افتتحت مؤسسة الحوار الانساني موسمها الثقافي الجديد بمحاضرة للدكتور لؤي الخطيب يوم الاربعاء 31 يناير 2018 ،بعنوان (المانفيستو ..خطة للاحياء الوطني)،والمانيفيستو هو وثيقة ولدت نتيجة ثلاث سنوات من البحث والنقاش توجت بعمل مكثف على مدى العام الماضي 2017. قام بكتابتها البروفسور علي عبد الامير علاوي، بمشاورة وتعاون وثيق من المؤلفين المشاركين، د. عباس كاظم ود. لؤي الخطيب.
الدكتور لؤي الخطيب هو المدير المؤسس لمعهد الطاقة العراقي وزميل في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا (نيويورك)، وزميل سابق في السياسات الخارجية بمعهد بروكنجز (واشنطن). حصل على شهادة الدكتوراه في السياسة والاقتصاد من جامعة أكستر بالمملكة المتحدة. تجاوزت خبرته عشرين عاماً في إدارة الأعمال ورسم السياسة العامة من خلال شغله لمناصب إدارية واستشارية عليا في مؤسسات دولية وشركات عالمية في مجال الطاقة والبنوك. وهو الآن بصدد إنجاز كتابين، الاول دراسة مقارنة للأنظمة الاتحادية في رسم سياسات الطاقة، والثاني مراجعة مسيرة العراق الاقتصادية في السياسة النفطية بعد عام ٢٠٠٣. ضيف دائم على كبريات وسائل الإعلام للتعليق على قضايا الطاقة والأمن والاقتصاد والسياسة في الشرق الأوسط. نُشِرَت أعماله في الدوريات والصحف العالمية مثل فورن أفيرز ونيويورك تايمز وناشنال إنترست وهافنغتون بوست وبتروليوم-إيكونومست وبروكنجز وهارفرد وكولومبيا وغيرها.
وقد ابتدأ د. الخطيب محاضرته بتبيان ماهية المانيفيستو وليات العمل التي انتجته فقال؛هذا المانيفيستو نتيجة ثلاث سنوات من البحث والنقاش توجت بعمل مكثف على مدى العام 2017. قام مؤلفه، البروفسور علي علاوي، بمشاورة وتعاون وثيق معنا نحن المؤلفين المشاركين،انا والدكتور عباس كاظم ، بالاتصال والتباحث والنقاش مع قطاعات واسعة من المهتمين بالشأن العراقي وعقدنا سلسلة اجتماعات جادّة وورش عمل وجلسات استشارية مع أشخاص ومجموعات متنوعة داخل وخارج العراق. كان من بين هؤلاء رجال دولة ودبلوماسيون وساسة، وموظفون كبار، ومشرّعون ومتخصصون، وأكاديميون ومفكرون، وأساتذة وطلاب، ورجال و سيدات أعمال ومصرفيون، وكتاب ومبدعون، ورجال دين وقادة مجتمع، وأصحاب مهن وناشطون ونقابيون، وضباط وقضاة، ينحدرون من كل الخلفيات العراقية وتوحدهم رغبة جارفة لرؤية بلدنا يسير على الخط الصحيح وبالاتجاه المطلوب، نحو السلم والأمن والرفاه والعدالة. يرفضون سياسات الانقسام ونعت أيّ من فئات مجتمعنا بصفة العدوّ. لقد اتفق جميع الذين شملهم النقاش على أهمية طرح مشروع متكامل للإصلاح والتغيير في العراق وضرورة طرحه حالاً.
وإننا نثمن ونشكر جميع الملاحظات والأفكار التي تفضل بتقديمها جميع الذين خصصوا جزءاً من وقتهم وطاقتهم لأجل المساعدة في صياغة هذا المانيفيستو بمراحل كتابته العديدة.كما نمد أيدينا إلى جميع الذين يريدون أن يقلبوا صفحة الماضي ويسيروا نحو مستقبل أفضل. لا نهمل معاناة الماضي وآلامه، ولكن لا نريد أن نتقوقع فيه، لأننا مطالبون بالمضيّ قُدماً وعيوننا تنظر إلى المستقبل. يجب أن نسمو فوق مرارة الماضي من خلال خطة عمل مشتركة تكون سماتها التفاؤل والطموح وإمكانية التحقيق.
تمهيد
بعد مرور خمسةَ عشرَ عاماً على غزو واحتلال العراق، يواجه البلدُ الآن اختباراً حاسماً لإثبات قدرتهِ على البقاء. لقد هُـزم داعش بفضل شجاعة وبطولات جميع القوات المنضوية تحت علم العراق، ومقاومة السكان والعشائر، وبفعل شجاعة وتحدي الأفراد والعوائل لتوحش داعش. لكنّه كان نصراً مكلفاً ترك خلفَه عشراتِ الآلاف من القتلى والجرحى، وملايينَ النازحين، الذين يعانون من العيش في ظروف وحشية القسوة، وخراباً عظيماً في المدن والقرى. لقد مكن لهذه المرحلة المفزعة والمأساوية من تاريخنا ليس سوء الإدارة المريع والفساد الهائل اللذينِ كانا ولا يزالان متأصلَينِ في العراق منذ 2003 فحسب، بل تعود جذوره إلى مراحل أبعدَ من ذلك في عهود حكم الطغاة والدكتاتوريات التي رسمتْ مسيرة العقود السابقة.
بقي العراق في أزمة دائمة على مدى أكثر من خمسينَ عاماً عانينا فيها من الانقلابات والحروب والصراعات الداخلية والقتل الجماعي وتعرضنا للحصار والعزلة والغزو والاحتلال وما تبعهما من الهجمات الانتحارية والتفجيرات والتهجير. لقد وجهت جميع أنواع العنف إلى المجتمع بلا هوادة. لم يتمكن أيّ مجتمع من قبل من البقاء بعد أن تعرض إلى هذا الإرث من العنف. تعرض شعبنا إلى شتى أنواع العدوان، وخُربتْ أرضُنا ودُمرتْ مدنُنا وقرانا وتشظّى اقتصاُدنا وجففتْ أنهارُنا ولوّثتْ مياهُنا وأهدرتْ ثرواتُنا الطبيعية ودمّر إرثُنا التاريخيّ والحضاريّ وأهينتْ مقدساتُنا الدينية. أجيال من شبابنا حُكم عليها بالبطالة أو الأعمال غير اللائقة أو تلك التي لا مستقبلَ فيها، يتزاحمونَ في دوائرَ حكوميةٍ تعجّ بالبطالة المقنّعة. حكوماتنا أصبحتْ مصداقاً للضعف وانعدام الكفاءة والكذب والفساد، يقوم عليها أناسٌ غير مؤهلينَ ولا يتمكن من مساءلتِهم أحد. تُنفَق المليارات على مشاريعَ لا تُنفّـذ، أو تنفّـذ بشكل رديء، أو تُترك غيرَ مكتملة. البرامج الاجتماعية التي يراد منها مساعدةُ الفقراء تُنهب بشكل منهجيّ منظم، وعقود شراء الأسلحة تشوبها أعمال الفساد والسمسرةِ والرشوة، أما الخدمات الحكومية في قطاعات الكهرباء والتعليم والصحة والبنى التحتية فتكاد لا تذكر، في حين يتعذر على العراقيين السكن اللائق ويعاني شعبنا من نقص حادّ في عدد المساكن، وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار المساكن العشوائية والتجاوز على الأراضي العامة وبناء البيوت غير المرخصة التي لا تتوفر فيها أبسط شروط السلامة والأمان. بيئتُنا في خطر والتصحّر يتّسع بلا رحمة.
تسود في العراق الفوضى السياسية والتشظّي، في حين أصبح الاعتداء على الناس والجشع والعنف وغياب الأخلاق وانعدام الوفاء صفاتٍ سائدةً في سياستنا التي هبطتْ إلى مستوى جعلها مهنةً غير محترمة يحتقرها شعبُنا. قنوات البثّ الإعلامي ومواقع التواصل الاجتماعي تملؤها الأكاذيب وحملات التسقيط، والأحزاب السياسية قد أصبحت وسائلَ لتفخيم الأفراد والعائلات. أحزاب أخرى خذلتْ المبادئ التي تأسستْ عليها من أجل الثراء والسلطة. غالبية الأحزاب اليوم ليست سوى ماكناتٍ لتوزيع الهباتِ والمحسوبية التي أغرقتْ البلد بجيوش من غير الأكفاء. أما الجهات المعارضة لفوضى ما بعد 2003 فإن غالبيتها تتخفى خلف قناع خطاب المقاومة، لكنها في الحقيقة تلتزم نهج العنف والقتل وتسعى إلى إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، رافضةً أن تعترف بدورها في سقوط البلد. ومع أنّ التدخّل الخارجيّ في شؤون البلد كان ولا يزال علنياً، لكنّ التواطؤَ المكشوفَ والمقرفَ من قبل قادتنا السياسيين هو أسوأ ما في هذا التدخل. لقد أصبحتْ عواصم الدول القريبة من العراق مراتعَ لاجتماع الذين يحكمون بلدنا، أو الذين حكموه سابقاً، أو الذين يريدون أن يحكموه. وبعيداً عن العراق تتآمر الدول العظمى ودول المنطقة، أو تتمنى أن تضع وسم امتلاكها للعراق. لا يزال مستقبلُنا يناقَش في مؤتمراتٍ عالميةٍ في أماكنَ بعيدةٍ عنا، في حين يظلّ اقتصادُنا رهناً بأيدي الجهات الدائنة والمؤسسات المصرفية العالمية.
لا يزال علماؤنا وخيرة مفكرينا بين مستهدفين بالاغتيال أو مطرودين الى المنافي، وثقافتنا عقيمة وكثير من فنانينا الموهوبين وكتابنا في منافي فرضوها على أنفسهم أو في عزلة فرضها القرف واليأس. وثمّةَ آخرون من النخبة لا يُغفر لهم أنهم أضافوا المزيد إلى كمّ الكراهية المسمومة التي تكاد تدمر قدرتنا على التعايش ككيان متجانس. هؤلاء الذي يدّعون كونَهم مفكرين قد عملوا بلا هوادة من أجل تدمير وسائل التفاهم بين مكونات شعبنا. فهم، وإن ادّعوا السعي إلى تصحيح الأخطاء، قد شوهوا واختزلوا وأضعفوا المبادئ التي كانوا يوماً ما يمثلونها. لقد حولوا القصص المؤلمة عن الظلم والتمييز إلى أدوات للمصالح الأنانية الخاصة بمجموعة سياسية أو اجتماعية دون غيرها. لقد شُوهتْ تلك المراحل من تاريخنا المشترك واستُغلتْ من قبل أناس عديمي النزاهة في سعيهم المحموم من أجل الانتفاع والسلطة.
تنوعنا الإنساني جرى تقويضُه إذْ حَجبتْ أنظمة ما قبل العام 2003 الجنسيةَ المستحقة عن مئات الآلاف من الناس وسفّرتْ فئاتٍ كاملةً من العراقيين على أسس واهية ودفعتْ بالملايين إلى المنافي، وقُتلتْ أعداد كبيرة من الناس دون تمييز ومُلئتْ المقابر الجماعية بأجساد مئات آلاف الأبرياء.
