حسين درويش العادلي
تعيش الوطنية العراقية أزمة وجود وتماسك وممانعة وفاعلية، يتجلى ذلك في تعدد رؤى الدولة من قبل نخب الدولة، ويتجلى ذلك في نظرة وتفاعل وولاء مواطني الدولة تجاه الدولة، ويتجلى ذلك في العلاقات التشكيكية التخوينية للقوى السياسية المعنية
بفعل الدولة وبالذات في رؤاها للقضايا السيادية التي تهم الدولة العراقية كدولة.. الأخطر في ذلك كله هو الانقسام العمودي لسلطات الدولة إذ تتنازعها قوى سياسية متنوعة الاتجاهات ومختلفة على صعيد وحدة مشروع الدولة، ويتجلى أيضاً بانقسام وحدة أمة الدولة، فأمة الدولة اليوم عبارة عن أمم شيعية سنية عربية كردية تركمانية.. الخ تستشعر هوياتها وانتماءاتها الفرعية (العرقطائفية) على حساب الهوية الوطنية العراقية، وتتعارض في التوجهات والولاءات والمصالح.
قصور مدرسي نخبوي
أزمة الوطنية العراقية قصور وتقصير سياسي مدرسي نخبوي وليس قصوراً وتقصيراً شعبيا، فتراجع الوطنية كوحدة ولاء ليس قصوراً من مواطني الدولة على الأعم، بل هو نتيجة لفشل مشروع الدولة الوطنية الذي أخفق بخلق أمة دولة، وهو فشل تتحمله معظم المدارس والنخب السياسية العراقية منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، وخلاصة الفشل يتمثل بإنتاج دولة وطنية تخلق وطنية قادرة على التوحد والممانعة تجاه ما يهدد كيانها ووجودها.
المفترض
من المفترض أنَّ الوطنية دالة لوحدة الانتماء الوطني لرعايا الدولة، فجميع رعايا الدولة ممن ينتمون للدولة عضوياً وقانونياً فإنهم يتوحدون بهوية وولاء وطني يميزهم عن مواطني دولة أخرى، ومقولات: حب الوطن، الولاء للوطن، الدفاع عن الوطن.. الخ ما هي إلاّ شواهد الوطنية لمواطني الدولة تجاه وطنهم الذي يعتبر حاضنتهم القانونية والسياسية والمصلحية والسيادية.
متى تتراجع الوطنية
تتراجع الوطنية في ظل الدولة المستبدة المميزة بين مواطنيها القامعة لحقوقهم الفاشلة في تحقيق مصالحهم.. عندها لا يغدو للوطنية من معنى. المواطنة المحجورة والباهتة والمقموعة لا تولد وطنية حية وفاعلة، فعندما تتحول المواطنة في الدولة من علاقة عضوية مفعمة بالحقوق والواجبات ومزدهرة بالحريات والمصالح.. الى مواطنة ناقصة تعرف واجباتها ولا تعرف حقوقها، مفعمة بالذل والامتهان والاستضعاف.. عندها يكفر المواطن بمواطنيته ولا يرى فيها سوى قيداً يسعى للتحرر منه.. فتتراجع الوطنية رويداً رويدا لتضمحل.. فما عسى المواطن أن يفعل بمواطنة الضريبة ومواطنة الاستبعاد ومواطنة الاستبداد ومواطنة الاستعباد؟ وكيف للوطنية أن تخلق والوطن سجن وقيد وإقصاء وتوجيه قسري وذلة مقننة وظلم ممنهج؟ الوطنية تزدهر في أوطان الحرية والحقوق المكفولة والكرامة المصانة والتنمية المستدامة والتقدم المضطرد، وتتراجع لتضمحل في الأوطان التي يأسرها الاستبداد والاستعباد والاستبعاد.. وهذا كان حال المواطنة العراقية زمن البعث المباد، مواطنة لم تعرف غير ضرائب الاستبداد المطلق والتمييز الممنهج والإقصاء المقنن، مواطنة تئن بفعل ضرائب الظلم والحروب والحرمان.
تتراجع الوطنية أيضاً في ظل المواطنة المؤدجلة التي تريد من المواطنين لوناً وقالباً ايديولوجياً واحداً، وكل من هو خارجها فهو خائن!! وتتراجع الوطنية أيضاً في ظل المواطنة المنشطرة على ذاتها بفعل تصدر الانتماءات للهويات العرقطائفية الإثنية التي تمجد الخاص على العام، وتقدم الفرعي على الكلي، وتقيم الاعتراف والمصلحة على أساس من أفكار المكونات لا المواطنين.. عندها لا يعود للوطنية من معنى، فالوطنية غير المشفوعة بالولاء والمصالح العرقطائفية غير معترف بها وهي محل إدانة في عرف مشروع الدولة العرقطائفية… وهذا حال الوطنية في ظل عراق اليوم، فهي وطنية منشطرة على ذاتها تئن بفعل تصدر هويات ومصالح واحتراب المكونات العرقطائفية.
التعويم والاستلاب والتماهي
أكبر خطايا المدارس السياسية العراقية التي أجهضت مشروع الدولة وقتلت أمة الدولة وصادرت بالتبع الوطنية كناتج عن مشروع الدولة/الأمة.. تتمثل بخطيئة: التعويم، التماهي، الاستلاب.. التعويم للوطن، التماهي مع الآخر المفترض، الاستلاب للخصوصية والهوية والمصالح.. فأوجدت مسمى دولة وشبح أمة.
