عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للدكتور محمد علي زيني تحدث فيها عن موضوع “العلوم العربية – الإِسلامية: حضارة أشرقت ثم غابت”. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة كاتب هذه السطور. استهل زيني محاضرته بالحديث عن تجاهل الغرب لفضل الحضارة العربية-الإسلامية التي ساهمت في إيقاظ أوروبا من سباتها العميق الذي دام ألف عام تقريبا. ويرى زيني أن هذا الاعتراف قد جاء على لسان الرئيس باراك أوباما في أثناء خطبته التي ألقاها بالقاهرة في 4 حزيران / يونيو 2009 حيث قال بالحرف الواحد: “إنه الإِسلام هو الذي حمل مشعل المعرفة خلال قرون عدة، ممهداً الطريق الى نهضة أوروبا وتنويرها. إنه إبداع الشعوب الإِسلامية هو الذي أوجد لنا علم الجبر، والبوصلة المغناطيسية ووسائل الملاحة البحرية، والسيطرة على القلم والطباعة، ومعرفة كيف تنتشر الأمراض وكيف يمكن علاجها.”
أشار زيني إلى أن صحراء الجزيرة العربية لا تشجع على قيام الحضارة بسبب افتقارها للماء باستثناء اليمن التي نشأت فيها حضارة، لكنها اندثرت بعد انهيار سد مأرب. كما نوّه إلى أن قبائل الجزيرة العربية آنذاك كانت بدوية، مترحّلة، متناحرة ما عدا القلة التي كانت تسكن في مدن اليمن والحجاز وتمتهن التجارة والزراعة والصناعة الأولية. وحين ظهر النبي “ص” في عام 611م ونادى بالإسلام فوحّد القابئل العربية وزادهم قوة ومنعة تحت راية الإسلام الذي اندفع في فتوحاته حتى وصل إلى الصين شرقاً وإسبانيا غربا. وقد حثّ الدين الإسلامي على القراءة والتعلّم حتى قيل في هذا الصدد ” أن مِداد العالِم أكثر قداسة من دم الشهيد” و “أطلب العلم ولو في الصين”. وعلى وفق هذه الرؤية يرى زيني بأن العرب قد بنوا حضارة عظيمة على ركام الحضارات العريقة التي ورثوها عن طريق الفتوحات الإسلامية.
يعتقد زيني بأن العرب هم أول من قاموا بعولمة العلم في التاريخ فهو يعترف بفضل الحضارات الأخرى على الحضارة العربية – الإسلامية من خلال الترجمة. فحينما امتدت الفتوحات الإسلامية على هذه الرقعة الجغرافية الواسعة أصبحت على صلة مباشرة مع أربع حضارات عالمية عريقة وهي الفارسية واليونانية والهندية والصينية. ويرى زيني أن العرب الفاتحين قد احترموا علوم الشعوب المغلوبة وترجموا المناسب منها وطوّروه باعتباره مُلكاً للبشرية جمعاء في أول خطوة عولمية في التاريخ.
نوّه زيني بأن الحركة العلمية لم تزدهر خلال العصر الأموي حيث اقتصر دورها على حركة التعريب في عهد عبدالملك التي مهدّت بشكل جدي للعصر الذهبي في العهد العباسي، إذ نُقلت عاصمة الخلافة إلى العراق حيث بُنيت بغداد سنة 672م لتصبح عاصمة للعالم الإسلامي ومركزاً للإشعاع الحضاري الذي دام قروناً عديدة.
لم يحسم زيني أمره فيمن شيّد بيت الحكمة، أهو المنصور أم الرشيد؟ لكنه يرى بأن هذه المؤسسة الثقافية كانت مقترنة بالمأمون(786–833م) الذي اعتبره أكبر نصير للعلم في التاريخ الإسلامي والمؤسس لأعظم حقبة علمية وثقافية ذهبية منذ العصر اليوناني القديم. استمرت الترجمة لأكثر من قرن وقد ساهم فيها مترجمون محترفون إضافة عدد من العلماء أمثال حُنين ابن إسحاق والكندي والخوارزمي الذين أثروا تراجمهم بالشروح والتعليقات المفيدة.
