رشيد الخيّون –
الكتاب الإلكتروني يقتحم عالم الكتب المطبوعة، وفي الصورة برنامج “Kindle” الذي يقدم سوقاً إلكترونية كاملة للكتب
مازالت معارض الكتب وأسواق الوراقة حيَّةً ومتقدِّمةً، والكتاب المطبوع يتكاثر، والزحام على دور النشر يشتد. تجد المشهد صارخًا في العديد من المعارض. فالمشاركة تتعدى الألف دار ودار مِن دور النَّشر، والتي هي الأخرى تتناسل كل عام، ومعنى هذا أن الكتاب المطبوع يؤكد حضوره وعافيته أمام الكتاب الإلكتروني. لست خصمًا للكتاب الإلكتروني -مع عدم ميلي إليه- لكن تصفُّح الورق غير تصفُّح الضوء، والتوثيق في الأول غير التوثيق في الثَّاني، فحتى الكتاب الصورة “البي دي أف”، يمكن التلاعب فيه؛ بفتحه وإدخال ما يمكن عليه، وقد وجدت صفحات من كتب تاريخية تعرَّضت للزيادة والنقصان، وهناك لا تستطيع نسبتها لمصدر، إذا كانت مكتوبة على برنامج (الوورد)، وإذا كانت صورة موثقة فالأصل هو المطبوع.
لقد قلل الإلكترون من قيمة المعلومة، وعلى وجه الخصوص في الموسوعات الويكيبيديات، فهي مفتوحة لمن يدخل معلومته، وأرى العديد مِن هواة البحث والكتابة يلجأون إليها كمصدر للمعلومة، فما أسهلها!
عندما ظهر الكتاب الورقي -ولا نعلم متى ظهر- أزال الكتاب الطيني أو الحجري، مثلما يُعتقد أن الإلكتروني سيزيل الورقي مِن الوجود، وربَّما سيتفوق الاختراع والاكتشاف إلى الكتاب المحمول في النظارات، أو عدسات العيون، أو خواتم أصابع الأيدي، وبذلك سيزول هذا العجيب الذي بين أيدينا دعونا نتحدث عن مئات السنين بوجود الكتاب الورقي، فلا يزول خلال عقد أو قرن، والإشارة التي نعتمدها هو تكاثر هذا الكتاب غربًا وشرقًا، وما زال حتى هذه اللحظة هو السَّيد.
وأرى أن الكتابة على الجلود وكرب النخيل مثَّلت المرحلة الانتقالية بين الطين والورق؛ حتى أزالها الكتاب الورقي، بعد اختراع الورق والحبر، وبعدها أخذ الكُتَّاب الأوائل يعتنون بأدوات وآلات الكتابة عناية فائقة، فكانوا يختارون دَويّهم (جمع دواة) وأقلامهم بخبرة وذوق، ويتفاخرون في مجالسهم بأناقة الدَوَاة، ورشاقة القلم، ونوع الكاغد والحبر.
تختلف آلة الكتابة ونوعية الورق حسب منزلة الكاتب، ومهام الدِّيوان، فدَوّي المعلمين وأقلامهم غير دَوّي وأقلام كُتَّاب دار الخلافة والوزارة، أو ما يعرف بديوان الإنشاء؛ كذلك يختلف الكاغد المستعمل للرسائل الرسمية عن المستعمل لسجلات المال. كان القلم (الحبر) لصيقًا بالكاتب، قد يصعب عليه استعمال سواه مِن الأقلام، له حظوته، ومَن جرَّب الكتابة بباركر (51) يصعب عليه التنازل إلى أقلام الحبر الجاف، التي ترمى حال نضوب أحبارها.
اعتبرت الدواة أم آلات الكتابة، فهي وعاء عدتها، تحتوي على القلم والمحبرة والمبراة والملواق (عود لتحريك الحبر)، والمسطرة، لتسطير ما يُراد كتابته، والمصقلة، لصقل الكتابة بماء الذهب، والكرسف، والمسقاة (لصب الماء في المحبرة)، وتسمى أيضًا الماوردية “فغالبًا ما يجعل في المحبرة عوض الماء ماء ورد؛ لتطيب رائحته”(القلقشندي، صبح الأعشى).
يحمل دَوّي الكُتاب، من المحظيين، غلمانهم بمهارة، فيدلفون بعدهم إلى مجلس الخليفة أو الوزير بكل هيبة، فلا يليق بالكاتب المتقدم أن يحمل دَوَاته بنفسه، وأن لا تسقط من اليد، ولا يكون شكلها ورائحتها ما يكرهه صاحب المجلس. لذا من فن صناعة الدَوَاة أن تُحلى بعناية ولطف، خالية من الثنيات أو النقوش والصور، فكل هذه الأشياء تمنع تنظيفها من الحبر، الذي يشوه شكلها، ويبعث منها رائحة كريهة.
قال محمد بن يحيى الصولي (ت335هـ): “حكم الدَّواة أن تكون متوسطة في قدرها، نصفًا في قدها، لا باللطيفة فتقصر أقلامها، ولا بالكبيرة فيثقل حملها؛ لأن الكاتب -ولو كان وزيرًا- له مائة غلام مرسومون بحمل دَوَاته، مضطر في بعض الأوقات إلى حملها، ووضعها ورفعها في يد رئيسه، حيث لا يحسن أن يتولى ذلك منها غيره، ولا يتحملها عنه سواه”(أدب الكُتاب).