يستمرّ نظام ما بعد 2003 بالقيام على الكراهية المجتمعية وتهميش مجاميعَ كاملةٍ من الشعب، في حين لا تزال الأعمال الشنيعة التي كانت الدولة ترتكبها تُرتكب اليوم من قبل مجاميعَ غيرِ مرتبطة بالدولة، وإرهابيين، وعصابات الجريمة المنظمة، ومجاميعَ عسكريةٍ خارجةٍ عن سيطرة الدولة. لا تزال ثمّةَ أعداد غير مقبولة يُدفع بها إلى الخارج أو تحاول الخروجَ من البلد. الأقليات والشباب وأعداد كبيرة أخرى ممن يرون أنّ الدولةَ ومؤسساتِها منحازةٌ ضدَّهم لا يرون لأنفسهم مستقبلاً في البلد. أما ملايين العراقيين في الخارج، وهم ثروة هامة لإعادة إعمار البلد، فقد جرى تجاهلُهم تماماً، تراهم يشاهدون هذه الدراما تدور أمامهم وهم في قلق وتوجس.
لقد وقف أكثر مراجع الدين بشجاعة ضدّ مدّ الفوضى والعنف ودعوا إلى الاعتدال وضبط النفس والوحدة وتغليب العقل، لكنّ أصواتهم ضاعت غالباً في صخب أجندات مختلفة يشيطن كل منها الآخر وتحاول أن توظّف الإحساسَ العامّ بالمظلومية إلى إجازة للمصادرة والقتل، فحرّفتْ تعاليم الدين إلى ضدّها، وكانت النتائج كارثية في حين اختُلقتْ تبريرات دينية للإبادة والعنف المتطرف والوحشية وتقسيم المجتمع وكثير من أنماط السلوك الكريهة الأخرى. لا يتوقّع لهذا الأمر من نتائج سوى عزوف الناس عن الدين وفقدان قيمنا الأخلاقية.
يجب أن ينتهي هذا الظرف
لقد حرم شعبنا من الأمل بحياة كريمة وأهدرت طاقاته وإمكانات تقدمه وخفض سقف مستقبل أبنائه بسبب نظام حكم وحشي. هذا الأمر غير مقبول من قبل أبناء هذه الأرض الموغلة في الإرث الحضاري. يستحق شعبنا مستقبلاً أفضل، ويجب أن يناله.
إننا نستقبل الآن انتخابات مفصلية وهامة جداً لاختيار مجلس وطني ومجالس محلية في المحافظات، لا يمكن أن نرى فرصة أهم وأفضل لاتخاذ القرار الصحيح. يجب أن نسأل أنفسنا بصراحة عمّن نكون وإلى أين نتجه. هل نحن شعب واحد أم شعوب عديدة؟ هل سنستمر في انتخاب أولئك الذين وضعوا مصالحهم الخاصة ومصالح أحزابهم قبل واجباتهم المدنية والوطنية؟ هل سنسمح لساستنا ورموز حكومتنا الكبار باستغلال أقنعة الاختلافات والخلافات الطائفية والعرقية للتغطية على فسادهم وانعدام كفاءتهم؟ هل نستطيع أن ندع مستقبلنا ومستقبل أبنائنا وأحفادنا ليكون رهناً لدى مجاميع وأحزاب سياسية لا تخدم إلا مصالحها، وغالباً ما تعمل ضمن إطار أجندات أجنبية؟ هل ستستمر مؤسساتنا الحكومية، الضعيفة أصلاً، في التدهور بسبب سلوك وتخبط عدد قليل من الأفراد والمصالح الضيقة؟ هل سندع ثرواتنا الطبيعية، خصوصاً الثروات الهايدروكاربونية، تهدر وتسرق في حين أن القنبلة الموقوتة لانتهاء عصر النفط تدق؟ هل لدى الأشخاص الذين في السلطة، أو الذين يحلمون بها، حد أدنى من الاطلاع على كيفية الخروج من المشاكل التي تحيط ببلدنا وشعبنا، باستثناء ما لديهم من ادعاءات فارغة ووعود كاذبة؟
لذلك تكاتفنا، انطلاقاً من حرصنا على مستقبل البلد والوجهة التي يسير إليها، من أجل أن نوضح مبادئَ وأهدافاً تضع العراق على طريق جديد تماماً.
السلام، الاستقرار، الأمن، الرفاه
هذا الإعلان هو خارطة طريق لمعالجة المصاعب التي نواجهها، وتقديم رؤية لمستقبل بلدنا في السنوات العشر القادمة، رؤية تليق بالشعب العظيم الذي يعيش على هذه الأرض وتقدم طريقاً واضحاً نحو الأمن والرفاه لأبنائنا وأحفادنا. إنها رؤية نحو تأسيس حكومة فاعلة تستجيب لحاجات الشعب وتكون مسؤولة أمامه. هي رؤية نحو النمو والشراكة والأخوة والعدالة وتوفير الفرص، رؤية لعراق موحد بقيم مشتركة ويترك وراءه أسباب الانقسام والصراع القديم. هي رؤية لعراق مستقل فخور بتعدديته يكون مركزاً للأمن والسلام في الشرق الأوسط، عراق يكون شريكاً بناءً للمجتمع الدولي. هي رؤية لمجتمع يعيش بعيداً عن الإهانة التي تسببها البطالة والفقر والأمية ومساوئ الحكم والحياة في بيئة مسلوبة الأمن والحقوق والحريات. هي رؤية لشعب يعيش بكرامة.
هذا المانيفيستو هو خطة للإحياء الوطني
نعتقد أن مشاكل العراق الكبرى تنبع من الفقر وسوء استخدام السلطة وتهدم قيمنا الفردية والاجتماعية. لا يمكن لمجتمع أن ينمو إذا سمح لأسس السلوك الإنساني أن تتدهور، فالثقة والنزاهة والصراحة والعدل صفات غاية في الأهمية وضرورات لوجود كيان سياسي سليم ومجتمع فاعل. في نهاية المطاف، هذه الصفات هي صفات أخلاقية، ولا بدّ لنا من إعادة إحياء الجذور الأخلاقية لمجتمعنا، كما يجب أن نستحضر تراث العراق الغني والعميق في تدينه وإنسانيته لهذه الغاية، فلا يمكن أن يجري إحياء الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية من دون البدء بالإحياء الأخلاقي. هذا ما سينعكس من خلال نوعية قيادتنا وفي نوعية مؤسساتنا.
ما هي رؤيتنا؟
نبدأ بالوحدات الأساسية لبناء مجتمعنا: الفرد والأسرة والمجتمع الذي تتكون منه مناطقنا ومدننا وقرانا. نحترم جميع الهويات والولاءات الأخرى لشعبنا كالعشيرة والقومية والديانة والطائفة والمعتقد الفكري، ولكن اهتمامنا ينصبّ على الإنسان بأبسط مستويات إنسانيته، فالإنسان في بلدنا هو الذي يُضحى به دائماً على مذبح الأجندات الكبرى، وهو الذي يدفع الثمن غالياً بسبب التجارب الفاشلة في الماضي والحاضر فيقتل أو يترك بلا مأوى وبلا عمل ويعاني من أجل أبسط أنواع الحياة الكريمة.
نسعى إلى تحقيق السلام في بلد لا يتفشى فيه العنف وغياب سلطة القانون.
نسعى إلى تحقيق الرفاه في بلد تتوفر فيه الفرص الاقتصادية ويُحكم بشكل صحيح من خلال سياسات اقتصادية واجتماعية فاعلة.
في السنوات العشرين القادمة، أو ما يعادل جيلاً واحداً، تسعى رؤيتنا هذه إلى أن يرتقي العراق إلى مصاف الدول المتطورة. يجب أن نطمح إلى أن نكون دولة متطورة على طريقتنا من خلال الاستفادة من معايير الدول المتقدمة دون أن نستنسخها بالضرورة. يجب أن تتضمن مسيرة تطورنا جميع الأبعاد الممكنة للحياة: الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والروحية والنفسية والثقافية. ويجب أن نكون بلداً تام التطور من حيث الوحدة الوطنية والتجانس الاجتماعي ومن حيث الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي ونظام الدولة ومستوى المعيشة ومن حيث القيم الروحية والشعور الوطني والثقة. ولا بدّ من أن يكون دستورنا ونظامنا السياسي مصادر للاستقرار والمرونة والقدرة على الاستمرار، ويكون مجتمعنا مؤسساً على القواعد الأخلاقية التي توارثناها، ويجب أن نقوي ديمقراطيتنا ونتبنى القيم المتأصلة في ثقافتنا الدينية والأخلاقية: قيم الانفتاح والتسامح والتعاطف وتأسيس نظام اقتصادي واجتماعي عادل. يجب أن يكون اقتصادنا فاعلاً ومتنوعاً ومنافساً ومستقراً، ويجب أن يُخَرِج نظامنا التعليمي أجيالاً متنورة مندفعة ومبدعة، ويجب أن يقدم نظامنا الصحي كل ما يحتاجه المجتمع القوي السليم.
التحديات العشرون
نحن ندرك أنّ الإرهاب لم يهزم تماماً بجميع أنواعه، فالإرهاب هو أكثر من مجرد تحدّ، بل هو تهديد لوجود العراق ولا يمكننا أبداً أن نتراخى في مواجهته. ما لم نتمكن من السيطرة على الإرهاب وهزيمته تماماً لا يمكن لنا أن نكون جادين في طرح رؤيتنا لمستقبل العراق.
كما ندرك أن القوات الأمنية يجب أن تسلح من جديد ويعاد تشكيلها لتتمكن من الاستمرار في مواجهة التهديدات الداخلية والخارجية. لكن قتال الإرهاب لا يمكن أن يكون عذراً لوجود حكومة ضعيفة وفاسدة، ولا يمكن أن يستخدم لتبرير عسكرة المجتمع وإخضاع مجتمعات ومكونات عراقية معينة وشيطنتها. فنحن نؤمن بأن مكافحة الإرهاب لا يمكن أن تكون عملية عسكرية فحسب، لأن داعش اكتسحت ثلث مساحة العراق، ليس بسبب قدراتها العسكرية أو تفوقها في التنظيم والتسليح، بل لأن القوات العسكرية التي واجهتها في البدء لم تكن تحت توجيهات صحيحة ولم تكن مندفعة للقتال ولم تكن قيادتها الميدانية في المستوى المطلوب وكانت تفتقد الحرفية والعقيدة العسكرية لمواجهة عدو عقائدي. لقد كانت قواتنا الأمنية أكثر عددا من داعش وكان تسليحها ومعداتها أفضل بكثير، فقد أنفقت مليارات الدولارات على هذه القوات منذ العام 2003. يجب أن تؤخذ الدروس من هذه الكارثة ويجب أن يحاسب المسؤولون على التسبب فيها، سواء كانت مسؤوليتهم مباشرة أو غير مباشرة. لقد نجحت داعش والمجاميع الارهابية أيضاً، لأن فئات عراقية ومناطق هامة لم تكن على وئام مع الحكومة الاتحادية فجرى استدراجهم إلى تأييد داعش بعقائد ووعود مزيفة، لم يعرف زيفها إلا بعد فوات الأوان.