العلوم العربية والإسلامية
توقف الدكتور زيني عند ثمانية علوم أساسية وهي الرياضيات، الفيزياء، الكيمياء، الطب، الملاحة البحرية، الجغرافية، الفلك والأخلاق. ونظراً لسعة هذه المحاور التي تناولها المحاضر فسوف نختار خلاصتها. ففي علم الرياضيات أشار المحاضر إلى محمد بن موسى الخوارزمي(780–850م) الذي يأتي في طليعة العلماء الذين برعوا في هذا العلم. أنجز الخوارزمي معظم أبحاثه في بيت الحكمة بين عامي 813 و833م حيث عيّنه المأمون على رأس خِزلنه كتبه وعهد إليه جمع الكتب اليونانية وترجمتها. أدخل الخوارزمي الصفر إلى نظام العد الهندي من 1 إلى 9 ومنه أخذت أوروبا هذا النظام وأطلقت عليه الأعداد الهندو- عربية أو الأعداد العربية. كما أوجد علم الجبر (Algebra)، ووضع كتاباً لهذا العلم أسماه “الجبر والمقابلة”. كما أورد المحاضر مثالين عن المعادلة الخطية والمعادلة التربيعية.
توسّع زيني في الحديث عن حقل الفيزياء مُورداً غالبية منجزات ومآثر عالم البصريات الحسن ابن الهيثم (965 – 1030)، الذي أدخلَ المنهج العلمي التجريبي في الفيرياء، كما طوّر نظرياته في البصريات(Optics) من خلال دراسته لأشعة الضوء وتوصّل إلى نتائج كثيرة في هذا المضمار. يعتقد زيني أن ابن الهيثم قد أدرك أن الظواهر الكونية تتبّع نفس القوانين العامة المودة على الأرض. ويأتي هذا الفهم بموازاة إدراك نيوتن بعد 600 سنة من أنّ قانون الجاذبية العام هو نفسه الذي يحكم حركة النجوم والكواكب في الكون ويبقيها متماسكة في مداراتها. نوّه المحاضر بـ “كتاب المناظر” ذي الأجزاء السبعة كما أشار إلى بعض الإشادات التي أدلى بها كاجوري وروزا غوريني وشارل إبرنون وزيغرد هونكة مثمِّنين آراء ابن الهيثم ونظرياته ومنهجه العلمي. كما انتقد بعضهم عالم البصريات فيتيلو البولوني الذي كان “كالقرد المقلّد”، كما أشاروا إلى تأثر دافنشي، مخترع آلة التصوير، والمضخة، والمخرط والطائرة، كما يدعي، بالعلماء المسلمين حيث أوحت له آثار ابن الهيثم أفكاراً كثيرة. وخلص المحاضر إلى القول بأن ابن الهيثم قد أبدعَ في علوم شتّى منها الفيزياء الفلكية والرياضيات والهندسة وعلم النفس والفلسفة.
اختار المحاضر في مضمار الكيمياء العالم جابر بن حيان (721–815م) الذي قال عنه الفيلسوف الإنكليزي فرانسيس بيكون: “إن جابر بن حيان هو أول من علّم علم الكيمياء للعالم، فهو أبو الكيمياء”، وقال عنه العالم الكيميائي الفرنسي مارسيلان بيرتيلو: “إن لجابر بن حيان في الكيمياء ما لأرسطو في المنطق”. كما أشادوا بمنهجه العلمي التجريبي وتجاربه العملية حيث يقول بن حيان في هذا الصدد “إن أولى الضروريات في الكيمياء هي أن تكون عملياً في شغلك وتجري تجارب، لأن الذي لا يكون عملياً في شغله ولا يجري تجارب سوف لن يصل حتى الى أدنى درجة من الأتقان”. ذكر زيني بأن بن حيان قد “اخترع الأمبيق والمقطرة والمعوجة والعمليات الكيميائية للتقطير النقي والترشيح والتسامي والتبلور والتنقية والأكسدة والأختزال والتبخر وأحرز تقدماً كبيراً في علم الكيمياء من حيث النظرية والتطبيق”. أما أهم دراساته فقد انصبّت على تحويل المعادن، وتحضير الفولاذ، وصبغ الأنسجة والجلود، وصنع طلاءات متعددة منها طلاء الورنيش، وصناعة الأصباغ والأحبار، وقوالب الصابون، واستعمال ثاني أوكسيد المنغنيز في صناعة الزجاج. ويرجع له الفضل في اكتشاف مركبات عدة منها حامض الهايدروكلوريك وحامض النتريك وحامض الكبريتيك وثاني كلوريد الزئبق ونترات الفضة وملح أو كلوريد النشادر وكلوريد الأمونيوم.
