خالد الحروب * –
أين هو الإسلام المعتدل وأين هم المسلمون المعتدلون ممّا تقوم به القلة المجرمة التي تنتسب إليهم وتقوم بإرهاب مخز باسم دينهم؟ بتنا لا نستطيع متابعة حلقات الإرهاب التي تقوم بها الجماعات التي تتناسل عن بعضها البعض باسم الدين وباسم الجهاد وتلطخ بفعلها كل من يمت للعرب والمسلمين بصلة. الصورة الإجمالية للعرب والمسلمين في العالم سوداء وبشعة وإرهابية والفضل يعود لـ «المجاهدين الأشاوس». وإن كان تردي تلك الصورة يعود لإجرام هؤلاء، فإن بقاءها وعدم تغييرها هو خطيئة الغالبية الكاسحة والصامتة، والتي لا تفعل شيئاً من أجل الدفاع عن ذاتها الجمعية، ولا عن قيمها، ولا عن دينها. كل ما نقوم به حتى الآن هو القول الخجول بأن «هؤلاء» لا يعبرون عنا ولا عن الدين الصحيح، ثم سرعان ما يعلو صراخنا ضد الإعلام الغربي الذي «يشوه صورتنا ويتهمنا بالإرهاب»! لا يحتاج الإعلام الغربي ولا غيره للتآمر علينا لتشويه صورتنا، بل يكفيه نقل وتصوير ما تقوم به تلك الجماعات المنتسبة إلينا من دون أي تعليق. دفاعنا اللفظي عن أنفسنا ومحاولة تقديم طروحات نظرية حول تسامح الدين وتعايشه والماضي التليد لن تُقنع أو تعوض أُماً رأت أطفالها يقتلون أمامها برصاص «المجاهدين»، ولن تقنع أو تعوض طفلاً فقد والديه، أو عشرات وعشرات من الضحايا وأهلهم، ممن قتلوا هنا، أو مُثل بهم هناك، أو اُغتصبوا أو اغتصبن في «حمى وطيس المعركة»! القول اللفظي لا يدحض الفعل العملي، وإطفاء الحرائق التي تلتهم الصورة العامة للمسلمين بسبب إرهاب تلك الجماعات لا ينجح عن طريق التصريحات التي تؤكد أننا طيبون، وهي تصريحات لا معنى لها عندما يفور دم ضحايا أبرياء، بل تصبح محاولة ساذجة حتى لا نقول صفيقة لتخفيف الألم هناك!
مطلوب من الغالبية الكاسحة من المسلمين، وفي مقدمهم العرب بكونهم القادة والمؤسسين لما صار يُعرف بـ «الإرهاب الإسلامي» أن ترد الفعل الإرهابي بفعل حقيقي وليس بقول أو لفظ. مطلوب تداعي هذه الغالبية ومفكريها وقادة الرأي فيها إلى الانشغال ليلاً ونهاراً بالسؤال الكبير حول ما يمكن عمله: كيف يمكن وقف تفاقم ثقافة الدم والقتل الرخيص واستسهال إزهاق الأرواح؟ ثم ما هي الآليات التي يجب تبنيها من أجل إعادة الاعتبار للإسلام الآخر، إسلام الناس العاديين المعتدل والمتعايش مع ذاته والآخرين، وتقديمه للعالم والناس والضحايا الذين سقطوا جراء إرهاب جماعات التطرف؟ أسئلة كبيرة وضاغطة بالتأكيد ويفاقم من ضخامتها كسلنا الفكري وعجزنا السياسي عن المبادرة وابتكار الأفكار.
وفي سياق محاولة الإجابة على سؤال: ما العمل في مواجهة المنعكسات المباشرة للعمليات الإرهابية يمكن التفكير في الاقتراح التالي، وهو مجرد جزء من عمل أكبر واستراتيجية أوسع من المفترض أن تتبناها الدول ومنظمات المجتمع المدني في العالم العربي والإسلامي. يدور المُقترح حول تأسيس ما يمكن تسميته «الصندوق الشعبي الإسلامي لتعويض ضحايا الإرهاب». وتقوم الفكرة من ناحية قيمية على الإقرار الأخلاقي والتضامني بالمسؤولية الجماعية تجاه الأرواح التي أزهقت بسبب جنون جماعات «الإرهاب الجهادي» – وهو إقرار اختياري وطوعي، وليس قانونياً أو سجالياً أو مناكفاتياً. وربما يتأسس أيضاً على مفهوم ديني له علاقة بـ «دية» الضحايا، إذ في ذمة من تتعلق دية الأبرياء ممن يسقطون هنا أو هناك برصاص مجرمينا؟ والمهم هنا هو أن الوظيفة الأساسية لهذا الصندوق هي الوصول إلى كل المتأثرين بالعمليات الإجرامية المنسوبة إلى الجهاد والإسلام والوقوف إلى جانبهم معنوياً وإنسانياً وإبراز التضامن معهم ثم تعويضهم مادياً عن خسائرهم سواء في من فقدوا من محبيهم أو في ممتلكاتهم. لا يمكن عملياً تعويض أي إنسان فقد ابناً أو أخاً أو أباً أو أماً، عن طريق القتل والإرهاب الظالم، لكن التضامن المعنوي والتعويض المادي يخففان من المصيبة أولاً، ويؤديان رسالة مهمة وملحة ثانياً وهي أن القتلة لا يمثلون المسلمين ولا دينهم، وأن إجرامهم لا دين له ولا قيم. لنتخيل أن منظمات عربية وإسلامية يكون هدفها احتواء حزن وغضب وألم عائلات الضحايا والمتضررين بسبب الإرهاب، وتأهيل وتدريب الذين يصابون بإعاقات دائمة، وتعليم اليتامى الذين يجدون أنفسهم بلا آباء أو معيلين جراء ذلك الإرهاب. مثل هذا الجهد هو انتقال من الممارسة اللفظية التي تعودنا عليها وتكرار أننا أناس طيبون وأن المتعصبين الإرهابيين هم مجرد قلة شاذة. القلة الشاذة هي التي تقوم بالفعل (المدمر)، والغالبية «الطيبة» تمارس سكوتها.
