فاطمة المحسن
نسبت إلى فولتير عبارة كتبتها مدونة سيرته: “قد أختلف معك في الرأي، ولكنني على استعداد أن أموت دفاعاً عن رأيك”. والحق ان ايفلين هوك في كتابها “أصدقاء فولتير” لخصت مواقفه في مقولة واحدة تناقلتها أدبيات العالم كله. ذاك أن فولتير كرس أدبه وفكره في معارك نقدية طاحنة مع الكنيسة التي ينتمي إليها مذهبيا “الكاثوليك”، في وقت لم يكن من الملحدين، ومات وعلى رأسه قس كاثوليكي. وبين معاركه المشهودة، تلك التي استطاع ان يثبت فيها وحشية السلطة الطائفية في القضية الأشهر، قضية جان كالاس البروتستانتي الذي عُذب حتى الموت بتهمة قتل ابنه بعد أن تحول إلى الكاثوليكية. استطاع فولتير إبطال التهمة بعد ثلاث سنوات من النضال الشرس ضد طائفته.
لن نستقي الدرس من عصر التنوير الفرنسي، فهو بعيد عنا في هذا الظرف العصيب، ولكننا حقا نشعر بالحرج ونحن نشهد تلك الخطابات التي يدبجها المثقفون في استعادة تاريخ المظلومية الشيعية، بعد أن آلت السلطة إلى أحزابها السياسية على نحو يدعو إلى الرثاء لا إلى الفخر.
والحق أن التاريخ يمكن أن يكتب على نحو مبسط في كل الأوقات، والمثقفون ليسوا بمنجاة عن خطأ مثل هذا، ولكننا نحن شهود الحاضر، علينا التذكير، بأن الشيعة ليسوا فقط كما تصورهم تلك المشاهد التي تسعى إلى تكريسها أحزاب السلطة الجديدة: جيش من التوابين يهيمون في الشوارع حفاة معفّري الوجوه كي يصلوا إلى المراقد. فثمن ثروة العراق الجديد التي تذهب إلى جيوب العوائل الدينية وممثليها وحاشيتها في السلطة الجديدة، تحتاج إلى توظيف مثل هذا، ليس الآن بل منذ زمن موغل بالقدم.
التاريخ القريب والبعيد للعراق يقول أن بغداد العصر الملكي التي يبدأ منها المثقفون شكوى مظلوميتهم، لم تكن هي صرائف خلف السدة فقط، بل هي الكرادة والمسبح والعطيفية الكاظمية، حيث تقيم أكثر العوائل البغدادية الشيعية التي تمتعت بالثروة والجاه. ولعل العوائل الشيعية المتمكنة التي سكنت الأعظمية وسواها من المناطق، لم تكن تبحث سوى عن المكان الأكثر رحابة والأجمل موقعا كي تقيم فيه. وهؤلاء بمجموعهم مع غيرهم ممن يشبهونهم ومن طوائف واثنيات وديانات أخرى، شكلوا قوام الطبقة الوسطى التي تركت فراغا بعد أن اضمحلت زمن الحروب والحصار والهجرات. وينطبق الحال على مدن الجنوب، مثلما ينطبق على سواها من مناطق العراق. فقسمة الثراء والفقر التي يعاني منها العراق، أسبابها كثيرة، وتعاني البصرة مثل الموصل من زحف الريف عليها وإفراغها من تقاليد حياتها القديمة. ولعل تلك المشكلة من بين تجليات الإحباطات في الدول الفاشلة، حيث تعجز المدن عن الصمود أمام زحف القادمين اليها من الأرياف والمدن الفقيرة، فتستسلم لعاداتهم ولهجاتهم وتقاليدهم، بدل أن تدمجهم في مجتمعاتها لترقى بهم وتحرك دورة حياتها الاقتصادية. إذن تتساوى حصة المدن العراقية سنية وشيعية في فجيعة فقدان طبقتها الوسطى إن شئنا أن ننسب إلى هذه الطبقة أسباب التطور.
وإن أردنا استعادة تاريخ مدينة الثورة، باعتبارها مجسدة لفكرة الإقصاء، فعلينا أن نتذكر إن الاقطاع العراقي لم يكن سنياً بالضرورة. أكثر من خمسين بالمائة من اقطاعي العراق هم من الشيعة حسب بطاطو، هذا الإقطاع الذي كانت له اليد الطولى في هجرة فلاحي الجنوب، وانشاء مدينة الصفيح العراقية كما هي حال المدن التي تعج بها عواصم العالم، مدينة الثورة التي تقلب أسمها إلى أن استقر على لقب مدينة الصدر.
المدن المطرودة من جغرافيا تقاسم الثروة، يمكن أن تدافع عن نفسها بما تبقّى لها من هوامش، وليست مدينة الثورة التي أنجبت مجموعة كبيرة من المثقفين العراقيين، بحاجة إلى أن تكون نموذجا يحتذى به في الدفاع عن الطائفة المظلومة. فمن مارس التعالي على هذه المدينة، لم يكن السنة وحدهم، بل كان الشيعة الأغنياء أيضاً وهذا يعرفه أهل المدينة نفسها. اما مفردة “الشراكوة” التي تستخدم بالمعنى القدحي أو التحقيري، فهي تتداول إلى اليوم في النجف وكربلاء والكاظمية والكرادة.