مصادر وموسوعات طبية
ذكرَ المُحاضر بأن علماء الحضارة العربية-الإسلامية قد احتلوا مكان الصدارة في علومهم الطبية التي ظلّت تدرّس في الغرب لأكثر من خمسة قرون. ومن بين هؤلاء الأطباء- الفلاسفة ابن سينا، وابن رشد، وابن ميمون. وكانت المستشفيات في ذلك العصر تُعنى عناية فائقة بالمرضى الذين تُستبدل ملابسهم بملابس نظيفة حال دخولهم للمستشفى وحينما يغادرونها تعطى لهم كمية المال تكفيهم للعيش لحين استرجاع قدرتهم على العمل. توقف زيني عند ثلاثة أطباء مشهورين وهم ابن سينا، صاحب كتاب “الشفاء” وموسوعة “القانون في الطب”. كما أشار إلى أبي بكر الرازي الذي يعد أول من شخّص الحصبة ومرض الجدري وانتقالهما بالعدوى. كما كتب الرازي عدة كتب أخرى من بينها “الطب المنصوري”، وهي رسالة بعشرة أجزاء، و “الطب الروحاني” أي النفسي، كما أنجز موسوعة “الحاوي في الطب” التي اشتملت على علوم طرائق وتطبيقات في الطب السريري والباطني والنفسي. أما الطبيب الثالث فهو الزهراوي الذي يعّد أعظم الأطباء الجراحين، صاحب موسوعة الجراحة “التصريف لمن عجز عن التأليف” وقد احتوت على مائتي آلة طبية للجراحة ظلت سائدة في أوروبا لمد 500 سنة. اشتهر الزهراوي بجراحة العين والفكّين والأسنان والمسالك البولية، ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة، وكتب كنزاً ثميناً في طرق التوليد والجراحة النسائية. وهو أول من استعمل خيوطاً صنعها من أمغاء القطط لخياطة الجروح وله آراء قيّمة في استئصال السرطان إذا كان في أولى مراحله وتركه جانباً إذا كان متقدماً.
الملاحة البحرية والفلَك
أشار زيني في حقل الملاحة البحرية إلى أن العرب قد استعاروا البوصلة من الصينيين والأصطرلاب من اليونانيين وطوروهما لمعرفة الاتجاه والموقع والوقت. وقال بأن أحمد بن ماجد، صاحب كتاب “الفوائد في أصول علم البحر والقواعد” هو من أضاف الإبرة المغناطيسية للبوصلة البحرية. كما استعان به المستكشف البرتغالي فاسكو دي غاما في رحلته من أفريقيا إلى الهند لكن بعض المؤرخين أنكر ذلك.
توقف زيني في حقل الجغرافية عند الشريف الإدريسي الذي أقنعه ملك صقلية روجر الثاني أن يرسم خريطة العالم فأنجز أطلساً يحتوي على (70) خريطة وأسمى الكتاب “نزهة المشتاق في اختراق الآفاق” وقد جاءت خريطته مقاربة لخريطة العالم الحقيقية. كما تضمّن هذا الكتاب معلومات قيّمة عن الدول والأنهار والمرتفعات والبحيرات. أما في حقل الفلك فقد توقف زيني عند عالمين فلكيين مشهورين وهما محمد البتّاني وأبو الريحان البيروني حيث قام البتّاني بتنقيح الكثير من أعمال بطليموس وصحّح مدار القمر وبعض الكواكب. واشتهر بأرصاده لحركة الشمس والكسوف والخسوف التي اعتمد عليها الفلكي دنثورن في (1749) في قياس تسارع حركة القمر. وكان له حسابات فلكية مختلفة، منها طول السنة الشمسية بكونها 365 يوماً وخمس ساعات و46 دقيقة و24 ثانية، وهذا قريب جداً من آخر التقديرات الحديثة، إذ كان الفرق دقيقتين و22 ثانية فقط. أما عالم الفلك والفيزياء والرياضيات أبو الريحان البيروني فهو الذي حدّد بدقة خطوط العرض والطول، وقام بحساب محيط الأرض، وناقش فكرة قيام الأرض بالدوران حول محور لها ودورانها حول الشمس أيضاً، وذلك قبل نحو 600 سنة من ظهور غاليليو.
