لندن / عدنان حسين أحمد-
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية شعرية للشاعر مفيد البلداوي الذي قرأ مجموعة كبيرة من قصائده التي توزعت بين أشكال شعرية متعددة توزعت بين العمودي والتفعيلة وقصيدة النثر. وقد ساهمت الشاعرة ورود الموسوي بتقديمه والحديث عن تجربته الشعرية التي أسفرت حتى الآن عن إنجاز (24) مخطوطاً شعرياً لم تجد طريقها إلى النشر لأسباب وظروف متعددة بعضها شخصي، وبعضها الآخر عام. قالت الموسوي في معرض التقديم: “نحتفي هذا المساء بشاعر يغزل من اللغة ما يشاء من معنى، ولكأنّ هذه اللغة انصاعت له طائعة فراح يغزل منها بأصابع تشبه أصابع جداتنا بمغازلهن القديمة، بل هي يد خباز تجيد عجن قصيدتها بتأنٍ وتروٍ”. ثم أضافت في مقدمتها الوافية قائلة: ” ولأنني لا أجامل على حساب النص، ولا أجامل أحداً في الشعر أقولها بكل اعتزاز أراني اليوم أحتفي بشاعر خالف الجميع، وشق نطاق المعنى بصور شعرية تترك المستمع مبحراً في دهشته”.
قسّمت الموسوي قراءتها النقدية، أو انطباعاتها، على الأصح إلى ثلاثة أسس أو مستويات حيث جاء البُعد الرمزي أولاً، ذلك لأن البلداوي يعتمد في بناء نصه الشعري على بعض الحكايات التراثية ويُسقطها على أسطورة الوجع العراقي والهم اليومي المعاش، ومناكفة الحياة لكل ما هو عراقي، فهو لا يحتاج إلى أسطورة خارجة من بلاد أخرى، وإنما يعتمد على حكاياتنا الموروثة التي يحولها في لمسة خاصة إلى قصيدة مليئة بالشعر، ونابضة بالحياة”.
أما المستوى الثاني فيتمثل بصوره الشعرية المبتكرة وغير المكرورة التي ترتكز على ما مرّ ذكره تواً، فهو يمتلك عين الطائر التي تلتقط صوراً من يوميات الوجع العراقي أو الفرح العراقي، على قلته، ليصنع منه صوره الشعرية الآسرة”.
أما المستوى الثالث والأخير فهو بنائية الصور الشعرية المتصاعدة التي تقصد بها الموسوي أنّ الشاعر يبدأ باجتراح صورة شعرية مهيمنة واحدة ثم تتوالد منها صوراً شعرية أخرى يقوم عليها هرم القصيدة المبنية بناءً رصيناً”.
حينما انتهى الشاعر مفيد البلداوي من قراءة نصوصه الشعرية، متعددة الأشكال والمضامين، وعلى الرغم من عدم ميل الشاعرة ورود الموسوي إلى إثارة النقاش بعد الأمسية بحجة مفادها أنّ هذه الأمسية تحمل عنوان “قراءآت شعرية” لا يحتاج فيها المتلقي إلى أن يطرح أسئلته الداخلية المُؤرقة، لكن الجمهور أصر على فتح باب النقاش الذي انصب على محاور متعددة نوجزها بالآتي: ” أن الشاعر مفيد البلداوي قد ألحنَ في بعض المواضع على الرغم من جمالية النصوص التي قرأها، فالمضامين عميقة ومؤثرة، لكن بعض الأخطاء اللغوية هي التي أفسدت على المتلقين متعتهم”. وقد اعترف البلداوي بأنه على الرغم من تخصصه باللغة العربية ودراسته اللسانيات إلا أنّ هيبة المنصة، ومواجهة الجمهور، وعدم إلقائه الشعر لمدة عقد من السنوات هي التي أوقعته في هذه الهنات اللغوية التي يعترف بها، وكان يتمنى ألا تحدث”. أثار القشطيني ملاحظة جديرة بالاهتمام مفادها أن البلداوي شاعر منغمس بالجانب المعتم من الحياة فلقد ترك كل الجوانب المشرقة بالحياة وركز فقط على الهموم والمحن والمآسي الكبيرة التي مرّ بها العراقيون، ودعاه لأن يلتفت إلى الجوانب الجميلة خاصة وأنه شاب في مقتبل عمره، فالتفاؤل أجدى من التشاؤم أو من هذه النظرة الضيقة التي تركز على الموضوعات المُحزنة فقط. أما الشاعر علي حسين فقد قال بأننا لم نستمع إلى قصيدة النثر كما ذكرت الموسوي في معرض تقديمها، فقصائد البلداوي تنقسم إلى نوعين، الشعر العمودي وقصيدة التفعيلة، أما قصيدة النثر فقد يكون البلداوي كتبها، لكننا لم نستمع إليها في هذه القراءات الشعرية. كما اعترض بشدة على الهنوات اللغوية التي وقع بها الشاعر وتمنى عليه أن يتجاوزها مستقبلاً، خصوصاً وأنه مُرشح لقراءات شعرية في عدد من البلدان الأوروبية. وعلى الرغم من صحة الملاحظات أعلاه إلا أن قصائد البلداوي كانت ناجحة على الصعيد الفني، ومستوفية لشروطها التقنية، كما أنها تكشف عن شعرية الشاعر من جهة، وشاعريته من جهة أخرى، فثمة عودة مستحبة في العديد من نصوصه إلى مضارب الطفولة والصبا والشباب، وإلى دفء الأهل والخلان والأصحاب. أما اتخاذه من العراق كموضوع مهيمن فقد حرّك في المتلقين الكثير من الشجن، مثلما حركت قصيدة “بغداد” التي هي رمز لأية أم عراقية، مشاعر المتلقين ووضعتهم في دائرة الأسى التي تحاصر غالبية العراقيين تقريباً. لابد من الإشارة إلى أن البلداوي قد درس اللغة العربية وآدابها وحصل على شهادة البكالوريوس من جامعة بغداد عام 1995 قبل أن يغادر العراق إلى ليبيا عام 1998 حيث عمل مدرساً للغة العربية هناك حتى عام 2002. بدأ بكتابة الشعر في منتصف ثمانينات القرن الماضي، لكنه لم ينشر شيئاً في العراق، لكن قصائده وجدت طريقها إلى النشر في صحف ومجلات عربية متعددة في أثناء تواجده في ليبيا بين الأعوام 1998-2002. غادر البلداوي ليبيا إلى ألمانيا حيث يعمل ويعيش في القسم الغربي منها المحاذي للحدود الهولندية. لديه عدة مخطوطات شعرية بالمحكية، إضافة إلى بعض الكتابات المسرحية. ذكر البلداوي أن دواوينه المخطوطة سوف ترى النور خلال الأشهر القليلة القادمة، وختم حديثه بالقول بأنه كان ينوي القيام برحلة إلى العراق، لكن هذه الأمسية الشعرية الحميمة التي جمعته بهذا العدد الطيب من العراقيين قد عوضته عن رحلته المفترضة أو أنها شحنته في الأقل بهذا الجو العراقي الخالص الذي يعود فيه الفضل لمؤسسة الحوار الإنساني “بيت السلام” الذي يعتبره الرواد بيتاً لكل العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم الكريمة.