– سلسلة محاضرات مؤسسة الحوار الإنساني بلندن (2)
استضافت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن البروفيسور عادل الموسوي، الأستاذ الزائر في جامعة هارتفوردشاير، والاستشاري في الطب النفسي في مستشفى نورثوِك بارك التعليمي بلندن في أمسية علمية ثقافية عنوانها “الصدمات والكراهية في السياق العراقي”، وهي تكملة للجزء الأول من محاضرته الموسومة “اضطراب الصدمات الكربي” حيث تناول فيها عدد من الحالات السريرية، وبيّن مدى الترابط بين الكراهية وتأخر الشفاء عند المصابين بحالات اضطرابات الصدمات الكربيّة. ارتأى الدكتور الموسوي أن يقدّم موجزاً للمحاضرة السابقة كي يحيط الحاضرين الجدد علماً بالخطوط العريضة للأمسية السابقة، كما أشاد بالحضور الذين أسهموا في اثراء الأمسية السابقة بأسئلتهم العميقة التي أفادته وأثارت فيه الكثير من الأفكار الجديّة التي تدور في فلك الموضوع الذي يحاضر فيه، وتمنّى على الحاضرين أن يثيروا هذا النمط من الأسئلة المفيدة التي تلامس موضوع البحث ولا تشذ عنه كثيرا. ذكر الدكتور الموسوي في محاضرته السابقة بعض الأمثلة لأناس أصابتهم صدمات وأثرّت بهم كثيراً من بينهم أحد الطلاب في كلية الطب الذي فقدَ النطق عندما كان صغيراً، وسبب هذه الصدمة أن كلباً هجم عليه وعضّه من يده، كما ذكر حكاية أحد أصدقائه الذي ذهب إلى الحرب في الشمال، ولما عاد كان مصاباً بحالة من الاضطراب النفسي الشديد التي تقترب من فقدان العقل. توقف المحاضر عند فيلم “Robo Cop” للمخرج الهولندي بول فيرهوفن، المقيم في أميركا حالياً والمنهمك في أفلام الخيال العلمي. تدور قصة هذا الفيلم عن شرطي يُقتل على أيدي مجموعة من المجرمين في مدينة ميتشيغان بولاية ديترويت، لكن الأطباء يحولون هذا الشرطي إلى “إنسان آلي” حيث يأخذوا دماغه ويركّبونه على جسم فولاذي لكي يكون شرطياً آلياً في المستقبل الافتراضي. وجدير ذكره أن هناك عدداً من الأبحاث التي أُجريت في أميركا على كيفية نقل المعلومات من الخليّة الحيّة عن طريق الأسلاك إلى الإنسان الآلي الذي يوصلها بدوره إلى الجهات المعنية. وبطبيعة الحال لا يمكن القضاء على هذا النمط من الإنسان الآلي الذي يتكوّن في حقيقة الأمر من “نصف إنسان ونصف ماكينة”، وبسبب وجود هذا النصف الإنساني فإنه الشخصية الآلية تعاني من الاضطراب الكربي لأن المجرمين قتلوه قتلة شنيعة. أشار المُحاضر إلى أن الصدمات لها تأثير آني وسريع لأن الإنسان حينما يرى حادثة دهس أو اصطدام تقع أمامه ويموت بسببها كائن بشري كان يتنفس قبل لحظات فلابد أن ينصدم أو يتأثر في الأقل. وذكر الدكتور الموسوي بأن نسبة 60% من الناس يصابون بالصدمة في مثل هذه الحالات لأن متلّقي الصدمة يظل يفكر بالحادثة وينشغل بها الأمر الذي يفضي به إلى فقدان الشهية والأرق وعدم القدرة على النوم لأن الحادثة تأتيه في الأحلام والكوابيس جرّاء التأثر الآني بالصدمة، وسوف يتضاعف هذا التأثر إذا كانت الحادثة قد وقعت لشخص قريب منه مثل ابنه أو زوجته أو أخيه