التسامح والنزعة الإنسانية
أما المحور الثامن والأخير الذي توقف عنده زيني فهو “الأخلاق” حيث أشار إلى التسامح الديني الذي كان سائداً آنذاك حيث كان العلماء والمفكرون من المسلمين والمسيحيين واليهود يعملون جنباً إلى جنب من دون تفرقة على قائمة على أساس العرق واللون والدين والمذهب الأمر الذي أفضى إلى بروز نزعة إنسانية عقلانية متحضرة بخلاف بعض الأماكن الأخرى من العالم التي كانت ترزح تحت نير التخلف والجهل والعنصرية. كما استشهد المُحاضر بمقطع يشير إلى تغيّر نظرة الصليبيين تجاه المسلمين “إنه خلال المائة الثانية للأستعمار الصليبي أصبحت الأرسقراطية الغربية تعتقد بأن خير وسيلة لتربية ابنائها وتنشئتهم نشأة راقية هي إرسالهم الى الشرق لقضاء سنة أو أكثر لكي يعودوا الى أهلهم في أوروبا أنعم طباعاً، وأرفع أذواقاً، وألين في تعاملهم مع الناس نتيجة لاحتكاكهم مع مجتمع ينعم بحضارة أصيلة تتفوّق على ما لديهم من مقوِّمات المدنية والقيم الأخلاقية والثروة الثقافية”.
التعايش بين العقل والإيمان
ختم الدكتور محمد علي زيني محاضرته بالوصول إلى بعض النتائج من بينها أن ابن سينا وابن رشد قد قاما بتعديل الميتافيزيقيا الأرسطوطاليسية الوثنية وأضفيا عليها صبغة إيمانية مفادها أن الله هو خالق الكون. كما قام علماء بيت الحكمة بعد مرور خمسة قرون بنقد وتعديل النظرية اليونانية حول الفلك والكون. كما شدّد على أهمية تعبيد الطريق لكوبرنيكوس من قبل العلماء العرب-المسلمين من بينهم الطوسي وعلاء الدين الشاطر حيث قال جوناثان لايونز “إن النظريات الوحيدة الأصيلة التي جاءت في الكتاب المهم لكوبرنيكوس ” De revolutionibus orbium coelestium ” الذي نُشر في العام 1543 حين كان هذا العالم ورجل الكنيسة نائماً على فراش الموت، قد تمّ تتبعها مباشرة إلى الأعمال السابقة لعلماء عرب في ذروة الحُنكَة لم يكونوا راضين عن تعاليم Almajest، وهو كتاب الفلك العظيم لبطليموس.” أعلن العلماء العرب بطلان نظرية بطليموس القائلة إن الأجرام السماوية تتحرك حركة دائرية حول الأرض، وثبتّوا ذلك في أدبياتهم النظرية المسماة بالشكوك. ثم تمّ وضع الشمس في مركز المجموعة الشمسية بدلاً من الأرض وهو ما يخالف معتقدات المسيحية ومع ذلك فقد استمرت الكنيسة باضطهاد العلماء، لكنها اضطرت لاحقاً إلى القبول بحكم الفلسفة الطبيعية وهي أن الأرض تدور فعلاً حول الشمس الأمر الذي دفع البابا سنة 1979 إلى الإعراب عن أسفه للمعاملة السيئة التي تلقّاها غاليليو على يد الكنيسة. دعا المحاضر إلى ضرورة التعايش السلمي المفيد بين العقل والإيمان أو الفلسفة والدين. ثم استشهد بمقولتين معبِّرتين، الأولى لابن سينا الذي قال: “بُلينا بقوم يظنّون أن الله لم يُهدِ سواهم”، والثانية لابن رشد الذي أصاب كبد الحقيقة حين قال: ” إذا أردت أن تتحكم في جاهل عليك أن تغلّف كل باطل بغلاف ديني”، وثمة ما يؤكد هذه المقولة في العديد من بلدان العالم المتخلفة. غب الانتهاء من المحاضرة شارك عدد من الحاضرين بأسئلة ومداخلات مهمة نذكر منهم الدكتور مهنّد الفلوجي، سمير طبلة، د. جعفر هادي حسن، سعد الشريفي، د. إبراهيم الحيدري وخالد القشطيني.