ضيفت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن ، يوم الأربعاء الموافق 21 نيسان/أبريل 2021 على منصة زووم الدكتور غسان العطية في أمسية ثقافية تحدث فيها عن جوانب من التجربة السياسية للحكم والمعارضة في العراق المعاصر.
غسان العطية، ولد في بغداد، وحصل على بكالوريوس في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت عام 1963 ، وكان في شبابه المبكر قد انتظم بالعمل السياسي في صفوف حركة القوميين العرب، سافر الى بريطانيا من اجل اكمال دراسته ونال شهادة الدكتوراه في جامعة إدنبرة باسكتلندا عام 1968 في العلوم السياسية .عمل بعد تخرجه مدرسا في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة بغداد، وتولى عام 1972 مسؤولية ادارة مركز الدراسات الفلسطينية التابع للجامعة، ثم انتقل فيما بعد مستشارا للوفد العراقي للأمم المتحدة في نيويورك. وقد استقال من وزارة الخارجية العراقية عام 1974 وعاد للعمل في جامعة بغداد حتى إعارة خدماته الى جامعة الدول العربية في مقرها الجديد في تونس بين عامي 1980 – 1984، انتقل بعدها الى العاصمة البريطانية لندن. بعد احتلال الكويت عام 1990، عاد الى العمل السياسي وقام باصدار مجلة الملف العراقي التي باتت مصدرا توثيقيا للشأن العراقي واستمر الملف بالصدور قرابة 15 سنة ، اي لغاية عام 2005. عمل الدكتور العطية باحثًا زائرًا في جامعة ستانفورد عام 2006. وهو مؤلف كتاب العراق : نشأة الدولة, 1908-1921.
المقدمة
إنْ خير مقدمة هي ما كتبه الملك فيصل الأوّل عام 1932 في مذكرة أرسلها لعدد من القادة العراقيين آنذاك، قال فيها:
(العراق مملكة تحكمها حكومة عربية سُنية مؤسسة على أنقاض الحكم العثماني، وهذه الحكومة تحكم قسماًكردياًأكثريته جاهلة، بينه أشخاص ذوو مطامع شخصية يسوقونه للتخلي عنها بدعوى أنها ليست من عنصرهم. وأكثرية شيعية جاهلة منتسبة عنصرياً إلى نفس الحكومة ألا أنَّ الاضطهاد الذي كان يلحقهم من جراء الحكم التركيالذي لم يمكّنهم من الاشتراك في الحكم، وعدم التمرن عليه، والذي فتح خندقاًعميقاً بين الشعب العربي المنقسم إلىهذين المذهبين، كُلّ ذلك جعل مع الأسف هذه الأكثرية، أو الأشخاص الذين لهم مطامع خاصة الدينيون منهم، وطلابالوظائف بدون استحقاق، والذين لم يستفيدوا مادياً من الحكم الجديد يظهرون بأنّهم لم يزالوا مضطهدين لكونهم شيعة…)
ويمضي في وصف الانقسامات الأثنية والطائفية الداخلية ليتوصل للقول: (وفي هذا الصدد وقلبي ملآن أسى إنّه فياعتقادي لا يوجد في العراق شعب عراقي بعد، بل توجد تكتلات بشرية، خالية من أية فكرة وطنية، متشبعة بتقاليدوأباطيل دينية، لا تجمع بينهم جامعة، سماعون للسوء، ميالون للفوضى، مستعدون دائماً للانقضاض على أية حكومةكانت، فنحن نريد، والحالة هذه، أنْ نشكل من هذه الكتل شعباً نهذبه، وندربه، ونعلمه، ومن يعلم صعوبة تشكيل وتكوينشعب في مثل هذه الظروف، يجب أنْ يعلم عظيم الجهود التي يجب صرفها لإتمام هذا التكوين وهذا التشكيل هذا هوالشعب الذي أخذت مهمة تكوينه على عاتقي، وهذه هي وجهة نظري فيه). انتهى الاقتباس.
حال الحكم والمعارضة والوضع السياسي
واليوم وبعد ما يقارب التسعين عاماً أجد وللأسف أننا لا نزال في المربّع الأوّل من مسيرة بناء الدولة، بل قد ينتهيالأمر بتلاشي العراق المستقل الذي عرفناه لصالح أقاليم ودويلاتطائفية وأثنية تابعة لدول أخرى.
الإصلاح في عالمنا أشبه بعملية تنظيف السُلَّم يجب أن يبدأ من الأعلى نزولاً للأسفل، والشعوب التي أتيح لها أن يتولىالحكم فيها قادة أمثال غادي ونهرو ومنديلا ومهاتير استطاعت أنْ تحقق لشعوبها ما عجزت عنه قياداتنا العراقية.
إنَّ مَنْ لم يتعلم من تجارب الماضي محكوم عليه بتكرارها، ولكن بثمن أكبر وإنْ كان العراق لا يخلوا من مفكرينومثقفين استفادوا من تجارب الماضي إلا أنَّ العملية السياسية غيبتهم لصالح قلة محكومة بفكر سلطوي أو طائفي أوعنصري. وأذكر على سبيل المثال وليس الحصر شخصيات خسرها العراق: جعفر العسكري، جعفر أبو التمن، حسينجميل، فاضل الجمالي، عبد الرحمن البزاز، سعيد قزاز، يوسف غنيمة، ساسون حسقيل، صديق شنشل، والشيخ مهديكبة، وآخرين.
