عدنان حسين أحمد–
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية بعنوان “النظام الفدرالي وأبعاده المختلفة في العراق” للدكتور فاروق رضاعة، وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. استهل رضاعة حديثه بتعريف الفدرالية وقال: “إنها نظام للحُكم يتوفر على أبعاد سياسية وثقافية واجتماعية واقتصادية، ويعبِّر عن توجه ديمقراطي يتثمل بحرية الإنسان وحقه في أن يعيش على وفق خصوصياته شرط أن لا يعتدي على حرية الآخرين”. كما ذكر: “أن الفدرالية التي تهدف إلى تحقيق المساواة بين المواطنين تقوم بالأساس على خدمة الإنسان، وتسعى لتطويره في مختلف مجالات الحياة”.
أشار رضاعة إلى أن الفدرالية بالأساس هي تقاسم للسلطة بين حكومة مركزية وحكومة محلية، وتكون العلاقة بين الطرفين محكومة بصلاحيات مختلفة يحددها الدستور.
أعادنا رضاعة إلى مقدمة ابن خلدون التي كتبها قبل “736” عاماً متوقفاً عند مفهوم “العصبية” وأهميتها في الوصول إلى الحكم آنذاك، خاصة في عهد البداوة، حينما كان النسب يعلب دوراً أساسياً في التغلّب على الآخرين، وكانت القبيلة الأكبر والأقوى هي تفرض سيطرتها على بقية القبائل. وذكر في هذا السياق أنواعاً متعددة من العصبيات مثل العصبية القبلية والدينية والطائفية والمهنية وكيفية ظهورها بحسب تطور الإنسان ووضعه الاجتماعي والظروف المحيطة به، ولكن حينما ظهرت “القوانين المدنية” رافقها ظهور عصبية “المواطنة” التي يأمل أن تتيسد على العصبيات الثانوية المُشار إليها سلفا. أوضح المحاضر بأن التعاقد بين الحاكم والمحكوم بوجود دستور تقبل به غالبية السكّان وتعتمده مرجعاً للطرفين لابد أن يفضي بالنتيجة إلى استقرار الوضع في ظل هذه العصبية الجديدة التي أسماها بـ “هُوية المواطنة” التي لا تعني أبداً إهمال العصبيات الأخرى، وإنما تضمن حقوقهم العامة وتتيح لهم حرية العبادة، وحرية الرأي، وتأسيس الأحزاب وغيرها من المظاهر الديمقراطية.
الكونفدرالية
سلّط رضاعة الضوء على الفرق الجوهري بين الفدرالية والكونفدرالية، فهذه الأخيرة لا تمتلك سلطة في المركز لأن كل الحكومات المحلية هي حكومات مركزية، وتمتلك سلطات متكافئة وغير متقاطعة، وقد تشكلت الكونفدرالية نتيجة التقاء مصالح عدد من الدول أو الإمارات المستقلة لأن تعقد تحالفاً بين أطرافها لتكوين كيان سياسي مع احتفاظ كل دولة أو إمارة بصلاحياتها وبرلمانها ولا يجوز التدخل بهذة الصلاحيات أو خرقها من قبل الأطراف الأخرى وساق المُحاضر مثالاً مفاده أن إعلان الحرب من قبل برلمان دولة على أخرى لا يلزم الحكومات الأخرى المتحالفة معها المشاركة في هذه الحرب. اعتبر رضاعة “الاتحاد الأوروبي” كونفدرالياً لأنه قائم بالأساس على مصالح مشتركة بين حكومات متكافئة، ربطتها معاهدات كثيرة مثل الحدود المفتوحة، والعملة الموحدة، والبرلمان الأوروبي. نوّه الدكتور رضاعة بأن الصيغ الدستورية متغيرة وديناميكية تلبي تطور هذه المجتمعات وتقدمها المضطرد فقد تلقى الاتحاد الأوروبي مقترحاً يقضي بوضع ميزانيات الدول الأعضاء في الاتحاد تحت رقابة البنك المركزي الأوروبي. أما الفدرالية في معظم البلدان فهي تتماثل كما يرى د. رضاعة من حيث وجود حكومة مركزية وحكومات محلية وُزعت فيما بينها الصلاحيات على وفق الدستور، كما أنها تتماثل بوجود محكمة دستورية غير خاضة للسلطة التنفيذية ومستقلة عنها، ومحكمة اتحادية فدرالية مستقلة عن السلطة التنفيذية، إضافة إلى وجود جيش وشرطة فدراليين. يفرِّق د. رضاعة بين الدولة الفدرالية والاتحادية، فالأولى هي انضمام مجموعة من الولايات أو الأقاليم في دولة جديدة مثل الولايات المتحدة الأميركية، أما الدولة الاتحادية فهي تنازل السلطة المركزية عن بعض صلاحياتها للولايات والأقاليم كما هو الحال مع بريطانيا. يؤكد د. رضاعة أن ألمانيا كانت إمارات لكنها توحدت لتشكل الدولة الألمانية الفدرالية، وحينما وصل الحكم النازي إلى سُدّة الحُكم ألغى صلاحيات الولايات لمصلحة المركز، وعندما سقط الحُكم النازي أعيدت الصلاحيات للولايات بشكل أوسع من ذي قبل.