لقد أعطيت تشكيلات المقاتلين الذين تطوعوا للدفاع عن العراق ضد داعش صفة رسمية تقريباً، وهذا قرار سليم ومرحّب به، لأنهم يستحقون التكريم والإشادة على دورهم الأساس في الحرب على الإرهاب. لكن مهمتهم المستقبلية يجب أن تعرّف بوضوح، كما يجب أن تكون قيادتهم شفافة وتكون عقيدتهم العسكرية محددة. نحن نرى أن يكونوا قوة دائمة للتصدي لتهديد الإرهاب ولتدريب القوات المحلية وتقديم الدعم الاستشاري لها.
يجب أن ينتهي شر الإرهاب، وهذه ضرورة وطنية لا محل للمساومة والتأويل فيها. ومع ذلك فإننا لا نزال نواجه تحديات عظيمة واختبارات صعبة لتحقيق رؤيتنا. وهذه التحديات قد تراكمت منذ أن أصبح العراق دولة في العام 1920.
التحدي الأول هو تحديد نوع الدولة والأمة التي نأمل في أن نكون. لقد جرب العراق أشكالاً متعددة من الأنظمة والهويات التي حددت توجه الدولة، لم يصمد أيّ منها لاختبار الزمن. فقد كانت لنا ثمانية أعلام منذ تأسيس الدولة في 1920، وخمسة أعياد وطنية. أما الموازنة بين مركزية الحكم والمشاركة في السلطات بين العاصمة والمحافظات، وبين الإقليم الذي يتمتع بحكم ذاتي والمركز، وبين الفيدرالية والكونفيدرالية، فلم تتحقق. لا يزال المأزق ماثلاً أمامنا في اختيار كون العراق شعباً واحداً أو شعوباً متعددة، ودولة واحدة أو خليطاً غير مستقر من ثلاثة مكونات رئيسية، ولا يزال الاختلاف عليه حاداً ودون بوادر حل في الأفق المنظور. لكن الرؤية النهائية، على أي حال، يجب أن تكون لدولة تتمتع بالسلم الأهلي، موحدة الأرض، تكون فيها شراكة تامة وعادلة بين جميع مواطنيها. هذا الأمر يتطلب بالضرورة أن يعترف جميع المواطنين بأن ولاءهم الأخير هو لهذه الدولة. يجب أن نستوعب أنْ لا يكون ثمة انتماء قومي أو عرقي أو ديني أو فكري يتمكن من فرض نفسه من جانب واحد على البلد دون أن يتسبب ذلك في ضرر عظيم لرفاه وأمن المواطنين الآخرين الذين لا يشتركون في هذا الإنتماء.
التحدي الثاني هو تدهور المؤسسات الرسمية وأليات العمل الحكومي، فقد بنت الدولة قابلياتها على مدى نصف قرن بعد تشكيل الدولة العراقية الحديثة، ولكن هذه القابليات جرى تشويهها بعد فرض نظام شمولي اختص فيه حزب واحد مع جهازه الأمني والعسكري بكل الامتيازات. ثم تسارع بعد ذلك تدهور الدولة خلال فترة الحصار الاقتصادي واشتدّت سرعة هذا التدهور بشكل أكبر في مرحلة ما بعد العام 2003، فأصبحت لدينا الآن فجوة هائلة بين قدرات الحكومة ومتطلبات نشوء الدولة الحديثة الفاعلة. أنظمتنا الحكومية وسياقات عملها قديمة، وإداراتنا وكوادرها عديمة الكفاءة بشكل كبير في حين هجر العراق معظم أصحاب الكفاءات والمهارات في جميع أشكالها.
التحدي الثالث هو تكوين هوية وطنية ووعي وطني يتجاوزان بالعراق والعراقيين الخلافات السياسة والصراعات العرقية والطائفية. هذا الوعي والهوية الوطنية سيتجاوزان الإحساس بالانتماءات الضيقة للقبيلة والطائفة والجماعة القومية، ولكن دون إلغاء هذه الانتماءات أو تهميشها. هذه الهوية تؤسس على التراث المشترك للعراقيين وذاكرتهم التي شكلتها الحضارات التي نشأت على أرض الرافدين. إن التنوع الإيجابي والتعددية لبلدنا يمكن أن يتحولا إلى أدوات للتفرقة والصراع واستغلال الجهات الخارجية لها ما لم تتوفر للعراقيين هوية وطنية مشتركة. لقد اعتمدت الدولة العراقية لمدى طويل على أجندات وفرت الامتيازات المطلقة لهويات معينة تمتد إلى خارج حدود العراق في حين أضعفت أواصر الولاء للعراق وقوضت تجانسه الاجتماعي.
التحدي الرابع هو إعادة بناء مجتمعنا بعد عقود من المعاناة والعنف ووضعه على طريق التسامح وحسن الجوار وطيّ صفحة الماضي والثقة والاحترام المتبادل. لا ننكر أن التفكك الاجتماعي والتكتلات الطائفية والقومية قد بلغت مراحل متقدمة في مجتمعنا، ولكن يجب أن نتغلب عليها من خلال الجهد المكثف واستحداث برنامج وطني يتجه بثبات نحو المستقبل. لقد توترت حياة عوائلنا كثيراً بسبب العدد الهائل من الأرامل والأيتام والجرحى والمعاقين الذين يعانون من الأزمات النفسية. النساء، وهن نصف مجتمعنا، لم يزلن يعانين من المعاملة غير المتكافئة على الرغم من وجود الضمانات الدستورية. لقد عانين من درجات غير مقبولة من التمييز والعنف وهن اليوم يفتقدن إلى الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. الأقليات في مجتمعنا لا تزال تفتقر إلى الحقوق أيضاً، إذ يجري تهميش أفرادها واستهدافهم في حين لا تزال مواطنتهم موضع جدل واعتراض حيث أنّ عدداً كبيراً منهم غادر العراق بشكل نهائي مما أدى إلى أن تصبح الأقليات العرقية والدينية في العراق مهددة بخطر الزوال التام.
التحدي الخامس هو خلق ثقافة سياسية جديدة تمد جذورها في العادات والممارسات الديمقراطية والأخلاقيات والقيم والمقاييس المتأصلة في عاداتنا ومعتقداتنا وموروثنا الروحي العراقي. إن الديمقراطية هي سيادة القانون والعدالة في تعامل الدولة مع المواطنين وخضوع الطبقات السياسية والإدارية للرقابة والمساءلة وعدم انحياز القضاء والإسراع في إجراءات تطبيق العدالة والانتخابات الشفافة والحرة ووجود وسائل الإعلام المسؤولة والمهنية. الديمقراطية هي أيضاً التوازن بين سلطات الدولة والسلطات الأخرى التي تقابلها وتعادلها، خصوصا تلك السلطات التي يتمتع بها المجتمع المدني، وعادات وسلوك الأفراد والجماعات. وحين تسعى تلك السلطات التي تقابل سلطة الدولة إلى تغليب الاعتدال والمساواة وقبول الآراء المخالفة، تتقلص حينذاك ميول الدولة نحو السلطوية وتعتدل في الاتجاه الصحيح.
التحدي السادس هو تقليص ومن ثمّ إنهاء مستويات العنف المأساوية التي يواجهها شعبنا. إن وجود كمّ هائل من الأسلحة الفتاكة في أيدي مجموعات وأفراد من كافة الخلفيات الاجتماعية هو أمر غير مقبول في أي مجتمع سليم ومنظم يعتمد سيادة القانون. يجب أن يقضى على تمجيد العنف والتفاخر باستخدام القوة في الثقافة العامة لمجتمعنا ويجب أن تتوقف ثقافة حمل السلاح للحمايات الشخصية واستعراض الهيبة بالقوة. رؤيتنا تؤكد على عراق يكون فيه حمل السلاح وامتلاكه حقاً حصرياً للدولة وأجهزتها الشرعية التي تكون مسؤولة أمام المؤسسات السياسية المنتخبة. إن نزع السلاح واستعادته من الأفراد والمجموعات المسلحة جزء أساس من رؤيتنا لعراق مستقر وآمن.
التحدي السابع هو إصلاح النظام القضائي، إذ يجب أن توفر انسيابية للإجراءات القضائية التي أرهقها تراكم القوانين والتعليمات على مدى العقود الماضية والتي تساهم في انعدام كفاءة الحكومة وتساعد في قوة تأثير السلطة التنفيذية وضعف الرقابة عليها وعلى العمل القضائي. لا ينبغي للقضاة الذين يشرفون على النظام القضائي أن يكونوا مدربين بشكل صحيح ويمتلكون الكفاءة فحسب، وإنما يجب أن تتمثل فيهم حقيقة سيادة القانون. يجب أن يكون للعراق نظام قضائي يليق بدولة راقية وشعب متطور يحترم القانون. أن القضاء النزيه والفاعل هو الذي سيقف في المقدمة للتصدي لمستويات الفساد البشعة وسوء استغلال السلطة ويضمن تطبيق القانون على الجميع.
التحدي الثامن هو تكوين مجتمع مرفّه يكون اقتصاده منافساً وفاعلاً ورصيناً ومستقراً. تتلخص رؤيتنا في اقتصاد متوازن يبتعد عن الاعتماد الكامل على عائدات المنتجات البترولية، بل يكون اقتصاداً يتميز بقطاع خاص قوي وماهر، ويرتبط بالاقتصاد الإقليمي والعالمي وينفتح على اقتصاديات التجارة والاستثمار العالمية. رؤيتنا في هذا الصدد تتركز على اقتصاد يعتمد على الموارد البشرية العراقية تتوفر فيه قوة عمل عالية التعليم والتدريب والمهارة وتتمتع بانضباط تسنده أخلاق مهنية عالية، ويتمكن من اللحاق بآخر تطورات التكنولوجيا وأساليب إدارة عناصر الإنتاج. يجب علينا أن نربط تطور العلم والتكنولوجيا في العالم مع نسيج المجتمع العراقي واقتصاده ونظامه الحكومي. رؤيتنا تعتمد عراقاً لن يكون مستهلكاً للعلم والتكنولوجيا، بل موظفاً إياها في خدمة مواطنيه من أجل رفاهيتهم وضمان حقوقهم وتوسعة قدرتهم على الاختيار في ما يستهلكون ويقتنون.
التحدي التاسع هو القضاء على الفساد الذي أصبح أمراً يهدد بقاء الأمة والدولة في العراق. لقد ذهب الفساد إلى مديات أبعد من العواقب الاقتصادية في تشويه المعاملات المالية ورفع كلفتها، بل تسرب إلى الجسد السياسي العراقي ليسممه ويحرف نزاهة النظام السياسي والأنظمة الاجتماعية ويقوض بنيتها الأساسية، ويدمر نوعية العلاقات الإنسانية في المجتمع. وما لم يسيطر عليه، فإنّ الفساد سيدمر في نهاية الأمر الرؤية المستقبلية لإحياء البلد.
التحدي العاشر هو تأسيس مجتمع تسود فيه العدالة الاقتصادية، مجتمع تتوزع فيه الثروة القومية بعدالة وتتوفر فيه شراكة تامة في التقدم الاقتصادي. إذ لا يمكن للرؤية الوطنية أن تتحقق إذا كانت شرائح كاملة من المجتمع لا تتمتع بجزء من ثمار النمو الاقتصادي أو إذا كانت منافع إحياء البلد تذهب إلى القلة القليلة. يجب أن يوضع حد لوجود قطاع منتفع وآخر محروم، وأن تنتهي حالة ضمان العمل في القطاع العام وضبابية مستقبل العمل وامتيازاته في القطاع الخاص. لا بدّ لطبقتنا المتوسطة، التي كادت الحروب والحصار الاقتصادي أن تقضي عليها، من أن تدعم وتحتضن لتمارس دورها الأساس في خلق التوازن المجتمعي والنهوض بالبلد.