وفي العراق لم نخسر كفاءات وطنية فحسب بل مكونات بشرية بدأ باليهود الذي تمتد جذورهم في العراق لآلافالسنين، واليوم نشهد خسارة مسيحي العراق الذين تمتد جذورهم لعشرات القرون.
كما عاني العراق من معارضات غالباً ما كانت – عند استلامها السلطة – أسوأ ممن سبقهم. وإذا شهد العراق قبل ثورة1958 أحزاب عراقية المنبت كحزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي ولكن للأسف لم يستطع رجال العهدالملكي من استيعابهم فانتهى الأمر بانقلاب عسكري ليدشن سلسلة من الانقلابات العسكرية.
وللأسف كانت معظم أحزاب ما بعد 1958 متلقية فكراً ودعماًمن قوى خارجية، بدءًا بالحزب الشيوعي الذي استمدّفكره ودعمه من الأممية الشيوعية بقيادة السوفييت مروراً بالقوميين وتبعية معظمهم لمصر الناصرية أو دمشق البعثية،وصولاًللإسلاميين بشقيهما (السُني والشيعي) بقوى الإخوان المسلمين أو إيران الخمينية كُلّ حسب انتمائهم الطائفي،بعبارة أخرى خسرنا عراقيتنا.
أما المعارضة العراقية لنظام صدام حسين فقد زادت الطين بلة برهن مصيرها بالاحتلال الأمريكي من جهة، وبعضدول الجوار وبالذات إيران والسعودية من جهة ثانية، بدلاً من أنْ تتوحد وتناضل من أجل التغيير من منطلق عراقيموحّد في رؤيته لما بعد نظام البعث.
أما أحزاب معارضة الخارج فكان همها الوصول للسلطة بغض النظر عن الوسيلة ودون الاتّفاق على رؤية مشتركةلمرحلة ما بعد الاحتلال الأمريكي، فكانت أولوية الأحزاب الكردية تحقيق المصالح القومية الكردية، وأولوية الأحزابالإسلامية الشيعية الاستئثار بالسلطة باسم المظلومية، فالطائفية والمحاصصة بدأت في صفوف المعارضة قبل استلامهاالسلطة.
وهكذا استمرّت الحلقة المفرغة القائمة على إلغاء الآخر، بدءاً من تجريم الحزب الشيوعي في العهد الملكي إلىاضطهاد البعث على يد الشيوعيين في عهد عبد الكريم قاسم، انتقالاًإلى حكم البعث الأوّل والثاني واضطهاد كلّمعارض خاصة الإسلاميين (الشيعة)، وصولاً إلى ما بعد الاحتلال وإصدار قانون اجتثاث البعث لا ليحاسب من أجرمبل ليكرس سياسة الإقصاء والحقد، علماً بأنَّ هناك الآلاف من ضحايا نظام صدام هم من البعثيين.
إنَّ افتتاحيات الجزء الثاني تمتد لما بعد الاحتلال وتؤشر للكثير من الأخطاء والخطايا التي سببها – من جهة – النظامالسابق بحرمان العراق من معارضة تعيش في العراق، وبرفضه المراجعة والإصلاح وتحقيق المصالحة الوطنية،ومن جهة ثانية المعارضة العراقية التي استلمت الحكم لتتقاسم الكعكة العراقية باسم الطائفية والمحاصصة وجد كاتبالسطور نفسه متهم بالتبعية للنظام لموقفه المعارض للعقوبات الأمريكية على العراق وعلى شنّ الحرب عليه. وبالمقابلأهدر النظام دم غسان العطية وحجز أمواله المنقولة وغير المنقولة.
إنَّ خيبة الأمل بالتغيير الذي حصل لا تتحمله الولايات المتحدة فقط التي كان ممكن أنْ تؤسس لعراق على غرار ألمانياواليابان وكوريا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثانية، بل تمتد خيبة الأمل لتشمل الأحزاب والشخصيات العراقية التيتصدت للحكم في العراق.
فعراق اليوم هو ضحية من تولى الحكم من أبنائه بعد الاحتلال، وأطماع جيرانه وأخيراً وليس آخراً استخدامه كورقةفي الصراع الأمريكي الإيراني، فأمريكا تحملنا أخطاءها في تسليم العراق «على طبق من ذهب لإيران» لتعاود اليوملاستخدام العراق ضدها.
إنَّ بارقة الأمل التي ينشدها كلّ عراقي هي سوح الاحتجاج والتظاهرات السلمية بقيادة جيل لا تحكمه عقدالماضي.وكتابي هذا مساهمة متواضعة من أجل رؤية مستقبلية لعراق مسالم تتعايش فيه كُلّ مكوناته تحت مضلةالانتماء الوطني في وطن موحّد يتمتع فيه العراقي بالحرية والمسؤولية والرخاء والأمن والاستقرار.