يرى د. رضاعة أن معظم الدول في العالم قد لجأت إلى أنموذجين في تقسيم السلطات بين المركز والإقليم، فالأول يحدد سلطات الحكومة المركزية وما تبقى من سلطات يعود إلى سلطة الإقليم مثل الولايات المتحدة الأميركية، أما الثاني فهو يحدد صلاحيات الأقاليم أو الولايات وما تبقى منها يعود للحكومة المركزية كما هو الحال في كندا، ومع ذلك فهناك سلطات مشتركة أو متداخلة بين المركز والإقليم. يؤكد د. رضاعة أن الصلاحيات الحصرية للحكومة الاتحادية في معظم بلدان تتماثل بدرجة أو بأخرى مثل وجود دستور يحدد طبيعة الدولة وتركيبتها، ويفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية، ويوضح معنى التمثيل الخارجي والدولي، ويبين مهام الجيش والشرطة الاتحاديين مع وجود شرطة تابعة للولاية، ويفصِّل قانون الهجرة ومنح المواطنة للقادمين الجدد، ويقِّر ميزانية الدولة والضرائب الاتحادية والمحلية، وينتخب غرفة للسلطة التشريعية من قبل المواطنين، وغرفة ثانية بمثابة مجلس الشيوخ عن طريق الانتخابات، أو التعيين كما في بريطانيا. إضافة إلى تأسيس محكمة دستورية مستقلة عن السلطة التنفيذية، هذا إضافة إلى الصلاحيات المشتركة أو المتداخلة بين الحكومة الفدرالية وحكومات الأقاليم مثل السياسات التعليمية والصحية والمالية والمحافظة على استقلال القضاء وبقية الصلاحيات المشتركة الأخرى، وعلى الرغم من بعض الفروفات في التطبيق من دولة إلى أخرى، إلاّ أن الكثير من الأمور متشابهة بين الفدراليات، وخاصة فيما يتعلق بخضوع القوانين المحلية للقوانين الفدرالية باستثناء “العراق”!