أو أحد أو أصدقائه. يعتبر الدكتور الموسوي أن التأثيرات قصيرة الأمد هي أمر طبيعي يتعرّض له غالبية الناس، وربما تصل النسبة إلى 60 أو 70% بالمئة من أولئك الذين يتذكرون الحادثة على شكل حلم أو كابوس أو حلم يقظة وتسمى بـ “الفلاش باك” أو التذكّر الومضي، وربما يفضي هذا التذكّر الومضي الخاطف إلى إصابة الإنسان المصدوم بالكآبة التي سوف تزول خلال مدة ستة أشهر، فنصف الذين يتعرضون للصدمة يعودون إلى وضعهم الطبيعي السابق، أما النصف الثاني فثلثهم يصابون بالتأثير المزمن طويل الأمد. بيّنت الدراسات والأبحاث العلمية بأنَّ عمّال الأطفاء ورجال البوليس هم الأكثر عرضة للإصابة بها النوع من الصدمات، بينما تقل هذه النسبة لدى أفراد الجيش، ويبدو أن التدريب المكثف والمتواصل هو الذي يحميهم من هذه الصدمات، وربما يوحون للجندي في أثناء التدريب بأنه يقاتل عدواً “إذا لم تقتله يقتلك”، أما الشرطة فهم يتعاملون مع مواطنين من نفس المجتمع الذي يعشون فيه. أورد الدكتور الموسوي مثالاً لجندي بريطاني اشترك في عدد كبير من الحروب التي خاضتها بريطانيا في أماكن عديدة من العالم، “لكنه لم يذكر اسم الشخص خشية من الملاحقة القانونية”، وحينما أُرسل هذا الجندي لكي يؤدي خدمته العسكرية في آيرلندا الشمالية وضع فوّهة البندقية في فمه وأطلق النار على نفسه وفارق الحياة. وعندما شاهده أحد الجنود الشباب أصيب بالهلع الشديد ولايزال يتذكر الحادثة بعد مرور أكثر من اثني عشرة سنة، وقد وجدت الأطباء يعالجونه من الكآبة وهو في واقع الحال لا يعاني من الكآبة وإنما من اضطراب الصدمات الكربي، ثم عالجناه وتحسنت حالته الصحية، لكنه سوف يتذكر هذه الحادثة دائماً بواسطة الفلاش باك، وربما يغادره الإحساس بالألم، لكن الذكرى لن تغادره أبدا فلا غرابة أن يكتئب، ويتعكّر مزاجه، ويتوتر بين أوانٍ وآخر.
يؤكد الدكتور الموسوي بأن هذه الحالة أُكتشفت في القرن العشرين حيث أُجريت العديد من الدراسات والأبحاث على الجنود الأميركيين العائدين من حرب فيتنام ووجدوا أن 30% من الجنود والضباط قد تغيّروا، وأن تصرفاتهم قد تغيّرت، وأصيب بعضهم بالكآبة الشديدة، وفضّل البعض الآخر العزلة على الحياة الاجتماعية، وأكثر من ذلك فإن بعضهم قد تراجع ذكاؤه، فيما أُصيب جزء منهم بالخرف! وتبيّن لاحقاً أن هؤلاء الضحايا كانوا مصابين باضطراب الصدمات الكربي.
أكّد الدكتور الموسوي بأن لكل إنسان دفاعات معينة ضد الصدمات، وذكر مثالاً لزيارة طبيب العائلة لأحد مرضاه فوجد أن سرّاقاً مسلحين قد دهموا المنزل وربطوا أهل البيت بالحبال، وعصبوا عيونهم، وطرحوهم أرضاً، وحينما دخل الطبيب إلى المنزل أُصيب بالصدمة الكربيّة، ثم حدثت له أزمة قلبيّة ترك إثرها العمل لأن هذه الصدمة قد غيّرت حياته بالكامل، بينما لم يتأثر زوج المريضة، إذ ذهب إلى عمله في اليوم نفسه وأعتبر ما جرى أمراً طبيعياً يمكن أن يحصل في أي وقت. والعبرة من هذا المثال أن الحواداث لا تصدم كل الناس بالضرورة، ولكنها تصيب عدد لا بأس به.