التحدي الحادي عشر يتمثل في إيجاد التوازن بين مسؤوليات الدولة ومسؤوليات الفرد والأسرة والمجتمع المدني. لا يمكن لقواعد المجتمع المتكافل أن تسند إلى الدولة أو إلى الفرد. يجب على العراقيين أن يتوقفوا عن التفكير في كون الدولة هي المصدر الوحيد لخلق فرص العمل والضمان الاجتماعي والامتيازات، أو أنها المصدر الأساس في ذلك. إذ لا يمكن للضمان الاجتماعي أن يعتمد تماماً على قدرة الدولة وحدها، بل يجب أيضاَ أن تساهم في توفيره جهود الأفراد وأن يبنى على التماسك الأسري، وبعد ذلك كله، على جهود مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات التطوعية والتعاونية. رؤيتنا في هذا الأمر تعتمد على إيجاد مؤسسات أساسية فاعلة تقدم الخدمات وتساهم في توفير الضمان الاجتماعي، فلا يعتمد توفير الخدمات الاجتماعية على الحكومة وحدها دون مساهمة الجهات المدنية المختلفة.
التحدي الثاني عشر هو إعادة الحياة إلى مدننا ومحافظاتنا. رؤيتنا في هذا الصدد تعتمد على خلق مدن نشطة تعمل على دفع حركة التغيير الاقتصادي وخلق الفرص للجميع وتكون أساساً للعراق الجديد. يجب أن تستعيد مدن العراق التاريخية دورها المحوري في الحياة الاقتصادية والثقافية والروحية لمجتمعنا وتعمل كقاعدة لربط العراق بدول الجوار. يمكن لمدننا أن تستعيد دورها التاريخي لنقاط وصل للتجارة البرية والبحرية عبر شبكات التجارة الإقليمية والدولية بصورة تتلاءم مع متطلبات القرن الحادي والعشرين وتربط آسيا مع أوربا والشرق الأوسط.
التحدي الثالث عشر هو إعادة أهمية القطاع الزراعي العراقي وقدرته على الإنتاج وإدارة مواردنا المائية الشحيحة بكفاءة. لا يفترض بالقطاع الريفي أن يقدم مستوى معيشة مناسبة للعاملين في الزراعة فحسب، بل يجب أن يلعب دوره المطلوب في مجال إنتاج الطعام والأمن الغذائي. إن الاقتصاد الريفي القوي يشكل أساساً صلباً لنمو وتطور قطاع الأعمال الزراعية وقطاع الصناعات الغذائية ويوفر الاستقرار للمجتمع الريفي ويعكس الهجرة من الريف إلى المدن.
التحدي الرابع عشر يتمثل في إدارة النمو السكاني في العراق، إذ يمكن لثمار التغيير الاقتصادي والنمو أن ترتقي بنموّ سكاني خارج السيطرة. يزداد عدد سكان العراق في الوقت الحاضر بدرجة مثيرة للقلق، ويمكن أن يشكل هذا الأمر ضغطاً كبيراً على تطور الاقتصاد وحماية البيئة الطبيعية والصناعية، ففي حين يكون ارتفاع عدد شبابنا حالياً عاملاً مساعداً على النمو الاقتصادي السريع، يجب علينا أن ندفع بالهرم السكاني إلى شكل طبيعي وقابل للاستمرار والاستقرار على المدى البعيد. لذلك تتمثل رؤيتنا في خلق بلد تتوازن فيه متطلبات الاقتصاد ومتطلبات المجتمع السليم وضرورات توازن وأمان العائلة.
التحدي الخامس عشر هو حشد شبابنا في بناء الدولة. العراق بلد يشكل الشباب الغالبية العظمى من شعبه، وقد مرّ شبابنا بفترات عصيبة من العنف والصعاب، وشبّ معظمهم دون أن يتعايشوا أو يعرفوا الكثير عن غيرهم من شباب بلدهم الذين ينتمون إلى خلفيات اجتماعية وقومية ومناطقية مختلفة. لقد سيطر الملل والقلق واليأس على كثير من الشباب وهو الأمر الذي أدى إلى انتشار تعاطي المخدرات والجريمة وجنوح الأحداث. ومن أجل مواجهة هذا التحدي ندعو إلى الشروع في برنامج خدمة مدنية وطني واتخاذ الخطوات اللازمة للحد من هذه الظواهر من خلال إشراك الشباب في فعاليات مصممة بكفاءة وحرفية تتضمن التأكيد على خدمة المجتمع وإعادة البناء.
التحدي السادس عشر هو تحدي استعادة السيادة التامة على أرضنا وثرواتنا الطبيعية. رؤيتنا تتمثل في عراق لا يخضع للتدخل المباشر أو غير المباشر في شؤونه الداخلية من قبل القوى الخارجية. ومن أجل ذلك، يجب أن يتبع العراق سياسة يسير على “الاتجاهات الأربعة للبوصلة”. سنسعى للحصول على الدعم الكامل والتعاون التام من قبل جميع دول الجوار الذين تشير إليهم الاتجاهات الأربعة للبوصلة وكذلك دعم وتعاون بقية دول المنطقة والقوى العالمية خارج جوارنا المباشر. ولتحقيق ذلك يجب أن تكون لنا سياسة خارجية تتناسب وهذا الهدف وتؤسس ستراتيجياً لجعله واقعاً. يجب أن يكون دبلوماسيونا وإدارة علاقاتنا الخارجية تحت قيادات خبيرة وعالية الكفاءة وأن يتمكنوا من تنفيذ هذه السياسة الطموحة. لقد عانت دبلوماسيتنا من عثرات كبيرة على الصعيدين الإقليمي والخارجي واتصفت بانعدام الكفاءة وغياب الرصانة والشفافية، في حين تزدحم إداراتنا ومؤسساتنا الدبلوماسية اليوم بدبلوماسيين أغرار غير مؤهلين أو مدربين بشكل مناسب، وقد عيّن معظمهم وفقاً للانتماءات الحزبية والقرابة الشخصية مع ساسة ومتنفذين في الدولة والمجتمع. سفاراتنا اليوم موضع تندر واستهزاء الجميع، في أغلب الأحيان، إذ يكاد بعضها لا يتمكن من تقديم أدنى المهمات الدبلوماسية والخدمات للمواطنين العراقيين في الخارج، وكثير من موظفي السفارات، خصوصاً في العواصم الكبرى، لا يمتلكون المهارات اللغوية فضلاً عن المهارات الدبلوماسية.
التحدي السابع عشر هو تشكيل منظومة أمنية ودفاعية واقتصادية لدول منطقة الشرق الأوسط وما وراء ذلك في منظومة الدول الإسلامية. لقد أثبتت المؤسسات القائمة حالياً عدم كفاءتها وغياب فعليتها في إيجاد حلول للصراعات أو منع حدوثها. تعتمد رؤيتنا في هذا الأمر على فكرة أن تكون المنطقة خالية تدريجياً من النزاعات العسكرية وسائرة على طريق التعاون في مجالات الأمن ومكافحة الإرهاب. نحن نعتقد أن أمن المنطقة أمر يختص بتوفيره مواطنو دولها حصراً، كما نعتقد بأن الأمن الوطني والرفاه لدول منطقة الشرق الأوسط يمكن له أن يشهد قوة واستقراراً كبيرين من خلال التقارب والتكامل المستمر والاعتماد المتبادل بين اقتصادات دول المنطقة وتجارتها ووسائل نقلها وقطاع الطاقة كل منها فيها. ولتحقيق هذه الأهداف نرى أن يسعى العراق إلى تشكيل مؤسسات جديدة أو القيام بإصلاح جذري عميق للمؤسسات القائمة حالياً في مجالات الأمن والدفاع والتحالفات الاقتصادية.
التحدي الثامن عشر يتمثل في رفع مستويات ومعايير التعليم الأساسي والتعليم العالي في العراق. لقد تمتع العراق سابقاً بمستويات تعليمية جعلته محط إعجاب الكثيرين، كما انخفضت فيه مستويات الأمية إلى درجات كبيرة، واستمر هذا الأمر حتى ثمانينيات القرن العشرين. ثم بدأ تدهور التعليم بعد ذلك ودخل في نفق مظلم حتى أصبحنا اليوم نعاني من ظروف تعليمية قاسية ودرجات فشل كبير في منافسة دول كانت تطمح قبل عقود قليلة للحاق بالعراق. من بين تحديات هذا القطاع الهام انعدام الكفاءة لدى الكوادر التعليمية وكثرة تسرب وغياب الطلاب من الدرس وازدحام الطلاب في صفوف الدراسة بشكل غير مقبول وانتشار الأمية المقنّعة وتدهور البنية التحتية للمدارس وفشل أساليب الامتحانات ومقاييس التقييم وتفشي حالات الغش. هذا الركام الهائل من المشاكل يقوم عليه نظام تعليمي متضخم في بيروقراطيته وموظفون لا يمكلون الدوافع للإخلاص والعمل المنتج ولا يتمتعون بأدنى درجات الكفاءة، الأمر الذي جعل العراق يقبع في ذيل القوائم العالمية لتقييم نوعية ومستويات التعليم. لا يمكن لهذا الأمر أن يستمر أو أن يكون مقبولاً. إن العامل المشترك لجميع الدول التي نجحت في الإفلات من كهف التخلف والالتحاق بالعالم المتقدم هو تركيزها القوي على قطاع التعليم وإنفاقها الموارد اللازمة لتطويره. يجب أن يعاد التفكير في التعليم العراقي برمته وتطوير نظام تعليمي يضمن محواً كاملاً للأمية وتقديم مستوى ممتاز من التعليم في كافة المراحل الدراسية، وهذا يتطلب رفع المستويات التدريسية واعتماد مناهج وكتب دراسية متطورة وبناء مدارس كافية ووفقاً للمقاييس العالمية واعتماد أساليب اختبار صحيحة وجادة بالإضافة إلى تهيئة كادر إداري مؤهل ومخلص ومدرب على أحدث الأساليب الإدارية وتقنياتها يمكنه أن يصنع النتائج التي نسعى إلى تحقيقها.
التحدي التاسع عشر هو وقف التدهور البيئي في العراق ومن ثَمّ عكس هذا التدهور. إن العراق الذي ننشده هو البلد الذي يبنى على أساس من تكوينه الطبيعي والجغرافي كبلد يتمتع بالجمال ويكون العيش فيه ممتعاً. رؤيتنا هي إيجاد أنهار نظيفة وهواء نظيف وبيئة محمية ومدن خضراء ومساحات مشجرة في المدن وإعادة الغابات وتجديد وتوسعة بساتين نخيلنا التي أتلفها الإهمال.