الدستور العراقي
يرى د. رضاعة أن الدستور العراقي قد كُتب على عجالة وذكر العديد من الملاحظات والاعتراضات لكنه توقف عند موضوع الفدرالية في هذا الدستور المفخخ بالمشكلات الأساسية. ذكر المُحاضر بأن بصمات السياسيين قد هيمنت على بصمات الخبراء، ولذلك جاء مشوشاً، وخاصة بصمات تحالف الأحزاب الطائفية الشيعية والحزبين القوميين الكرديين ومن هنا برزت الملابسات التي تخص الفدرالية، فالجانب الطائفي اكتفى بسياسيّيه، ولم يتح لخبراء الدستور فرصة إكمال مهامهم، بينما استعان الجانب الكردي بخبير أميركي في قضايا الدستور، وهو السفير السابق بيتر غالبيرث، الذي وضع كل فقرة من الجانب الكردي بعناية وذكاء واضحين، بينما فاتت على الجانب الطائفي السياسي أموراً عديدة لأنهم كانوا فرحين بديباجة الدستور التي أُعتبرت “أم الديباجات”، لكنها لم تقدِّم للعراقيين إلا المشاكل المحتقنة التي تنفجر بين أوان وآخر. ومن بين النقاط التي توقف عندها المُحاضر المادة الأولى من الباب الأول التي تقول إن “جمهورية العراق دولة اتحادية واحدة مستقلة ذات سيادة”، وقد وضع المشرِّع هنا الدولة الاتحادية بدلاً من الفدرالية على اعتبار أن كردستان العراق كانت مستقلة تحت الحكم الصدامي وانضمت إلى العراق بعد سقوط النظام، وكما ذكر المحُاضر فليس هناك إجماع على الفرق بين الدولة الاتحادية والدولة الفدرالية. ينتقد د. رضاعة بقوة المادة التاسعة من الباب الأول التي تقول: ” تتكوّن القوات المسلحة والأجهزة الأمنية من مكونات الشعب العراقي بما يراعي توازنها وتماثلها بدون تميز الخ” وهذا يعني أن الدستور يتكلم بلغة المكوِّنات والتوازنات، وليس بلغة الشعب! يتساءل رضاعة عن السبب في عدم تشكيل المحكمة الاتحادية بعد مرور أكثر من ست سنوات على إقرار الدستور التي من مهامها تفسير الدستور عند حدوث منازعات حول حقوق الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم خصوصاً فيما يتعلق بالصلاحيات المشتركة. يعتقد د. رضاعة أن دمج القضايا الاقتصادية السيادية مع فقرة السياسة الخارجية والتمثيل الدبلوماسي وما إلى ذلك بأنه مؤشر على أن الدستور لم يكتب من قبل خبراء، ويرى بأن صلاحيات الحكومة المركزية فقيرة وغامضة تحتمل التفسير بينما الدستور الإسباني والهندي قد حددها بعشرات الفقرات، لقد اكتفى قادة الأحزاب الشيعية بالديباجة وفرحوا بها، وغفلوا في نهاية المطاف أسس بناء عراق المواطنة، وليس عراق المكونات. توقف المحاضر طويلاً عند موضوع النفط والغاز الذي أثار العديد من الخلافات التي لا تزال مستعرة بين وزارة النفط وحكومة الإقليم، ويعتقد أن السبب يكمن في غفلة المشرّع العراقي. وفيما يتعلق بالاختصاصات المشتركة بين السلطات الاتحادية وسلطات الاقليم التي تتعلق بالكمارك، وتنظيم مصادر الطاقة الكهربائية وتوزيعها، ورسم سياسات التنمية والتخطيط والصحة والتعليم وغيرها فالأفضلية تكون عادة للحكومة الاتحادية باستثناء الدستور العراقي الذي يفكر بدولة المكونات بدلاً من التفكير بدولة المواطنة. ختم د. رضاعة محاضرته بالقول إن جميع الدساتير تشير إلى أن القوات المسلحة تستطيع الوصول إلى أية منطقة من مناطق البلد إذا اقتضت الحاجة الدفاعية أو حصول الاضطرابات لفرض الأمن إلاّ الدستور العراقي الذي يقِّر بحصول موافقة برلمان الإقليم على دخول الجيش إلى المناطق الكردية. ووصف المُحاضر الدستور العراقي بأنه فاشل ولا يستجيب لمواصفات الدولة الوطنية الفدرالية، ومن الصعوبة بمكان تعديله لأن ذلك يتطلب عدم اعتراض ثلاث محافظات أو أكثر. وخلص المُحاضر إلى القول إن المعطيات الحالية في العراق لا تشير إلى دولة فدرالية، وإنما إلى دولة كونفدرالية متباعدة أكثر مما ينبغي.
وفي نهاية المحاضرة دار حوار طويل بين د. فاروق رضاعة وبين وجمهور مؤسسة الحوار الإنساني ومن بين السائلين والمتداخلين نذكر أميل كوهين، عبد الحسن السعدي، فريد أيار، غسان عبد الأمير الخفاجي، كاميران، ابتسام الظاهر، عبد الرحمن جميل وعبد الرزاق الصافي. وقد أجاب المُحاضر على الأسئلة التي كانت تنهال عليه من كل حدب وصوب لحساسية الموضوع وأهميته لدى الحاضرين.