حوادث الاغتصاب والتعذيب
يشير الدكتور الموسوي إلى أن الناس المعرّضين للإصابة باضطراب الصدمات الكربي هم ضحايا الاغتصاب والتعذيب، وأن تأثير الاغتصاب على الرجال أكبر من النساء، وإذا كان تأثير الاغتصاب على النساء يشكّل نسبة 30% فإن التأثير على الرجال قد يصل إلى 70%، ولكن ضحايا الاغتصاب غالباً لا يذهبون إلى الطبيب بغية تلقي العلاج لأسباب اجتماعية معروفة في العراق والبلدان العربية والعالم الإسلامي. وفيما يتعلق بضحايا التعذيب فإن الضحية يخشى من شيئين الأول أن يفقد حياته، وهذا الأمر ينطبق على الناس القريبين منه مثل أحد أفراد عائلته أو أحد أصدقائه، والثاني أن الضحية يشعر بأنه لا مَخرج أمامه. ينصح الأطباء النفسايون في مثل هذه الحالات على تقوية دفاعات الإنسان كأن يدرِّبونه على أن يعِّد من الواحد إلى الثلاثة قبل أن يصرخ أو يطلق آهة الألم والتوجّع، وعملية العدّ أو الحساب تعزل مسألة الألم، وتمنح الضحية نوعاً من السيطرة على دفاعاته الشخصية، وتقلل من فرص الانهيار، كما تغيظ الجلّاد في الوقت نفسه. يؤثر التعذيب على الجانب الجسدي والعاطفي والفكري للضحية وسوف تبقى هذه التأثيرات لمدة زمنية طويلة. يورد الدكتور الموسوي مثالاً لأحد الضحايا العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب في حقبة النظام الاستبدادي السابق، إذ ربطوا عضوه التناسلي الذكَري بسلك، وصعقوه بالتيار الكهربائي عدة مرّات ولم يستطع أن ينسى هذه الصدمة التي ظلّت تعاوده بعد أكثر من عشرين سنة على مغادرته العراق. أكثر الناس عرضه للإصابة باضطراب الصدمات الكربي هم الشرطة والصحفيون ورجال المطافئ وموظفوا الإسعافات الأولية وحرّاس السجون وما إلى ذلك، كما تتعرّض النساء بعد الولادة إلى هذا النوع من الصدمات المروّعة، وقد ذكر الدكتور الموسوي حادثة عن امرأة أجريت لها العديد من العمليات الجراحية الفاشلة الأمر الذي أدى إلى إصابتها بالصدمة الكربيّة التي ذكرنا أعراضها سابقاً. تتزايد نسبة التعرّض للإصابة بهذه الصدمات الكربيّة عند الأطفال في البلدان المتوتِّرة والمأزومة مثل فلسطين ولبنان والعراق، إذ يلعب العنف والتعذيب والقتل الجماعي والإرهاب دوراً كبيراً بزيادة نسبة الإصابة بهذه الصدمات الكربيّة، وتأكيداً لما يذهب إليه عرضَ الدكتور الموسوي نماذج لأطفال عراقيين مرعوبين بسبب عمليات الدهم التي تقوم بها مجاميع من قوات الجيش الأميركي في العراق الأمر الذي أدّى إلى إصابتهم باضطراب الصدمات الكربيّة، وذكر بأن الطفلة المرعوبة التي أرانا صورتها الهلعة قد أُجريت عليها العديد من الأبحاث العلمية. وقد تأثر الدكتور الموسوي نفسه حينما شاهد مثل هذه الصور المروّعة في العراق على الرغم من أنه عمل في هذا المضمار قرابة ربع القرن، ورأى العديد من الضحايا، واشتغل طبيباً جرّاحاً، ومحللاً نفسياً، لكنه أشار إلى صعوبة التعوّد على هذا النمط من الضحايا خصوصاً إذا كانوا أطفالاً أو شباناً يافعين. وفيما يتعلّق بنسبة الإصابة بين الناس فهي تختلف بحسب المهن والأعمار، فإذا كانت الإصابة بين الناس العاديين هي من واحد إلى ثمانية، فإن نسبة الإصابة بين الجنود والضباط الأميركيين العائدين من فيتنام قد تصل إلى ثلاثين بالمئة، وهكذا ترتفع النسبة أيضاً بين أفراد الشرطة، وعمّال الأطفاء وغيرها من المهن الصعبة نوعاً ما. تكثر حالات الإصابة باضطراب الصدمات الكربيّة عند العراقيين الذين تعرضوا للتعذيب وهربوا على إثرها من العراق، وأورد الدكتور مثالاً لأحد أصدقائه الذي غادر العراق قبل ثلاثين سنة، لكنه لا يزال يحلم بين أوانٍ وآخر بأنه قد سافر إلى العراق وقبض الأمن عليه، وبدأوا بتعذيبه، الأمر الذي يفضي به إلى الأعراض آنفة الذكر، وقد أسمى الدكتور هذه الحالة بإصابة هذا المريض باضطراب الجهاز العصبي السمبثاوي حيث يشعر المريض باكتئاب خفيف، وشعور بالصدمة الكربيّة الجزئية. لاحظ الدكتور الموسوي خلال زياراته الأخيرة للعراق أن الكثير من الأطفال قد تعرضوا إلى حالات بشعة من الإيذاء بأشكاله المتعددة جسدياً وجنسياً الأمر الذي أدّى إلى إصابتهم بالصدمات الكربيّة القاسية خصوصاً وأن المجتمع العراقي والعربي عموماً يعامل الضحية وكأنه مجرم وليس ضحية مغلوب على أمره.