العراق في عرف المدارس السياسية العراقية ليس دولة ذات خصوصية وهوية ومصلحة تامة، بل هو جزء تابع لكل مفترض، والكل المفترض هنا هو: الوطن القومي، الوطن الماركسي، الوطن الديني.. لقد تم تعويم فكرة الوطن لصالح أوطان مفترضة استناداً للرابطة العرقية أو الدينية أو المذهبية أو الأيديولوجية.. فمن الطبيعي أن ترى المصري أو السعودي أو الكويتي أو التركي أو الإيراني أو الروسي.. يتمسك ويفتخر بوطنه ووطنيته.. وهو حرام على العراقي.. فالوطن الأسمى والدولة المؤملة في عرف المدارس المؤدلجة هو: الوطن العربي والأمة العربية والدولة القومية، والوطن الإسلامي والأمة الإسلامية والدولة الإسلامية، الوطن البروليتاري والأممية والدولة الاشتراكية.. الخ. إنه التعويم لفكرة الوطن القائم على أساس من فكرة الدولة/الأمة ذات الخصوصية والهوية والسيادة والمصلحة الوطنية العليا.
التعويم لفكرة الوطن أنتج التماهي للوطن ولجمهور الوطن، فالمطلوب التماهي مع الآخر المفترض على أساس من الهويات العرقية والدينية والمذهبية والأيديولوجية السياسية.. فلا يحق لك التمسك والاعتزاز والدفاع عن وطنك كهوية وسيادة ومصلحة، بل عليك التماهي في أوطان أخرى تنتمي إليها افتراضياً.. والعجيب أنَّ الآخر المفترض (القومي والماركسي والديني) لم يتفاعل يوماً مع العراق والعراقيين إلاّ من منطلق خصوصيته الوطنية ومصالحه السيادية.. هو يعاملك حقوقياً وقانونياً ومصلحياً كأجنبي ليس إلاّ، ويطلب منك أن تعامله كوطن أيديولوجي مفترض الطاعة والولاء!! المطلوب من العراق والعراقي وتحت أي ظرف التعويم لوطنه وهويته ومصالحه وسيادته.. لغرض التماهي مع الآخر القومي والمذهبي والديني والماركسي والأيديولوجي.. والهدف كل الهدف هو الاستلاب، الاستلاب للخصوصية والإرادة والمصالح الوطنية.
أجهضت وطنيتنا بفعل التعويم لمشروع الدولة الوطنية، وأجهضت بفعل الاستبداد والتمييز والإقصاء، وأجهضت بفعل الحرمان والتجهيل والتخلف، وأجهضت بفعل الاحتلالات والتماهيات والاستلابات.. وهي تئن اليوم بفعل غياب تماسك الدولة وتصدع وحدة أمة الدولة، وهي من عطايا النظام الطائفي السياسي.
الوطنية الجريحة
في 2007 كنت مدعواً لمؤتمر في عاصمة النمسا فينا، وبعد المؤتمر تجمع جمهرة من الصحفيين الأجانب، ومنهم صحفي نمساوي أخذ يسألني عن أوضاع العراق وحرب الطوائف التي كانت مستعرة فيه.. سألني وأجبته، وفي نهاية اللقاء سألني عن صفتي، فأجبته.. عن هويتي؟ فقلت له عراقي، فقال سني أم شيعي!!! يا الله… لقد استفزني.. أنا المفجوع بوطني المقموع بوطنيتي منذ أيام صدام السود، واليوم أبحث عنها بين ركام الطوائف وخرائب القوميات.. كيف لهذا أن يقزمني، يقزم وطني وهويتي.. فقلت له: أنت وقح… وهي كلمة كبيرة في عرف آداب الغرب.. سكت الرجل.. وبركاني لم يسكت.. فأخذت رفشة دخان من سكائر غربتي ووجعي.. عندها قال لي الصحفي: سؤالي كان وقحاً، أعترف بذلك.. ولكن متى يتقسم العراق؟
متى يتقسم العراق
سيتقسم العراق ما دام مشروع الدولة الوطنية المدنية غائبا.. سيتقسم العراق ما دامت الوطنية العراقية طريدة مقموعة، سيتقسم العراق ما دامت مناهج التعويم والتماهي والاستلاب قائمة، سيتقسم العراق ما دامت الهويات العرقية الطائفية الإثنية سيدة متسيدة.. الدولة أمة سياسية توحدها المواطنة لا المكوّن، وتقودها الديمقراطية لا التوافقات العرقطائفية، ويدعمها التعايش القابل للاختلاف والتنوع، وتحفظها معايير القانون والنزاهة والكفاءة، وتطورها خطط التنمية وسياسات الرفاه.. الدولة كيان سيادي لا يقبل التعويم لصالح أوطان أخرى، ولا التماهي مع الكينونات الوطنية الأخرى، ولا الاستلاب لصالح مصالح الأمم الأخرى.. الدولة امبراطورية قوانين ومملكة مؤسسات وهرم سياقات لا تؤسس وفق الأمزجة وتتقلب وفق الأهواء وتتشيأ على وفق المصالح الآنية.. الدولة وطن وإنسان وإرادة وسيادة.. الدولة مواطنة ومواطنية ووطنية، الدولة ذاكرة وحاضر ومستقبل.. الدولة أمة وطنية، فإما أن تتوحد الأمة على وفق معايير وطنية تحقق الاعتراف والمصلحة لجميع رعاياها ومكوناتها، وإما أن تنتحر على مذبح الاختلاف.. لتتقسم.. لا سامح الله.