعتصام يمليها استمرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في البلاد على ما هي عليه من سوء.
وحملت عودةُ الاضطرابات إلى شوارع الناصرية إحدى أكبر معاقل انتفاضة تشرين في العراق، مؤشّرات على استئناف تلك الانتفاضة غير المسبوقة نظرا لعدم تسجيل أي تقدّم نحو تحقيق المطالب التي رُفعت خلالها والتي تدور في مجملها حول الإصلاح وتحسين الأوضاع المعيشية ومحاربة الفساد الحكومي المستشري على أوسع نطاق ومحاسبة قَتَلة المتظاهرين.
ويعكس الوضع في الناصرية المأزق الذي آلت إليه الأوضاع في العراق ككلّ بسبب استعصاء الإصلاح في ظل النظام نفسه القائم على المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية بقيادة أحزاب دينية أظهرت التجربة العملية عدم قدرتها على قيادة الدولة.
ورغم أن الانتفاضة المذكورة أفضت إلى سقوط حكومة رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي ومجيء حكومة جديدة بقيادة مصطفى الكاظمي غير المحسوب ضمن معسكر الأحزاب والقوى السياسية التي حكمت العراق منذ 2003، إلاّ أنّ هامش التحرّك نحو الإصلاح المنشود بدا محدودا للغاية أمام الكاظمي وفريقه نظرا للأوضاع الاقتصادية والمالية بالغة التعقيد، ونظرا أيضا لوجود قوى نافذة من أحزاب فاسدة وميليشيات مسلّحة خارجة عن سيطرة الدولة لكنّها مؤثّرة في قراراتها وسياساتها.
وفي ظلّ هذا الوضع تستمر الهوّة في الاتساع بين رجل الشارع والسلطة وتتحوّل أحيانا إلى حالة من الصدام الدموي على غرار ما هو جار في الناصرية.
وقالت مفوضية حقوق الإنسان العراقية المرتبطة بالبرلمان في بيان إنها رصدت “استخدام الرصاص الحي والغازات المسيلة للدموع والحجارة والآلات الحادة إضافة إلى حرق مبنى المحافظة وغلق جسري الزيتون والكرامة بالإطارات المحروقة، خلال احتجاجات الناصرية”.وحذرت من أنّ “استمرار الانفلات الأمني وعدم معالجة المشاكل المتفاقمة وعدم قيام الحكومة والمؤسسة الأمنية بدورها في حفظ الأمن، ستؤدي بالنتيجة إلى الفوضى واستمرار سقوط عدد كبير من الضحايا”.
ويشكّل سقوط المزيد من القتلى والجرحى في الاحتجاجات الشعبية بالعراق حرجا استثنائيا لحكومة الكاظمي الذي جاء حين تولّى رئاسة الحكومة خلفا لعبدالمهدي بوعود محاسبة قتلة المتظاهرين وإنصاف هؤلاء الضحايا وأسرهم. ولا يقتصر قتل المحتجّين على القوات الأمنية وحدها، بل انخرطت في ذلك ميليشيات شيعية معنية بحماية النظام الذي تقوده أحزاب على صلة بتلك الميليشيات التي قامت أيضا بعمليات تصفية جسدية لعدد من قادة الحراك الاحتجاجي داخل أحيائهم السكنية وفي مواطن تنقّلهم ونشاطهم خارج ساحات التظاهر والاعتصام.
وحاولت الحكومة تهدئة الأوضاع في الناصرية بإيفادها وزير الداخلية عثمان الغانمي ورئيس جهاز الأمن الوطني عبدالغني الأسدي حيث اجتمعا مع زعماء عشائر ذي قار وممثلي المتظاهرين في غياب مسؤولي المحافظة. وبينما تتشبّث قوى سياسية وأحزاب متنفّذة بتنصيب موالين لها في المحافظات العراقية لضمان التحكّم بالدورة الاقتصادية فيها وضبط الأوضاع الأمنية بما يتناسب مع مصالحها، بدأت تسود في محافظات جنوب البلاد حالة من “التمرّد” على المسؤولين المحلّيين المنصّبين من قبل تلك القوى والتوجّه إلى اختيار قيادات محلّية تفرزها ساحات التظاهر والاعتصام.
وتجسّد هذا التوجّه بشكل عملي في محافظة واسط جنوبي العراق حيث أعلن الحراك الشعبي، الخميس، عن تنصيب نبيل شمة محافظا للمدينة، خلفا للمحافظ محمد المياحي المتّهم بالفساد والمسؤولية عن قتل المتظاهرين.