ظاهرة الكراهية
أشار الدكتور الموسوي بأنه يتناول الكراهية كموضوع اجتماعي، وأنه دخل في صلب اهتماماته عن طريق الصدمات الكربيّة، فكثير من الناس الذين يصابون بهذه الصدمات يكرهون الناس المسببين لها، ومن الطبيعي أن يكره الضحية جلّاده أو الشخص الذي اعتقله وسبّب له الألم حيث تطغى هذه القضية على مشاعره النفسية ويبدأ بالتفكير بالانتقام. إن الإحساس بالكراهية يساعد الضحية على الشعور بتحقيق العدالة ومن دونها فإن العدالة لا تتحقق. إذن، أن الكراهية هي جزء من الحالة الطبيعية المرتبطة بالأخلاق العامة ولها تأثير أخلاقي معياري. توقف الدكتور الموسوي عند تصريح البارونة سعيدة حسين وارسي الذي سبّب اهتياجاً في الصحافة والإعلام البريطانيين وخرجت إثره مظاهرة في الطرف الأغر حيث كتب المتظاهرون بالشموع كلمة “Hate” احتجاجاً على مشاعر الكراهية الموجهة ضد المسلمين في بريطانيا. وقد جاء في إحدى تصريحاتها ما نصه:” أن العديد من البريطانيين ينظرون إلى التمييز العنصري ضد المسلمين في بريطانيا على أنه أمر طبيعي وغير مثير للجدل”. وجدير ذكره أن البارونة وارسي، باكستانية الأصل، بريطانية المولد والنشأة، هي محامية وسياسية بريطانية، ووزيرة من دون حقيبة وزارية في حكومة ديفيد كاميرون.
أشار الدكتور الموسوي أن من حق الضحية أن تكره جلادها، فالطفل يكره المجرم الذي سبّب له الأذى، والناس المتضررين في العراق يكرهون صدام حسين لأنه آذاهم وألحق بهم الضرر. والعراقيون عموماً يكرهون “أبو طبر” الشخصية الغامضة التي روّعت الناس في حقبة صدام حسين، لأنه مجرم وإرهابي قتل العديد من الضحايا بطريقة وحشية لم يألفها العراقيون من قبل، وهذه الشخصية المروّعة هي من صنع الذهنية الصدّامية بامتياز. أما الكراهية في بريطانيا وأغلب البلدان المتقدمة هي جريمة يعاقب عليها القانون وفعل غير مسموح لأنه ينطوي على التمييز ضد فرد أو فئة محددة من الناس لأسباب دينية أو عرقية وما إلى ذلك.