التحدي العشرون هو إعادة إحياء حياتنا الثقافية والفنية وحماية إرثنا الحضاري. يجب أن يحظى الكتاب والشعراء والمعماريون وجميع أصحاب المواهب الأخرى بالاحترام والمكانة المتميزة في العراق. ليس من مهام الدولة أن تدير أعمال الفنان أو أن تفرض محتوى هذه الأعمال، بل مسؤوليتنا هي خلق بيئة تبرز أفضل مواهبنا الفنية إلى مركز دائرة الضوء وتمكنها من الإبداع.
ما هي الأهداف التي وضعناها لرؤيتنا حتى سنة 2028؟
مجموعة الأهداف الأولى تتعلق برؤيتنا لشكل الدولة
لم تكن التحديات التي ذكرناها هنا مرتبة بحسب أهميتها وأولويتها بالضرورة، لكن لا شكّ في أن التحدي الأكثر أهمية من الناحية الستراتيجية هو التحدي الأول الخاص بهوية العراق كدولة، فهذا الأمر هو اللبنة الأولى التي تنبثق منها جميع العناصر الأخرى. هذه الرؤية يجب أن تدور حول عراق تترسخ ملامحه بوضوح.
هذا هو الشكل السياسي والدستوري للدولة العراقية
في العام 2003 انتهت الدولة العراقية التي تأسست في العام 1920 بعد أن مرت بأشكال عدة هي الملكية والجمهورية والحكم العسكري ودولة الحزب الواحد، وأخيراً، الأنظمة الطغيانية. أما الدولة الثانية، التي تأسست بعد العام 2003، فلم تستطع أن تحقق الاستقرار المطلوب والأمن والقبول لتتمكن من أن تدعي لنفسها الشرعية الممنوحة لها من جميع المواطنين.
لقد أقرّ دستور العام 2005 في استفتاء صوت فيه بالعدد المطلوب لاعتباره نافذاً، ولكنه كتب في ظروف غلب فيها النزاع والأخطار والعنف. ورغم أنه يتضمن مبادئ جديرة بالإعجاب تضمن الحقوق والحريات الفردية والاجتماعية، إلا أنه لم يكن يمثل “الاتفاق العظيم” بين المكونات العراقية المختلفة كما كان يمكن له أن يصبح لو عمل القائمون عليه من أجل ذلك. لكن الدستور قد رفض، كلياً أو جزئياً، من قبل شرائح هامة من الشعب العراقي، فالذين رفضوه كلياً يدعون بأن الدستور قد أثرت فيه قوى أجنبية ولذلك لم يكن دستوراً عراقياً خالصاً، ويؤسسون مقالتهم هذه على أن القانون الذي سبق الدستور وكان ممهداً له، “قانون إدارة الدولة المؤقت” الذي تأسس عليه الدستور الحالي قد كتب في وقت كان العراق فيه تحت الاحتلال المباشر. وآخرون يرون أن الدستور منحاز كثيراً إلى حماية حقوق ومصالح مجموعات معينة وأوجد نظاماً إدارياً يشوبه الكثير من التناقض وترك مسائل عصية على الحلّ ومعوقات أمام تكوين دولة حديثة فاعلة موحدة.
لقد كانت النتيجة مثيرة للقلق
ليس العراق دولة مركزية بشكل كامل لأن الحكم الذاتي الذي تتمتع به حكومة إقليم كردستان يحجب هذه الإمكانية، فلا يمكن لدولة ما أن تكون مركزية في حين يقع ثلث سكانها ومساحتها تحت حزمة مختلفة من القوانين والتعليمات.
والعراق ليس دولة فيدرالية لأن السلطة التي تمارسها بغداد على المحافظات والحكومات المحلية تحجب هذه الإمكانية أيضاً، فلا يمكن لدولة ما أن تكون فيدرالية ما لم تكن ثمّةَ سلطات واسعة وإمكانات مادية تعطى للحكومات المحلية من خلال هيكلية لا مركزية.
والعراق ليس اتحاداً كونفيدرالياً، لأن العلاقة بين حكومة كردستان والمركز ليست مصممة على نمط دولتين لكل منهما سيادة خاصة بها، وهذا أيضاً يحجب إمكانية أن يكون العراق اتحاداً كونفيدرالياً.
إننا نؤمن بأن الهيكلية الجديدة للدولة العراقية يجب أن تتطور، آخذين بنظر الاعتبار ميول الكرد وتبعاتها على الدولة العراقية الجديدة. فنتائج مساعي الكرد وتبعاتها ستكون جذرية وسوف تتطلب كتابة دستور جديد من قبل هيأة دستورية منتخبة تدعمها هيأة مستشارين من المحامين والخبراء الدستوريين.
نعتقد أن الدستور الجديد يجب أن يأخذ في الحسبان الأمور الآتية على أقل تقدير:
• إزالة التناقضات في الدستور الحالي والمواد التي لا داعي لوجودها فيه.
• المحافظة على المواد المؤسسة للديمقراطية والحقوق والحريات في الدستور الحالي.
• تحديد وضع إقليم كردستان داخل العراق بشكل واضح وغير قابل للتأويل. لقد رفض استفتاء الانفصال عن العراق الذي أجرته حكومة الإقليم في 25 أيلول 2017، كما أصدرت المحكمة الإتحادية العراقية العليا قراراً بإلغائه.
• التأسيس لمبادئ اللامركزية وإعطاء السلطات المناسبة للحكومات المحلية في المحافظات والمدن.
• التأسيس لمبدأ الفيدرالية المالية.
• التأسيس لمبدأ أنّ لكل عراقي حقاً في الثروات الطبيعية للبلد من خلال إقرار ضمان مستوى الدخل الأدنى.
• إقرار مبدأ الوحدات الانتخابية كأساس للانتخابات البرلمانية العامة.
• أن يكون منصب رئيس الدولة منصباً منتخباً من الشعب بصورة مباشرة وبصلاحيات تنفيذية.
• ضمان واجب الدولة في حماية جميع الأديان.
• ضمان دعم الدولة وتبنيها لهوية إسلامية متسامحة عابرة للطوائف.
• ضمان قيام الدولة بمكافحة التمييز على أساس العرق أو الدين أو الطائفة أو الجنس.
مجموعة الأهداف الثانية تتعلق برؤيتنا للاقتصاد
إن تكوين بلد مرفّه يحتم علينا أن نتبنى أهدافاً طموحة وواقعية في الوقت ذاته. يجب علينا من الآن إلى العام 2028 أن نضاعف دخلنا القومي ليكون 500 مليار دولار أميركي وهذا تقدير يحفه الكثير من التفاؤل بلا شك، لكننا يجب أن نضع لأنفسنا أهدافاً كبيرة إذا أردنا أن نحفز أنفسنا للعمل باجتهاد كبير. ستكون هذه مهمة صعبة للغاية وسوف تتخلل مسيرتها نقاط ارتفاع وانخفاض كثيرة، خاصة وأن علينا أن نجري تغييرات قاسية في جميع النواحي الاقتصادية والاجتماعية. لقد حقق العراق هذا الهدف في فترات الهدوء النسبي والاستقرار السياسي، بل وتجاوزه أحياناً، في الخمسينيات والستينيات وجزء من السبعينيات من القرن الماضي، على سبيل المثال. فإذا نجحنا في تحقيق هذه الأهداف الطموحة، وحافظنا على نسبة واطئة من النمو السكاني، بما يعادل 2% سنوياً مثلاً، سيكون ما يمتلكه العراقيون في العام 2028 ضعف ما لديهم الآن. هذا هو مقياس المجتمع المرفه الذي نطمح إلى تحقيقه ونتمنى أن ننجح في سعينا هذا.
يجب أن يكون اقتصادنا منافساً وقادراً على أن يحافظ على استقراره واستمراريته على المدى البعيد. يجب أن يتكيف مع التغيرات المتوقعة في أسواق الطاقة العالمية واحتمال انتهاء عهد البترول. ومن أجل النجاح يجب أن يتحول اقتصاد العراق في اتجاه القطاعات الصناعية والتحويلية، وفي قطاعات النقل والخدمات، وفي اتجاه تبنّي أكثر الوسائل التكنولوجية والمعلوماتية المطلوبة. يجب علينا دعم القطاع الخاص والأعمال غير الحكومية وخلق بيئة تدعم وتشجع وتدفع في اتجاه الإبداع والاستثمار في هذا المجال الهام. كما يجب أن نستغل موقع العراق المتميز كنقطة وصل بين الحضارات وخطوط التجارة ونفتح أبواب بلدنا لرياح التغيير التكنولوجي. ففي عالم تكون فيه نوعية الموارد البشرية مفتاحاً للتطور والرفاه سيكون أداؤنا معتمداً تماماً على مهارة وكفاءة قوتنا العاملة وكوادرنا الإدارية. ويجب أن تكون أخلاق العمل لدينا في أعلى درجات الرصانة وأن تكون قدرتنا الإنتاجية عالية ودائمة الارتفاع.
لا يمكن للقطاع الخاص في العراق أن يكون محركاً للتغيير والنموّ إذا لم تكن لديه الكفاءة والقدرة على المنافسة وإذا كان معتمداً على الدولة من أجل الاستمرار. كثير من رجال الأعمال ورجال المصارف يعيشون اليوم على عقود وبرامج حكومية يشوبها الفساد. لا يمكن لهذا الحال أن يكون أساساً لتطوير قطاع خاص فعال وقوي ونزيه وكفوء. إن الأعمال الحرة لا تعني التمتع بإمكانية الغش والاستغلال من دون أدنى اهتمام بالمصلحة العامة وحاجات الاقتصاد الأساسية. يجب على رجال الأعمال لدينا أن يمتلكوا إحساساً بالمسؤولية العملية وشعوراً بالواجب المهني وأن يفهموا دورهم الأساس في تكوين اقتصاد صحي وسليم. لا يمكن أن نتصور دوراً كبيراً ورائداً للقطاع الخاص إذا كان المبدأ الوحيد هو الحصول على أعظم قدر ممكن من الربح. يجب ألا يفكر رجال الأعمال في العراق في مصالحهم الضيقة فحسب، بل عليهم التفكير في مصلحة البلد على المدى البعيد أيضاً. يجب أن يؤسس القطاع الخاص لعلاقات مع المجتمع الاستثماري الخارجي من أجل بناء مصالح مشتركة وشراكات عملية، وهذا الأمر سيزيد من حجم الاستثمارات المباشرة في العراق ويجلب للبلد ما يحتاجه من التكنولوجيا ويربطه بالأسواق العالمية ويأتي بأفضل المعايير والممارسات العالمية إلى العراق. كما يقع على عاتق قطاعنا الخاص دور آخر غاية في الأهمية هو العمل على تدريب وتهيئة القوة العاملة ورفع نوعية المهارات لديها.
وفي الوقت ذاته يجب على الحكومة أن تخلق بيئة مساعدة للقطاع الخاص لكي ينمو. إذ لا يمكن للقطاع الخاص أن ينتعش وينمو إذا خنق بقوانين وتعليمات معرقلة وغير ضرورية ومدمرة. يعاني رجال الأعمال لدينا من مضايقات من أجهزة بيروقراطية غالباً ما تكون عدائية وغير متعاطفة وغير متفهمة لاحتياجاتهم. وهم يتعرضون أيضاً إلى الابتزاز واشتراط الرشوة والعمولات، ليس من قبل الموظفين فحسب بل والساسة أيضاً.