لا يأخذكم الحديث عن خريف الكتاب المطبوع، بلا روية، وتهدّون رفوف مكتباتكم، أو لا تتركون في الحيطان روازين لها، فالكتاب الإلكتروني مخبوء وراء الضوء، وفي أجهزة، لا يكون حاضرًا أمام العين
وتصنع الدَوَاة -عادة- من خشب الأبنوس أو الصندل، ولكن الكُتَّاب في القرن الثامن الهجري وما بعده، حسب القلقشندي (ت 821 هـ)، رغبوا عن الدَوّي الخشبية، وأخذوا يستعملون النحاسية والفولاذية الغالية الثمن، بمعنى حصل انتقال من استعمال الخشب إلى النُّحاس والفولاذ. ترى دَوّي النحاس أكثر استعمالاً من دَوّي الفولاذ؛ لأن الأخيرة خاصة بديوان الوزارة وما ضاهاها من الرتب (صبح الأعشى).
أكد القلقشندي الرأي السالف بقوله: “أمر (هارون الرشيد) أن لا يكتب النَّاس إلا في الكاغد؛ لأن الجلود ونحوها تقبل المحو والإعادة، فتقبل التزوير (هكذا وردت)، بخلاف الورق، فإنه متى محي منه فسد، وإن كشط ظهر كشطه”(صبح الأعشى)، وهو ما نخشاه مما يحصل في الكتاب الضوئي، وفوقها أن التحريف والتصحيف لا يترك أثرًا في صحف الضوء. بيد أن ابن النديم -وهو الأقرب إلى زمن الرواية من المؤرخين المذكورين- قال: “أقام الناس ببغداد سنين لا يكتبون إلا في الطروس (الصحف الممحية غير الورقية)؛ لأن الدواوين نُهبت في أيام محمد بن زبيدة (الأمين) وكانت جلودًا، فكانت تمحى ويكتب فيها”(الفهرست).
وربما ندرة الورق أو الكاغد جعلت أبا نواس لما أراد أن “يكتب إلى إخوان له، فلم يجد شيئًا يكتب فيه، فحلق رأس غلامه وكتب عليه ما أراد، وفي آخرها كتب، وإذا قرأتم الخطاب فخرقوا القرطاس”(أدب الكُتاب)، وأخالها حكاية للفكاهة لا أكثر. وفي ذلك قال:
إن القراطيس من قلبي بمنزلة ** تكون كالسمع والعينين في الرأس
لولا القراطيس مات العاشقون معاً ** هذا بغم وهذا كم بوسواس
فهي بريد الهوى بينهم.
لا نسهب في الحديث عن الورق والحبر، وهما أدوات الكتاب وعدة الكاتب، لكن وجودهما من دون مهارة في الكتابة يكون مستعملهما كما قال الشاعر:
دخيل في الكتابة ليس منها ** فما يدري دبيرًا من قبيل
إذا ما رام للأنبوب بريًا ** تنكَّب عاجزًا قصد السبيل
فما قدمناه كان عرضًا سريعًا لتاريخ الكتاب الورقي، والذي كان مخطوطًا وصار مطبوعًا، فسهل حفظه ونشره على الملأ بكميات كبيرة، ويحدِّد ذلك الطلب عليه. ونصل إلى الدَّعوة إلى العناية بالمكتبة الشخصية، والتي سمعتها في معرض الشَّارقة، وتحدث بها رئيس الهند السابق، وعالمها زين العابدين عبد الكلام، وِمن قبل دعا إليها شباب عراقيون بمبادرة “أنا عراقي أنا أقرأ”، اعتمادًا على أن العِراق كانت مهد الحرف الأول.
إن وجود المكتبة في المنزل، وإن كانت مجرد “رفوفٌ فوقها الكتبا” نافعة، تخلق الألفة، ليس فقط لأنه “خير جليس”، بل وجوده يعكس إحساسًا بالمعرفة، ورؤية الطفل لهذه الرفوف يترك في نفسه حبًّا للكتاب، بل إن رؤية عناوين الكتب -حتى بلا تصفحها وقراءتها- يغذِّي العقل، فللعنواين معانٍ مؤثرة على مدى معاشرتها. ولمحمد مهدي الجواهري في أبي العلاء المعري (ت 449 هـ) من قصدية “قف بالمعرة” (1944):
على الحصير وكوز الماء يرفده ** وذهنه ورفوفٌ فوقها الكتبا
القصد ألا يأخذكم الحديث عن خريف الكتاب المطبوع، بلا روية، وتهدّون رفوف مكتباتكم، أو لا تتركون في الحيطان روازين لها، فالكتاب الإلكتروني مخبوء وراء الضوء، وفي أجهزة، لا يكون حاضرًا أمام العين، ولا يزين البيوت، فإذا كان أمام الورق والحبر عمرٌ مداه مئة عام، فلا تظنون أعماركم أكثر منه، نقول هذا للمتسرِّعين في رمي رفوف الكتب حطبًا للنار، فمِن الورق ما كان صبورًا على الزَّمان