القاعدة الثلاثية
وضّح الدكتور الموسوي بأن الكراهية تسبب نوعاً من المشاعر المُحددة تجاه الشخص الذي يسبّب لك الأذى، ويلحق بك ضرراً مادياً أو معنوياً أو نفسياً، وقد حصر الدكتور هذه المشاعر بثلاثة نقاط وهي كالآتي:” يقوم الشخص المُتضرر بإنكار الألفة، أي أنه لا يقبل هذا الشخص، ولا يريده أن يقترب منه. أما النقطة الثانية فهي تولد العنصر الانفعالي للكراهية، أي أنه يشعر بنوع من التهديد للعنصر الذي يكرهه، كما يسبّب له الخوف والاشمئزاز كأن يقول هذا يسمّم بدني للتعبير عن الجانب الانفعالي، أما العنصر الثالث والأخير فإن المتضرر يقطع على نفسه عهداً بأن يكره الشخص الذي يسبب له ألماً وقهراً متواصلين فيحاول أن يسقّطه بكل الوسائل المتاحة كأن ينشر عنه أخبار سيئة في وسائل الإعلام، وهناك دول تتبع سياسة التسقيط حينما تتحدث عن المعارضين بصورة سيئة وتشوّه سمعتهم”. ذكر الدكتور شيئاً طريفاً عن دراسة أُجريت بلندن حيث وضعوا رأس إنسان في جهاز طبي يصوّر عمل المخ، ثم عرضوا عليه صوراً لأناس يكرههم، وصوراً أخرى لأناس يحبهم، وصوراً ثالثة محايدة واكتشفوا أن الأماكن التي تشتغل لتفعيل مشاعر الكراهية هي نفس الأماكن التي تعمل على تفعيل مشاعر الحب، فالكراهية ليست نقيضاً للحُب من الناحية الفسلجية، ولكن هناك نواحٍ فكرية وروحية ونفسية أعمق من موضوع الخلايا التي تولّد هذه المشاعر المتداخلة سواء للكراهية أم للحُب. وهذا الأمر يثبت أن الإنسان يتوفر على جانب روحي أعمق من الجانب المادي.
الكراهية والأخلاق الاجتماعية
ترتبط الكراهية بالأخلاق أو القيم الاجتماعية بحسب الدكتور الموسوي، ومثلما ربط الكراهية بتحقيق العدالة فإن الكراهية ترتبط بالقيم الاجتماعية بقدر أو بآخر. يلجأ الضحية إلى كراهية الإنسان أو المؤسسة أو الحكومة التي تلحق به وبأفراد عائلته وأصدقائه وأقربائه ضرراً ما، بل أن الإنسان يتعاطف حتى مع الناس الذين لا يعرفهم ولا يرتبط معهم بصلة قرابة. ذكر الدكتور مثالاً لضحية قُتل بواسطة أمه وصديق أمه، وقد تعاطفنا معه لكونه ضحية وكرهنا المجرمَين اللذين ارتكبا فعل القتل. كما أشار الدكتور إلى حادثة الطفلة المتخلفة عقلياً التي كانت تعيش مع أمها في إنكلترا وقد أحرقت نفسها هي وابنتها لأن الناس كانوا يعتدون عليهما كثيراً، ويضربونهما، ويبصقون بوجهيهما. وهذه الحالة تذكّرنا بحالات مشابهة لمعاملة الناس المتخلفين عقلياً الذين يضربونهم، ويسخرون منهم، ويجعلون منهم أمام الملأ.
كما ذكّرنا الدكتور بالحادثة المروّعة التي هزّت الضمائر الإنسانية في كل مكان من سكّان هذه المعمورة حينما أشار إلى المجرم جوزيف فريتزل، المهندس الكهربائي النمساوي الذي قام باحتجاز ابنته إليزابيث لمدة أربع وعشرين عاماً في قبو عازل للصوت في أسفل منزله، وقام باغتصاب ابنته بشكل متكرر أسفر عن إنجابها سبعة أطفال بينما أجهضت الثامن. وقد برزت هذه الحادثة إلى السطح في أبريل / نيسان عام 2008م حيث تناقلت القنوات الفضائية ووكالات الأنباء كيفية استدراج المجرم لابنته إلى سرداب المنزل، ثم قيامه بتخديرها وتوثيق يديها قبل أن يقْدم على اغتصابها.