يجب أن تكون العلاقة بين القطاع العام والقطاع الخاص بعيدة عن الاعتماد الطفيلي للقطاع الخاص على الدولة، بل نرى أن يكون ثمة نوع جديد من التعاون بين القطاعين يتجلى من خلال تشجيع الشراكة بينهما في البنية التحتية وفي مجال تقديم الخدمات البلدية. ومع الاعتراف بأن بعض تفاصيل هذه الشراكة لا يمكن شرعنتها، وقد لا يكون منتجاً، إلا أن تفاصيل الشراكة التي يمكن أن تكون منتجة لا بدّ من اعتمادها وتشجيعها على أساس تنافسي وضمن نطاق يتسم بالمسؤولية ويخضع للرقابة والتقييم.
على أقل تقدير، يجب أن تكون الأهداف الاقتصادية الكبيرة التي وضعناها لأنفسنا ضمن نطاق تعهداتنا الدولية في الوقت الذي تكون فيه ملبية لمتطلبات رؤيتنا الوطنية. كما يجب أن يعيد العراق تأكيده على تعهداته للأهداف الألفية للتنمية التي حددتها الأمم المتحدة ويتجاوزها إذا أمكن ذلك. لكن علينا أن نضيف مقاييسنا الوطنية الخاصة للنجاح بالإضافة إلى أهداف الأمم المتحدة ومعاييرها.
لقد جرب العراقيون أنواعاً عديدة من الأنماط والستراتيجيات والسياسات الاقتصادية، وقد توقف معظمها مع حدوث تغيير للنظام السياسي الذي تبناه أو بسبب صدمات خارجية، فقد كانت خمسينيات القرن الماضي فترة للنمو الاقتصادي السريع الذي غذاه ارتفاع عوائد البترول، فحدثت التنمية في نطاق اقتصاد ليبرالي منفتح، إلى حد ما، تميز بازدياد دخل الدولة وباستثمار في البنية التحتية. ثم أتت ثورة 1958 بتبعات اقتصادية هامة، خصوصاً ما حدث من تغييرات جذرية في القطاع الزراعي. وشهدت ستينيات القرن تأسيس اقتصاد اشتراكي من خلال حملة واسعة من قرارات التأميم وتقليص فعاليات القطاع الخاص في مرحلة سياسية عصيبة وتزامناً مع الحرب بين العرب وإسرائيل في العام 1967. أما عقد السبعينيات فقد شهد توسعاً في ملكية الدولة وتأميم الصناعة النفطية وزيادة عظيمة في التوظيف لدى الدولة مع تحسن اقتصادي كبير نتيجة لارتفاع غير مسبوق في العائدات النفطية التي تلقتها خزينة الدولة. وفي عقد الثمانينيات بدأت الحرب بين العراق وإيران مما حتم خلق اقتصاد حربي وتحمل ديون خارجية ضخمة من أجل إدامة الحرب. تبع ذلك عقد التسعينيات الذي بدأ بغزو واحتلال الكويت وما أعقبه من صعوبات اقتصادية دامت لعقد من الزمن تفاقم فيها التضخم بشكل خطير وهوى الدخل الفردي إلى مستويات حرجة وتفشت البطالة ونشأ اقتصاد الحصار في ظلّ عقوبات اقتصادية دولية خانقة.
بعد التغيير الكبير في العام 2003 لم تُستَحدَث ستراتيجيات وسياسات مؤثرة وواعية لإعادة إعمار العراق وتنميته، فتميزت السياسات الاقتصادية بالضعف والتناقض وكانت ارتجالية انتهازية يسود فيها العمل للمدى القصير ولم تتسم بالنضج والكفاءة اللازمة. حاولت القوة المحتلة أن تفرض نوعاً من الصدمة الاقتصادية من خلال برامج للخصخصة واعتماد الليبرالية الاقتصادية لكن ذلك كله قد هجر سريعاً وتبعته فوضى اقتصادية كبيرة. ثم تبع ذلك ما سمي بـ”العقد الدولي مع العراق”، وهو جهد سعى إلى ربط العراق بالمجتمع الدولي ادّعى أنه سيؤدي إلى تشكيل رؤية مشتركة وسبل تقود إلى إصلاح الاقتصاد العراقي. كما قدمت مؤسسات عديدة تابعة للأمم المتحدة وكذلك البنك الدولي وصندوق النقد الدولي وصفات إصلاحية لبعض القطاعات الاقتصادية في العراق، توّج ذلك كله بما عرف بالتشخيص الشامل للاقتصاد العراقي الذي طرحه البنك الدولي في العام 2017. لم ينفذ من كل برامج الإصلاح والتغيير هذه سوى النزر اليسير، ولم يتحقق من أهدافها بعدُ ما يستحق الذكر.
كما أطلقت وزارة التخطيط خطتين كل منها لأربع سنوات (2010 إلى 2014 و2013 إلى 2017). ورغم أنهما اتسمتا بقدر كبير من الواقعية وفهماً عميقاً لاقتصاد عراقي فاعل أبداه المهنيون في وزارة التخطيط، إلا أن النتائج كانت ضعيفة. فقد انحرفت هذه الخطط بسبب غزو داعش الذي تزامن مع تهاوي عائدات النفط، فلم تعد هاتان الخطتان صالحتين لنؤسس عليهما سياسات لإعادة بناء الاقتصاد العراقي. إضافة إلى ذلك فقد فشلت الخطتان في التركيز على الضعف المؤسساتي ومشكلة الفساد والاقتصاد السياسي المتهالك في العراق.
إن الرؤية التي نقترحها للاقتصاد لا تنبثق من فراغ، بل هي مؤسسة على العمل الذي أجرته وزارة التخطيط ووزارات عراقية أخرى، بالإضافة إلى عمل المؤسسات التنموية العالمية. لكننا صممنا رؤيتنا ضمن سياق يقوم على منهج إصلاحي سياسي ومؤسساتي، وهذان شريكان أساسيان لأي نجاح في تطبيق رؤيتنا هذه. وقد أوضحنا أيضاً ستراتيجية جريئة لنقل الاقتصاد العراقي إلى وضع يمكنه من النهوض بمتطلبات رؤيتنا هذه.
ما الذي نريد تحقيقه، وما هي أهدافنا للعام 2028؟
• نهدف إلى إنهاء الفقر التام في جميع أنحاء العراق. ولكن، مبدئياً، وبحلول العام 2028، سنسعى جاهدين لتقليل نسبة الفقر التام إلى أقل من 10%.
• نسعى إلى توفير فرص عمل مجزية والحفاظ على توفرها، خصوصاً لجيل الشباب، ونهدف إلى خفض نسبة البطالة إلى ما دون الـ 5% من القوة العاملة الفاعلة بحلول العام 2028.
• نسعى إلى تحسين مستوى المعيشة للمواطنين العراقيين، من خلال رفع دخل الفرد إلى 10 آلاف دولار، أو ضعف المستوى الحالي بحلول العام 2028.
• نسعى إلى تنمية الاقتصاد العراقي بدرجة تحقق احتياجاتنا الاجتماعية والاقتصادية لتكون نسبة النمو في الناتج المحلي 8% سنوياً خلال الفترة المقبلة حتى العام 2028.
• نسعى إلى تنويع الاقتصاد والابتعاد عن الاعتماد التام على عوائد تصدير البترول. هدفنا هو رفع نسبة القطاع غير النفطي إلى 60% بحلول العام 2028.
• نسعى إلى رفع قيمة الأعمال في مجال الطاقة إلى الحد الأقصى بحلول العام 2028، من خلال تحقيق مستوى إنتاج بمعدل 10 مليون برميل نفط يومياً و 8 مليار قدم مكعب يومياً من الغاز ومليون ونصف برميل من المشتقات النفطية يومياً و40 غيغا واط من الطاقة الكهربائية ومليوني طن من البتروكيمياويات سنوياً.
• نسعى إلى تقليص الفجوة الهائلة في الظروف الاجتماعية والاقتصادية بين مناطق العراق المختلفة من خلال رفع نسب الاستهلاك للمناطق الأكثر فقراً إلى المعدل الوطني بحلول العام 2028.
• نسعى إلى موازنة الاقتصاد العراقي وتوجيهه إلى الاعتماد على القطاع الخاص من خلال رفع حصته إلى 65% من الناتج المحلي بحلول العام 2028.
• نسعى إلى إعطاء الأولوية للإعمار وتطوير البنية التحتية والحفاظ على نسبة استثمار لا تقل عن 30% من النائج المحلي في الفترة التي تنتهي بحلول العام 2028.
• نسعى إلى الحفاظ على استقرار الأسعار خلال عملية الإعمار والتنمية من خلال الحفاظ على نسبة التضخم تحت 3% سنوياً مع نسبة مسيطر عليها من سعر العملة في الفترة التي تنتهي بحلول العام 2028.
ما هي الستراتيجيات التي سنتبعها لتحقيق رؤيتنا؟
• علاقة اقتصادية ستراتيجية مع الاقتصادات الفاعلة في آسيا.
• توجه اقتصادي ستراتيجي تجاه توسع التجارة والاستثمار الاقليميين.
• ستراتيجية تركز على النقل ودور المراكز الحضرية والتمدن، مؤسسة على توسعة وتطوير البنية التحتية والروابط الإقليمية.
• جهد ضخم في مجالي القطاع العام والخاص لزيادة الوحدات السكنية.
• دفع قوي في اتجاه الصناعات البتروكيمياوية وصناعات الطاقة ذات القيمة المضافة.
• تشجيع تكوين نطاق واسع من الأعمال المرتبطة بالزراعة والشركات التجارية.
• تكوين شبكة من مناطق الأعمال الخاصة ومناطق التجارة الحرة ومناطق الصناعة المرتبطة بالطاقة في المدن الرئيسية.
• إعادة تنظيم التعليم الأساسي والثانوي من أجل خلق خط آخر من الأكاديميات التي تعتمد الكفاءة والنتائج أساساً لتقييمها.
• خلق خط أعلى من مؤسسات التعليم العالي والمتخصص التي تستطيع تحقيق مستوى عالمي ومكانة دولية متقدمة.
• إصلاح ودمج القطاع المصرفي في مصارف قليلة تعتمد الملكية المشتركة.
• إصلاح التمويل العام ونظام الموازنة العامة لضمان الدقة والمسؤولية المالية والكفاءة والسيطرة التامة والكشف المالي وسهولة انسيابية المعلومات.
• إصلاح النظام الضريبي المباشر وغير المباشر لضمان العدالة الضريبية والجباية والاكتفاء مع الحفاظ على دوافع العمل.
• مراجعة وإصلاح شروط التوظيف ومستوياته والتدريب والمهارات والرواتب والامتيازات لموظفي القطاع العام والخدمة المدنية.
• مراجعة جميع برامج المساعدات الاجتماعية وأشكال دعم السلع والخدمات ودراسة الحاجة إليها والنظر في إمكانية استبدالها بنظام الدخل العام.
• تشجيع الادخار وحسابات التقاعد من خلال صندوق النقد الوطني الإلزامي مما يوفر مورداً هاماً للاستثمار في القطاعين العام والخاص.
• إعادة هيكلة أسواق الادخار لتمويل شراء المنازل والاقتراض لهذا الغرض.
• إعادة هيكلة مؤسسات السوق المالية وتقويتها وزيادة صلاحياتها، بما في ذلك سوق الأسهم العراقية.