لنتأمل حلقات المجزرة الإرهابية التي قامت بها منظمة «الشباب» الإسلامية الصومالية في نيروبي والتي يندى لها الجبين. إرهاب أعمى موجه ضد مدنيين عزل يتسوقون ويتجولون مع أبنائهم ونسائهم باطمئنان في مركز تسوق. أين البطولة والشجاعة والدين أو حتى المروءة الجاهلية في اختطاف النساء والأطفال وبث الرعب في قلوبهم، ثم فرزهم وسؤالهم عن دينهم فإن كانوا مسلمين أطلق سراحهم وإن كانوا مسيحيين قتلوا! وأية تعاليم دينية قرأها أولئك المجرمون تبرر لبعضهم اغتصاب أطفال في أيام الاختطاف، ثم تعتذر القيادة عن تلك الأفعال وتقول بكل صفاقة إنها مجرد «تصرفات وأخطاء فردية»! وما هو الإنجاز العظيم الذي حققه «المجاهدون» عبر قتل العشرات من الأبرياء وجرح وإعاقة المئات، سوى تأليب الحقد والكراهية على كل ما يمت بصلة للإسلام والمسلمين في كينيا وفي كل مكان شاهد فيه الناس المجزرة وتفاصيلها وتابعوا قصصها على شاشات التلفزة وفي الإعلام.
في باكستان والهند هناك أيضاً إرهابيون ومجرمون بكل معنى الكلمة يخوضون حرباً تافهة ضد كنيسة هنا، أو مسجد للشيعة هناك، ويتصايحون بهوس وانحطاط بشعارات إسلامية ودينية وكأنهم حققوا نصراً مؤزراً، وكل ما فعلوه هو إراقة دماء مصلين مسالمين هنا أو هناك. وقريباً منا في سورية، تتوالى «بطولات» مجاهدي «الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام» وتتمثل في ذبح الخصوم من الوريد إلى الوريد وأكل أكبادهم، وتحطيم أيقونات كنيسة هنا، وتحطيم صليب هناك، وإرهاب كل من لا يقدم فروض الطاعة لأمير أرعن هنا، أو أمير أرعن هناك. جماعات الإرهاب شوهت الثورة السورية وخدمت نظام الأسد خدمة لم يكن يتخيلها إذ أصبح كثير من الناس العاديين المطحونين من قمع الأسد يفضلون بقاءه على وقوع سورية في قبضة التعصب «الجهادي» القاتل. وفي العراق تُكتب مجلدات عن سفالات أولئك «المجاهدين» وولغهم بالدم البريء. منذ إرهاب الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 وصورة العرب والمسلمين ودينهم في ترد متواصل. الإسلام والمسلمون وفي زمن الإعلام السريع وغير المكترث للصور الكلية للثقافات والمجتمعات صاروا صنواً للعنف والإرهاب والتعصب. ما تقوم به جماعات الإرهاب التافهة باسم الدين في طول وعرض العالم يعود على كل المسلمين ودينهم بالدمار، ويؤلب ضدهم الآخرين.
لكن هناك معضلات ذهنية ونفسية تقف في وجه المكاشفة الصريحة بيننا وبين أنفسنا والإقرار بأن غالبية الإرهاب الذي يستهدف مدنيين عزلاً يتم تحت لافتات إسلامية. فعادة ما نشير إلى جرائم الغرب والاستعمار والحروب التي يقوم بها ويسقط من خلالها مدنيون، وهذا تاريخياً صحيح، لكن جوهره مماحكة وجدل يريد أن يهرب من المسؤولية. نعم هناك جرائم غربية واستعمارية في الماضي والحاضر، لكن هل إثبات هذه المقولة سوف يوقف تدهور صورة الإسلام والمسلمين عند الناس العاديين، لنقل في كينيا مثلاً؟ إجرام الغرب لا يبرر أن يقوم في وجهه إجرام «إسلامي»، وفي أول المطاف ونهايته هناك البوصلة المهمة التي يشير إليها النص القرآني: «ولا تزر وازرة وزر أخرى». وهناك أيضاً مماحكات مختلفة ومن درجات متفاوتة من مثل حشر النقاش في الألفاظ والمصطلحات، والقول بأن تعبيرات مثل «إرهاب إسلامي» أو «جهاديين إرهابيين» هو من باب التشويه الإعلامي للإسلام والمسلمين وسوى ذلك. وهذه كلها معارك على مستوى لفظي لا تقدم ولا تؤخر، وما يقدم ويؤخر هو الفعل على الأرض، هو أن تنتفض الغالبية الكبيرة للدفاع عن ذاتها، ولتضرب على يد الجماعات الخرقاء التي تخرق قاع السفينة، لأنهم إن لم يفعلوا فإن السفينة بمن فيها آيلة إلى الغرق والخروج من التاريخ.