أما الحادثة الأخرى الأكثر بشاعة وترويعاً من سابقاتها فهي إقدام الطبيب البريطاني هارولد فردريك شيبمان الذي قتل “218” مريضاً حيث زرق مرضاه جرعات قاتلة من مخدّر المورفين ثم أقدمَ على الانتحار بشنق نفسه في زنزانة في سجن ويكفيلد في يناير 2004م. ثم عرّج الدكتور على الحادثة المفجعة لمروة علي الشربيني، الصيدلانية المصرية التي قُتلت على يد المجرم الألماني أليكس دبليو فينز الذي طعنها 18 طعنة في ثلاث دقائق فقط بعدما وصفها بالإرهابية لأنها ترتدي الحجاب. يستنتج الدكتور بواسطة هذه الحالات المؤسية أن زيادة العنف اللامبرّر وإلحاق الأذى بالآخرين هو الذي يسبّب مشاعر الكراهية عند الضحايا المصابين بالصدمات الكربيّة.
أثار الدكتور الموسوي سؤالاً مهماً يتمحور حول تأثير العنف والقمع والاستبداد على الأفراد خاصة والمجتمع بصورة عامة؟ وقال إن هذا حقلاً جديداً في المهنة وتمنى أن يتمكن الأطباء والمعنيين في العراق من كتابة أبحاث ودراسات حول مظاهر العنف التي شهدها العراق خلال السنوات الأخيرة التي بدت وكأنها ثقافة اجتماعية. أن تكريس مظاهر العنف والكراهية تؤدي من دون شك إلى تفكيك المجتمع وتجزئته إلى طوائف وعصبيات متصارعة تأخذ غالباً الطابع البدائي أو الغرائزي القائم على الانتقام وتحقيق الغلبة على الجماعات الأخرى. يجب علينا جميعاً، كما يذهب الدكتور الموسوي، أن لا نكرّس ثقافة العنف والتعصب الغرائزي الأهوج، وإنما نسعى إلى التأسيس لثقافة نفسية يتسيّد فيها ميزان العدالة بحيث يميّز الإنسان بنفسه الخطأ من الصواب. ومعروف بأن الإنسان الذي يتعرّض للقمع والظلم المتواصلين ويُصاب بصدمات كربيّة متعددة لابد أن يختّل عنده هذا الميزان ولا غرابة في أن يُصبح هذا الضحية أحد دعاة تفكيك المجتمع، وتقطيع أوصاله، وتحويله إلى مجموعات إثنية وقبليّة وعرقيّة تتقاتل على وفق مفهوم الانتقام والغلبة. يورد الدكتور الموسوي مثالاً لامرأة قُتل ابنها في أفغانستان وتريد الانتقام من كل الأفغانيين المقيمين في إنكلترا. يقول الدكتور نحن نتفهم هذه المشاعر الناجمة عن الفقد والخسارة التي لا تعوّض، ولكن لا يجوز الانتقام من الآخرين. وفي السياق ذاته تحدث الدكتور عن حالات التفجير التي يستهدف القائمون بها الناس البسطاء الذين لا ناقة لا لهم ولا جمل. ويورد مثالاً عن تفجير “الصدرية” الذي استشهد فيه أخيه الذي لم يجتز عامه الخامس والعشرين، فلا غرابة أن تتولد لدى أسرته الرغبة في الانتقام، ولكنه لم يكن يقصد نفسه طبعاً، فهو طبيب متخصص في العلاج النفسي وربما يمتلك دفاعات شخصية حصينة تمنعه من السقوط في فخ الرغبة الانتقامية التي تتواجد عند الضحايا المصدومين. يؤكد الدكتور الموسوي بأن مشاعر الانتقام موجودة عند ذوي الضحايا، ولا يستطيع أن يقول عنها غير صحيحة، ولكنه يتمنى علاجها بواسطة تحقيق العدالة لكي لا نضطر إلى وسيلة الانتقام المُشار إليها سلفاً. استشهد الدكتور الموسوي بظاهرة إيذاء الأطفال داخل العراق وخارجه أيضاً وقال إنه ليس من الغريب أن ترى آثار الضرب المبرّح والكدمات على الأطفال العراقيين في الداخل والخارج وتحدث عن أحد الآباء الذي ربط ابنه وبدأ يضربه بالحزام الجلدي لأنه سرق، ويستغرب من دهشة الطبيب لهذه المعاملة متسائلاً: ألا تضرب ابنك إذا ما سرق؟ لقد تصوّر الأطباء البريطانيون أن هذا الأب مختل عقلياً، وقالوا إذا كان مختلاً فسوف نعالجه وإذا كان طبيعياً فيجب أن نسجنه. كما ذكر حادثة مؤسية لطالب عراقي وضع “الستكر” على جبينه فضحك الطلاب، وحينما ضبطه المعلم بدأ يشمته ويكيل له أقذع أنواع السباب، ثم جلب حجرة خشنة من خارج الصف وبدأ يحك بها جبينه إلى أن نفر الدم من جبهته الرقيقة.