إذن يحتاج المثقف كي يتذكر التواريخ أن لا يعمد كما السياسي إلى اختزالها، أو اسقاط مرويات منها. فلم يكن الشيعة يوما كتلة واحدة، ومن شاء لهم تلك الصورة، ينطلق من تبسيط مقصود يحتاجه منطق السيطرة الجماهيري، ولم تغب بعد عن ذاكرتنا تلك الصرخات التي اطلقها المثقفون وراء صدام حسين وهو يطارد الأشباح في صور شديدة الاختزال وساذجة، عن كل أعداء العراق، ويقصد بالطبع أعداءه.
لعل من أخطاء جيلنا نحن الذين عشنا في زمن ازدهار الأفكار الكلانية، شيوعية كانت أم قومية، اننا سهونا عن الطوائف والأديان، فلم نكن نعرف حتى طائفة بعض الأصدقاء الذين عاشرناهم، بل أن العوائل التي انتمينا اليها بالوراثة لم تكن على طيف طائفي واحد. وها نحن نكتشف عارنا الذي نحاسب عليه باعتباره خطيئة معرفية. نحن ايضا قرأنا علي الوردي وحنا بطاطو، ولكل قراءة كما يقول النابهون، زاوية للنظر، فليغفر لنا الكتاب الجدد خطايا القراءات التي لا تناسب مراحلهم.
نعم اضطهد الشيعة في عهد صدام مثلما اضطهد الأكراد ودمرت قراهم، وتعرضت المراقد ورجال الدين الشيعة والجنوب بأكمله إلى حملة بشعة بعد انتفاضة الجنوب والشمال. ولكن صدام حسين بدأ في حملة إقصاء الآخر منذ تمرينه المسرحي على حزب البعث في قاعة الخلد، وكان هتاف علي حسن المجيد بقطع رأس الحية: عبد الخالق السامرائي يشخص كرمز لصعود العائلة التي لم تستطع إدارة بلد شاسع مثل العراق دون سلطة القبيلة.
لعل من بداهة الأمور التي يعرفها العراقيون جيدا، إن كل الذين أداروا زنزانات صدام حسين، لم يكونوا من السنة فقط، بل أن أول مجرم في سلطة البعث الثانية تفنن في عذاب المعارضين، كان شيعيا، وأقصد ناظم كزار. وأعرف أن الذين دبجوا للطاغية مدائح وقصائد، واحرقوا البخور حوله كان أكثرهم من الشيعة. بل أن تاريخ البعث الدموي، إن تجاهلنا تواريخ العراق الدموية الأخرى، بدأ في 1963 على يد أشرس العناصر الشيعية في حزب البعث، ولن أذكر سوى اسم محسن الشيخ راضي جلاد قصر النهاية الطالع من مدينة النجف.
مسيرة حزب البعث التي انطلقت من الجنوب، شأنها شأن كل المسيرات التي مرت بمنعرجات شتى، آلت إلى يد صدام حسين في زمن حاسم من عمر العراق، زمن الفورة النفطية، فأقضت مضجعه ومضجع العراق معا. فقد بدأ يتحدث عن الحلفاء الذين يركبون الناقة خلفه ويمدون أيديهم في الخرج، ويقصد الشيوعيين. هذه العبارة أخبرني بها أحد اقربائي البعثيين في اجتماع حضره “السيد النائب”، وهي تشير إلى زمن التحول بعد أن امتلك صدام الكنز وبدأ يؤرقه.
في السبعينات كانت تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن العراق الناهض الذي سيكون مطلع الألفية الثانية في مستوى إسبانيا. ولم تكن تلك التقارير تحسب حسابا فقط للثروة النفطية، التي جعلت بلدان الخليج تتفوق على اسبانيا في مستوى معيشة الفرد وفرصه في التعليم، بل تتحدث أيضا عن نسبة المتعلمين وعدد الكوادر والاختصاصات المتطورة التي يملكها العراق. ولكن عقلية الخرج الذي يدخل الشركاء أيديهم فيه، كانت وراء هذا الخراب الذي شاء سوء حظنا ان نتجرع كأسه حتى المرارة. وها نحن نكتشف اليوم حكامنا الجدد يتحدثون عن الكيس او الخرج، الذي يمد الآخرون أيديهم إليه وهم يركبون الناقة او الفرس نفسها.
يتحدث الشاعر والأديب محمد غازي الاخرس، عن المثقفين الشيعة الذين كانوا في الهامش وأصبحوا في المتن، ولعله لا يجافي الحقيقية، ولكن هل سأل نفسه من هو الهامش الجديد في زمن صعود الهامش القديم؟ من لا تؤرقه فكرة هذا السؤال، ينتسب دون أن يدري ربما، إلى من ينذرون العراق بجولات جديدة من القهر.
المثقف لن يكون مثقفا، إن لم يكن قادرا على نقد الجماعة التي ينتمي إليها، ولن يكون مثقفا نقديا، إن لم يدرك عطوب البيت الذي يسكنه والشارع الذي يقيم فيه قبل أن يرمي زجاج البيوت الأخرى بالأحجار. كل الفكر العالمي اليوم وبالأمس تجوّل في تلك المناطق الصعبة، مناطق العطوب التي تشكو منها الأوطان والجماعات التي لا يدرك أسرار قباحاتها مثل الذي عاش بين ظهرانيها.
فاطمة المحسن
كاتبة وناقدة عراقية مقيمة في بيروت