• تأسيس مجلس الإعمار المستقل وإعطائه صلاحية تصميم وتنفيذ المشاريع الستراتيجية.
• تأسيس المصرف الوطني لإعادة الإعمار والتنمية.
• تأسيس الصندوق الوطني للاستثمار لإيداع الأصول الخاصة بالمشاريع الستراتيجية والمشاريع المشتركة مع الشركات المحلية والأجنبية.
• تأسيس هيأة للسياسات الاقتصادية الوطنية تتألف من أكاديميين وخبراء يساندهم فريق من المستشارين الأجانب من ذوي الخبرة.
• تأسيس مجلس الطاقة الاتحادي الذي يرسم الستراتيجيات والسياسات لقطاع الطاقة.
• تأسيس هيأة السياسات الاجتماعية الوطنية لرسم وتحديد الأهداف الاجتماعية، بما في ذلك تحولات الدخل.
• ترشيق وترشيد عدد الوزارات والمؤسسات الحكومية، خصوصاً تلك التي تشرف على قطاع الطاقة.
• إعادة هيكلة جميع المؤسسات الاقتصادية المملوكة للدولة وتحويلها إلى شركات عامة مساهمة ممولة بشكل مستقل وعاملة وفقاً لمبادئ التجارة والسوق.
• خلق كادر عالي التدريب والمهارة من المسؤولين الإداريين غير المرتبطين سياسياً.
• تأسيس المعهد الوطني للإدارة لتدريب كبار موظفي الخدمة المدنية وأولئك الذين يتوقع لهم الارتقاء إلى مناصب قيادية في الدولة.
• إصلاح قضائي وإداري شامل من أجل تقليص القوانين والتعليمات الحكومية المعرقلة لقطاع الأعمال والاستثمار، بما في ذلك الاستثمار الأجنبي.
مجموعة الأهداف الثالثة تتعلق برؤيتنا لبناء مؤسساتنا
إن التدهور والانحلال والتدمير الذي حل بمؤسسات العراق قد وصل إلى مراحل متقدمة، وقد بدأ واستمر بتسارع شديد خلال السنوات الخمسين الماضية، وربما قبل ذلك، وكان شاملاً لجميع المؤسسات بدءاً من الوحدات الأساسية للحكومة والإدارة، إلى القضاء، مروراً بالأنظمة التعليمية والمؤسسات الأمنية والعسكرية. هذا التدهور قد امتد أيضاً خارج الحكومة إلى مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني بما فيها النقابات والجمعيات المهنية والتعاونيات والمؤسسات الدينية. ثمّ وصل التدهور والتراجع المستمر إلى طبيعة ونوعية العلاقات والمعاملات الشخصية في المجتمع. إن الثقة والعدالة والنزاهة وحسن الجوار وغيرها من الصفات المدنية هامة جداً وضرورية في تكوين مجتمعات ونظم اقتصادية ناجحة. إنها القواعد الأساسية الرسمية وغير الرسمية التي تدير المجتمعات بواسطتها جميع شؤونها. لكنها قد طرحت جانباً في بلدنا خلال عقود من الدكتاتورية والفوضى والصراع المدني. لا يمكن أن نتصور مسيرة تنموية من دون استعادة هذه القيم الشخصية والمجتمعية الهامة.
ما هي أهدافنا للعام 2028؟
• نسعى إلى إعادة توجية آليات الحكومة في جميع المستويات لتتلاءم مع تحديات وتعقيدات القرن الحادي والعشرين الاقتصادية والاجتماعية.
• نسعى إلى إعادة هيكلة الحكومات الاتحادية والمحلية لإدارة ولتقديم خدمات فاعلة وعادلة وذات كفاءة وخالية من العراقيل والفساد.
• نسعى إلى إصلاح الإدارة القضائية لضمان توفير العدل دون انحياز، مع نزاهة وكفاءة في العمل وسرعة في الإجراءات.
• نسعى إلى إعادة تنظيم قواتنا الأمنية لضمان المهنية والكفاءة والعقيدة العسكرية الدفاعية الصحيحة.
• نسعى إلى إعادة هيكلة نظام إدارة العلاقات الخارجية للعراق وأساليب بناء السياسة الخارجية، بما في ذلك أساليب اختيار وتدريب الدبلوماسيين والإشراف على عملهم.
• نسعى إلى إعادة تنظيم أجهزتنا الأمنية للتأكيد على الكفاءة والفاعلية وسرعة الاستجابة وضمان مساهمة وتعاون المجتمع معها وتقوية الرقابة عليها.
• نسعى إلى إعادة هيكلة مؤسساتنا التعليمية في جميع مستوياتها للتأكيد على النوعية والعمق وتقوية القيم والتأكيد على الهدف من العملية التعليمية في بناء الدولة والمجتمع.
• نسعى إلى تشجيع ودعم منظمات العمل التطوعي والتعاوني والديني في تقديم الخدمات الاجتماعية بدلاً من الدولة أينما كان ذلك مناسباً.
• نسعى إلى تقوية مجتمع قائم على القيم العليا من خلال جهد وطني إعلامي وتعليمي وإرشادي بالتعاون مع جميع المؤسسات المتخصصة في هذا المجال.
الفساد هو الخطر العظيم الذي تسرب إلى أعماق الدولة والمجتمع العراقي، فأصبح الناس يرونه، وهم محقون، بأنه التحدي الأخطر الذي يواجهه بلدنا. يستحق الفساد حزمة من الأهداف والستراتيجيات المصممة بعناية والتي تجعل من مكافحته أولوية وطنية. يجب أن يقلل الفساد إلى أدنى حد تمهيداً للقضاء نهائياً على تأثيراته السامة على البلد.
هدفنا هو أن نقلص الفساد بكل أشكاله المالية والإدارية والسياسية إلى مستوى يوازي ما هو موجود في الدول المتطورة بحلول العام 2028.
• نسعى أيضاً إلى رفع ترتيب العراق في قائمة منظمة الشفافية العالمية من مرتبته الحالية (162 من بين 168 بلداً) إلى ترتيب 30 أو أفضل بحلول العام 2028.
تعتمد ستراتيجيتنا في هذا المجال على المبادئ الأتية:
اصلاح الإجراءات الحكومية وتفعيل وسائل الردع القضائية، والتثقيف المجتمعي.
لذلك سندعو إلى ستراتيجيات تؤدي إلى النتائج التالية:
– إصلاح المؤسسات التي تراقب وتردع الفساد.
– إصلاح الإجراءات والمعاملات الحكومية والقوانين والتعليمات واعتماد الأنظمة الالكترونية.
– إعادة هيكلة معايير وإجراءات التعاقدات الحكومية.
– حصر صلاحيات عقود الشراء والخدمات الحكومية بيد مؤسسة وطنية للعقود.
– تقوية وتفعيل قوانين مكافحة الفساد وتطبيقها على الجميع دون استثناء.
– تأسيس شرطة التحقيقات المالية للتحقيق في الجرائم المالية الكبرى.
– حماية الموظفين الذين يكشفون الفساد في دوائرهم من العقوبات والضغوط.
– تأسيس هيأة وطنية عليا للتحقيق في الجرائم الاقتصادية تكون مستقلة وتكون لها سلطات قانونية للتحقيق ومحاكمة مرتكبي هذه الجرائم.
– ملاحقة حقيقية لجميع مرتكبي الفساد في العراق من عراقيين وأجانب منذ العام 2003.
– تأسيس صندوق للعثور على الأموال والممتلكات العراقية المسروقة أينما كانت واستعادتها.
مجموعة الأهداف الرابعة تتعلق برؤيتنا لتحقيق السيادة الوطنية والأمن الوطني
لقد انتهكت سيادة العراق ووحدة أراضية لعقود. ففي عالم مؤلف من دول وطنية متعددة، تعرضت سيادتنا الوطنية ووحدة أراضينا إلى تهديدات منتظمة من قبل قوى عالمية وإقليمية عديدة. رؤيتنا تتضمن استعادة سيادتنا بشكل مطلق لكي لا نتعرض لتحديات وتهديدات دائمة من قوى أجنبية ترانا أرضاً خصبة لتدخلاتها وبسط نفوذها. سوف نحترم سيادة جميع الدول، ولكننا سنتعامل معها جميعاً على أساس المصالح المشتركة ووفقاً لمبدأ تبادل المصالح. سنرفض أي شكل من أشكال التحالفات التي تورطنا في صراعات وخلافات دولية أو إقليمية، أو تحاول إلزامنا بالوقوف في محور أو معسكر أو آخر، سواء كانت هذه التحالفات معلنة أو سرية، موثقة أو غير مكتوبة. سيسعى العراق إلى أن يلعب دوراً بناء في تحقيق الاستقرار والمصالحة وتقليص الصراعات والتوترات السياسية والعسكرية في الشرق الأوسط، إذ تتضمن رؤيتنا شرقاً أوسط خالياً من المظاهر العسكرية بشكل كبير ومترابط بأواصر من المصالح المشتركة والمؤسسات العابرة للحدود تدعم الحريات والأمن والرفاه لشعوب المنطقة. عناصر رؤيتنا أيضاً تبني وتدعم فهماً للإسلام يكون مبنياً على الأسس غير المحرفة في القراءة والتأويل، منفتحة متسامحة تحترم التعددية ولا تتقوقع في المجال الطائفي الضيق وتعمل على حماية المجتمع من العقائد الرجعية المتطرفة والإرهاب.
كيف نحقق هذه الأهداف بحلول 2028؟
• نسعى إلى إزالة النفوذ الإقليمي والدولي في الشؤون الداخلية للعراق، بما في ذلك سحب جميع القوات الأجنبية والمجموعات المسلحة الخاضعة للنفوذ الأجنبي.
• نسعى إلى تكوين منظومة أمنية ودفاعية لدول الشرق الأوسط تتحمل المسؤولية الأساسية في حفظ الأمن الإقليمي والدفاع عن المنطقة.
• نسعى إلى تشكيل تحالف إقليمي دائم ضد الإرهاب مهمته مكافحة ومنع انتشار التطرف في المنطقة.
• نسعى إلى إحداث تفعيل جذري للجامعة العربية، أو تشكيل تجمع جديد للدول العربية ليحل محلها، وكذلك مع المؤسسات الأخرى غير الفاعلة.
• نسعى إلى إحداث تفعيل جذري لمنظمة التعاون الإسلامي، أو تشكيل تجمع جديد للدول الاسلامية ليحل محلها، وكذلك مع المؤسسات الأخرى غير الفاعلة.
• نسعى إلى توسعة وتحديث ومأسسة الإطار العام لـ”رسالة عمّان” التي صيغت في العام 2004 والتي تدعو إلى إزالة الطائفية والفكر المتطرف في تعاليم وممارسات المسلمين.
• نسعى إلى تشكيل مؤسسات وأطر لتنسيق وتنظيم العلاقات التجارية والاقتصادية في الشرق الأوسط مع نظرة مستقبلية لتأسيس سوق مشتركة للسلع والخدمات وتشجيع الانسيابية الحرة للمال.
• نسعى إلى تشكيل مؤسسات وأطر لحماية وتعزيز الحريات والحقوق للأفراد والمجتمعات والأقليات في الشرق الأوسط وطرح لائحة إقليمية للحقوق والحريات مدعمة بآليات مؤسساتية عابرة للحدود.