تحدث الدكتور الموسوي عن كلمة “الشماتة” وقال بأن الإنكليز يستعيرون الكلمة الألمانية “Schadenfreude”، أما الإنكليز فلديهم كلمة “Gloating over another’s grief” المقاربة لكلمة الشماتة وهي تعني من بين ما تعنيه”Glee at another’s misfortune” وقال بأن الشماتة لها جوانب نفسية تتعلق بالكراهية لأن الإنسان يفرح بمآسي الآخرين الذين سببوا له الأذى. استغرب الدكتور الموسوي أن ضحايا الاعتداء الجنسي في مجتمعنا العراقي والعربي يصابون بوصمة اجتماعية لأن المجتمع لا يعتبرهم ضحايا وإنما ينظر إليهم كمجرمين لمجرد أنهم أصحبوا ضحايا لهذا النوع من العدوان! فلا غرابة أن يعاملوا باحتقار وإزدراء لأن المجتمع لم يحمِهم هو الآخر وإنما شجع على إزدرائهم والنظر إليهم نظرة دونية فيها الكثير من الاجحاف والتجنّي. كما دُهش الدكتور الموسوي للمعاملة السيئة لأصحاب العاهات أو الاحتياجات الخاصة مع الأخذ بنظر الاعتبار أن الإنسان لا علاقة له بالعاهة التي تصيبه ثم استشهد بالآية القرآنية التي تقول” ليس على الأعمى حرج ولا على الأعرج حرج ولا على المريض. .” إلى آخر الآية الكريمة وتأسف لأن المجتمع العراقي يتعامل بازدراء مع أصحاب العاهات المستديمة، كما قارن بين التعامل المجتمعي في الغرب الذي يولي ذوي الاحتياجات الخاصة أهمية كبيرة ويقدّم لهم كل أشكال الدعم والمؤازرة وبين المجتمع العراقي الذي ينظر إليهم نظرة دونية تتعارض مع القيم والتعاليم الإسلامية السمحاء.
خلاصة المحاضرة
إن اضطراب الصدمة الكربي قد ينشأ من التعرض لحادثة مروّعة أو مشاهدة أحداث قاسية وقعت لأناس آخرين وتعرضوا إلى أذىً بليغ أو اعتداء جنسي أو تهديد لحياتهم أو موتهم بحيث لا تتحمّل الدفاعات النفسية للمريض تلك الصدمة. يتعرض إلى هذه الصدمات الكربيّة غالبا أفراد الجيش والشرطة وعمّال المطافئ ورجال الطوارئ وضحايا الاختطاف والتعذيب وأسرى الحرب وضحايا الكوارث الطبيعية كالبراكين والزلازل والهزّات الأرضية وما إلى ذلك، كما يصاب بها ضحايا حوادث السير وأصحاب العاهات المستديمة والمرضى المصابين بالآيدز والسرطان والأطفال الذين يتعرضون “للتنمّر” والتحرّش والاعتداء الجنسي. يعاني المرضى الذين يتعرضون للصدمات الكربية من أعراض واضحة أبرزها تكرار تجربة الصدمة على شكل استذكار ومضي للأحداث المروّعة التي وقعت لهم أو على شكل أحلام وكوابيس، كما يعانون من الأرق وعدم القدرة على النوم وتعكّر المزاج. وينصح الأطباء النفسانيون بضرورة تجنّب المريض لأية مثيرات تذكِّر بالصدمة كالحديث عنها ومحاولة استرجاعها. وإذا طالت مدة الصدمة فمن المحتمل جداً أن يشعر الإنسان بالعزلة وربما ينقطع تواصله مع المجتمع، وبالتالي فإنه سوف يُشخَّص فعلياً بأنه مصاب باضطراب الصدمة الكربيّة. تفيد الأبحاث والدراسات الأميركية بأن نسبة الصدمات الكربية لدى النساء هي أكبر منها لدى الرجال في المجتمع الأميركي.