• نسعى إلى إصدار قوانين تمنع الكتل السياسية العراقية من تكوين علاقات سياسية ومالية يمكن لها أن تؤثر سلباً على سيادة العراق وأمنه، بما في ذلك قوانين تضمن شفافية التمويل الانتخابي وجمع التبرعات من قبل الأحزاب والكتل السياسية.
القيادة والأخلاق والمؤسسات والاستقرار
لقد اتسم تأريخ العراق بمتلازمات الفشل وتضييع الفرص، وإن شهد في أحيان قليلة بعض النجاح. وحيثما وجد النجاح في الماضي، لم يكن ذلك نتيجة لتبني السياسات الصحيحة فحسب، بل بسبب وجود قيادة جيدة ومستوى عال من الأخلاق الاجتماعية والفردية ومؤسسات رصينة واستقرار اجتماعي. هذا الخليط هو ما يحتم خروج العراق من حالته الصعبة وغير المقبولة في الوقت الحاضر وينطلق نحو مصاف الدول المتقدمة. إننا نؤمن بقوة بأنه لا توجد إيديولوجية أو نظرية يمكن أن تنتج على المدى البعيد الأهداف المنشودة للعراق من تنمية عادلة ومستدامة في ظل غياب أربعة عناصر ضرورية:
القيادة، والأسس الأخلاقية، والعمق المؤسساتي، والاستقرار الأمني والسياسي
الذي نقصدة بالقيادة ليست القيادة السياسية فقط، وإنما جميع مستويات قيادة المؤسسات الأساسية التي تتكون منها الدولة الحديثة والاقتصاد المعاصر. والمقصود بالأخلاق ليس المستوى العالي من النزاهة العامة والسلوك القويم فحسب، وإنما الإطار المؤسساتي والثقافي الشامل الذي تتفاعل فيه السياسات الاقتصادية والقيادة السياسية. أما الاستقرار فنعني به درجة عالية من النظام السياسي واستمرارية للمعايير القانونية والمؤسساتية. إن غياب أي واحدة من هذه المكونات الأساسية سيتسبب في تشوه عملية الإحياء الوطني ويوقف مسيرتها تماما، أو في أحسن الأحوال سيجعل مكتسباتها مؤقتة. فهذه هي الصخرة التي يقف عليها الاقتصاد السليم والتي لا بد من أن تبنى عليها السياسات الاجتماعية والثقافية، لأن أفضل السياسات يمكن أن تتعثر وتهوي إذا جرى استحداثها في فراغ أو بطريقة غير متناسقة، أو إذا جرى تطبيقها في بيئة تنقصها القيادة والمعايير الأخلاقية والمؤسسات الرصينة والاستقرار.
نقول بكل أسف إن هذه الشروط الأساسية الأربعة اللازمة لتحقيق تنمية اقتصادية وسياسية متوازنة وسريعة ومستدامة هي إما مفقودة أو متراجعة كثيراً في العراق.
إن النظام السياسي الذي تشكل في العراق بعد العام 2003 هو نظام مهتم بخدمة ذاته وخدمة حلقة ضيقة من المصالح جرى تصميمها وتشريعها من قبل جماعات سياسية معينة وشرعنتها بإدعاءات دستورية وباسم الديمقراطية والقانون. هذا النظام مصمم لإنتاج مخرجات متحكم فيها لن تنحرف كثيراً عن الصفقات المعدّة سلفاً في الغرف الخلفية، ورغم أن الديمقراطيات ليست محصنة ضد السياسات الفئوية والمناورات المحمومة، لكن دولاً قليلة جداً قد بلغت ما وصل إليه الفشل والفساد في العراق.
لقد جمع النظام في العراق بين أسوأ أنواع السياسات الفئوية مع آليات الدولة الفاشلة والمؤسسات المتهالكة، إذ يتفق القادة على صفقات تقاسم الغنائم من سلطة وثروة فيما بينهم وفقاً لمعادلات يزعمون أنها تهدف إلى التوازن القومي والطائفي وتمنع التمييز والإقصاء، ولكنها عملياً تجعل كل مؤسسة في الدولة والحكومة تحت إدارة شخص يعينه حزب ما على أن يكون ولاؤه ليس للمؤسسة أو الشعب، بل للحزب الذي أتى به إلى المنصب. هذه التعيينات كانت دائماً متسمة بالفشل، فالمرشحون يجمعون بين غياب الكفاءة التام والانتهازية المطلقة وانعدام الورع عن سوء استغلال السلطة، في حين يجري تجاهل أي خطوات يمكن أن تضمن عدم إساءة التعيينات. والنتيجة واضحة للعيان، فالمؤسسات الضعيفة أصلاً قد جرى تشويهها، والمؤسسات المستحدثة للحفاظ على الديمقراطية قد جرى الالتفاف عليها وجعلها غير مؤثرة أو ربما مؤثرة سلباً، وسلطات الشعب الانتخابية والقوانين التي تحكم الفعاليات السياسية قد جرى تحييدها من أجل ضمان عودة نفس الأحزاب أو من على شاكلتها إلى السلطة. لقد أصبحت فكرة محاسبة المسؤولين بلا معنى فترى الكيانات السياسية رغم خلافاتها العديدة تتكاتف لمنع تنفيذ القوانين ضد الفاسدين وإن كانوا من أحزاب أخرى لمنع أن يصل الحساب إلى الفاسدين المنتمين إليهم.
إن الطريق البرلماني لإحداث التغيير قد أصبح مليئاً بالعراقيل والحركات الإصلاحية داخل البرلمان لم تستطع أن تنجز شيئاً يستحق الذكر، ولم يظهر، ولن يظهر، قادة من داخل الهيكل السياسي الحالي يمكنهم أن ينهضوا بمسؤوليات المسيرة الإصلاحية التي يحتاجها العراق من أجل تأسيس حكومة منفتحة مسؤولة وذات كفاءة.
ولكننا، في الوقت الذي نرى فيه صعوبة الإصلاح من داخل الطبقة السياسية، لا نرى ولا ندعم أي محاولات إصلاحية تتخذ من العنف وسيلة لها. لقد تعلم العراقيون أن ثمن العنف هو المزيد من العنف والنتيجة ستكون مزيداً من الانقسام والقتل والدمار والأحقاد التي لن تموت.
لقد أطلق هذا المانيفيستو خطة ورؤية لولادة جديدة للعراق، نحن ملتزمون بنشر مبادئها بين قطاعات واسعة من أبناء وطننا الحبيب. كما نؤكد على أن المانيفيستو ليس وثيقة معصومة مما يستوجب التقد والتقويم، لكننا نعتقد بأنها تقدم أرضية صلبة لمباحثات وطنية واسعة النطاق من أجل تحديد الاتجاه الصحيح لمستقبل العراق. لذلك ندعو العراقيين شعباً وقادة سياسيين ورجال دين وقادة مجتمع إلى التفاعل الحقيقي البناء والجادّ مع هذا المانيفيستو، ومع الأفكار التي يطرحها والتحديات التي يسلط الضوء عليها. فإذا قاد هذا التفاعل إلى توافق عراقي جديد على مستقبل العراق، وأدى هذا التوافق إلى تشكيل نظام سياسي صالح، سيكون العراقيون حينئذ قد ساروا بخطوات واسعة نحو صنع عقد وطني جديد، وسنضمن مجتمعاً متطوراً قوياً تقدمياً آمناً ونظاماً راسخاً.
المؤلفون
البروفسور علي عبد الأمير علاوي هو أستاذ وباحث متمرس في جامعة سنغافورة الوطنية. عمل أستاذاً زائراً في عدد من الجامعات العريقة منذ 2003، من بينها هارفرد وبرنستون وأوكسفورد. عارض نظام البعث منذ مجيئه إلى الحكم، وشغل بعد سقوط النظام منصب وزير للتجارة والدفاع والمالية، وانتخب نائباً في الجمعية الوطنية عن كتلة الإئتلاف الوطني. حصل على البكلوريوس من معهد ماساشوستس للتكنولوجيا في الولايات المتحدة في الهندسة المدنية، في مجال النقل وتخطيط المدن، وشهادة الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة هارفرد متخصصاً في الاقتصاد والتمويل الدولي. ساهم في إنشاء عدد من الشركات المصرفية والاستثمارية العالمية وعمل في البنك الدولي بمنصب خبير استثماري ومالي. له عدد من الكتب منها “احتلال العراق: كسب الحرب وخسارة السلم” وأزمة الحضارة الإسلامية” وكتاب “عراق فيصل الأول”، وهو الآن بصدد إنجاز كتاب عن التاريخ الاقتصادي المقارن لدول العالم النامية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. حائز على عدة جوائز عالمية من بينها جائزة جامعة تفتس للدبلوماسية العالمية وجائزة جامعة سنغافورة وأستاذية فخرية من جامعة بيلوات. أنتخب في العام 2013 كرابع أهم مفكر في العالم، من قبل لجنة دولية شكلتها مجلة بروسبكت.
الدكتور عباس كاظم هو باحث في السياسة الخارجية بكلية الدراسات الدولية العليا، جامعة حونز هوبكنز، في العاصمة الأميركية واشنطن، تركز بحوثه على العراق وإيران ودول الخليج العربية. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا، بيركلي، في 2006. بين العامين 2005-2013 عمل أستاذاً لدراسات الأمن القومي ودراسات الشرق الأوسط في الأكاديمية البحرية للدراسات العليا بولاية كاليفورنيا وفي تلك الفترة كان أيضاً أستاذاً زائراً في جامعة ستانفورد. قبل التحاقه بجامعة جونز هوبكنز كان الدكتور كاظم يشغل منصباً استشارياً في سفارة الجمهورية العراقية بواشنطن. يعمل حالياً على دراسة إعادة بناء الاقتصاد السياسي للعراق. مؤلف كتاب “استعادة العراق: ثورة العشرين وبناء الدولة الحديثة” (باللغتين العربية الإنكَليزية)، بالإضافة إلى عدد من الدراسات والكتب الأكاديمية.
الدكتور لؤي الخطيب هو المدير المؤسس لمعهد الطاقة العراقي وزميل في مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا (نيويورك)، وزميل سابق في السياسات الخارجية بمعهد بروكنجز (واشنطن). حصل على شهادة الدكتوراه في السياسة والاقتصاد من جامعة أكستر بالمملكة المتحدة. تجاوزت خبرته عشرين عاماً في إدارة الأعمال ورسم السياسة العامة من خلال شغله لمناصب إدارية واستشارية عليا في مؤسسات دولية وشركات عالمية في مجال الطاقة والبنوك. وهو الآن بصدد إنجاز كتابين، الاول دراسة مقارنة للأنظمة الاتحادية في رسم سياسات الطاقة، والثاني مراجعة مسيرة العراق الاقتصادية في السياسة النفطية بعد عام ٢٠٠٣. ضيف دائم على كبريات وسائل الإعلام للتعليق على قضايا الطاقة والأمن والاقتصاد والسياسة في الشرق الأوسط. نُشِرَت أعماله في الدوريات والصحف العالمية مثل فورن أفيرز ونيويورك تايمز وناشنال إنترست وهافنغتون بوست وبتروليوم-إيكونومست وبروكنجز وهارفرد وكولومبيا وغيرها.