– عدنان حسين أحمد
16 مايو 2012
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية انضوت تحت عنوان “الحوار المسيحي الإسلامي” تحدث فيها الأب حبيب هرمز النوفلي، راعي الكنيسة الكلدانية في بريطانيا والسيد وسام ترحيني، ممثل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بريطانيا، فيما اضطلع بإدارة الأمسية الأستاذ غانم جواد. استهل الأب حبيب النوفلي حديثه عن “دور المسیحیین الثقافي في بلاد ما بین النھرین” مُركِّزاً على الجوانب الثقافية فقط كي يتمكّن من اختصار جهود شعب لمدة ألفي سنة في مدة زمنية قصيرة لا تتجاوز نصف الساعة. ذكر النوفلي بأن الشخصية المسيحية مجبولة على الانفتاح وحب المعرفة والفنون، ويعتبر راعي الكنيسة مُعلِّم أبنائها، أما كنيستهم فهي مُعلّمة لشعبهم.
مقدمة تاريخية
أشار النوفلي إلى أن مقر الكرسي البطريركي لكنیسة المشرق قد تمّ اكتشافه في منطقة المدائن عام 1929ضمن بقايا كنيسة مبنية على أنقاض كنيسة أخرى. يعود التواجد المسيحي في وادي الرافدين إلى القرون الأولى حيث أُنشئ أول مقر لكنيسة المشرق في سلمان باك واستمر حتى القرن الرابع، ثم انتقل في القرنين الخامس والسادس إلى الحيرة لكنه عاد إلى سلمان باك مرة أخرى في القرن السادس، ومنها إلى بغداد، ثم إلى سامراء منذ القرن الثامن حتى القرن الثالث عشر حيث ازدهرت المسيحية إلى حد أنھا كانت تُرسِل بعثاتٍ تبشیریةً وصلت إلى الصین في القرن الثامن المیلادي، لكنها ما لبثت إن ضعفت خلال هجمات هولاكو وجنكيز خان عام 1258.
ذكر النوفلي بأن المسيحية قد عانت كثیرا بسبب الإحتلال العثماني الذي اعتبرھا طائفة معزولة، وأجبروا أتباعها على دفع الجزیة والإتاوات والضرائب. لم يسلم المسيحيون من المذابح في ظل الاحتلال البريطاني وما تلاه من عقود حيث هدم النظام البعثي عشرات القرى المسيحية منذ أواسط السبعينات حتى عام 1990. كما طالت الحرب العراقية الإيرانية أبناء هذه الطائفة، إذ ضحّى المسيحيون بفلذات أكبادهم أسوة ببقية العراقيين حيث ترمّلت النساء وتيتّم الأطفال الأمر الذي دفع مئات الآلاف منهم إلى الهجرة إلى أوروبا وأميركا وكندا وأستراليا بعد الهجوم الإنكلو-أميركي على العراق في عام 2003 بحيث لم يبقَ من أصل مليون وربع المليون مسيحي سوى ثلث هذا العدد الذي لا يتجاوز الثلاثمائة ألف في أفضل الأحوال.
اللغة الآرامية
ذكرَ النوفلي بأن سكان وادي الرافدين والمناطق المجاورة له سواء أكانوا عبريين أم آشوريين أم فرس كانوا يستعملون اللغة الآرامية في نشاطاتھم الثقافیة وتعاملاتھم التجاریة وحیاتھم الیومیة وظلت مهيمنة حتى مجيء الإسلام وحلول اللغة العربية محلها. فقد اقتبس النحويون المسيحيون من اللغة اليونانية عدداً كبیراً من الألفاظ والمصطلحات الدینیة والعلمیة وسریّنوھا، كما أخذوا قواعد اللغة اليونانية وطبّقوها على اللغة السريانية، فاهتمت المدارس بدراسة اللغة الآرامية وخطوطها كالخط الكوفي الذي كان أصلا خطاً آرامياً یسمى بـ “أسطرنجیلي” لأنه كُرس لكتابة الإنجيل. كما وجهوا عنايتهم صوب آداب اللغة اليونانية وشعرها فترجموا الإلياذة والأوديسة. كما برعوا في فن الترجمة من اليونانية تحديداً إلى العربية لدرجة أن خلفاء الدولة الأموية والعباسية قد استعانوا بهم في ترجمة الكتب العلمية والأدبية على حد سواء.
المدارس في بلاد ما بين النهرين
أشار النوفلي بأن بغداد في القرن الثامن كان فيها نحو 15 كنيسة، ولكل كنیسة مدرسة مُلحقة بھا. كما نوّه المحاضر باكتشاف 33 دير وكنيسة خلال السنوات الأخيرة في مدينتي كربلاء والنجف. وخلص إلى القول بأن المدارس كانت منتشرة بالمئات في وادي الرافدين، وأن هذه المدارس كان فيها مكتبات تضم الكثير من الكتب المُؤلفة والمترجمة لأرسطو وجالینوس وأبقراط وكبار علماء ذلك العصر. كما توقف النوفلي عند خمس عشرة مدرسة معروفة منها مدريسة مار ماري، ودير مار عبدا، ودير مار متي والرها ونصيبين وغيرها.
قدّم الأب النوفلي قراءة تاريخية لدور المسحيين في العصور الوسطى لكننا سنكتفي بالإشارة إلى الفهرس الذي أعدّه بنفسه عام 2002 والذي يضم نحو 640 اسماً من الكُتّاب والمترجمين الكلدان والآشوريين السريان الذين ساهموا في نشر العلوم والثقافة منذ عام 1859 حیث تمّ طبع أول كتاب في مطبعة وحتى عام 2002 حيث بلغ عدد الكتب الصادرة نحو 2600 كتاب، هذا إضافة إلى أطاريح الماجستير والدكتوراه، وإصدار 20 مجلة ودورية من بينها “اكليل الورد”، “النجم”، “المشرق”، “الفداء”، “النور”، “ومجلة الكاتب السرياني” وسواها من المجلات. نوّه النوفلي أيضاً إلى تأسيس مطبعة الدومنيكان في الموصل سنة 1858.
أشار النوفلي إلى عدد من الرموز الوطنية التي برزت في الماضي القريب جداً فقد كان أول وزیر صحة هو الدكتور حنا خیاط من مجموع تسعة وزراء، وكان أول عمیدا لكلیة الطب في سنة1930/1931 كما كان أول مدرّس فیھا. نوّه المحاضر إلى روفائیل بطي، الأدیب والصحفي العراقي المعروف الذي أصدر العديد من الكتب الأدبية والثقافية، كما عمل رئیساً لتحریر جریدة العراق منذ عام 1921 حتى عام 1924 ثم أصدر مجلة الحریة عام 1923 ثم تبعها بجریدة البلاد الیومیة التي ظلت تصدر أكثر من ربع قرن. كما أنتُخِب نائبا على البصرة لست دورات ونقيباً للصحفیین. وفي عام 1953 أصبح وزیرا للدولة مرتین حتى وافته المنية في عام 1956. كما أشار إلى الدكتور متي عقراوي ويوسف غنيمة الذي شغل منصب وزير المالية في العهد الملكي، وحنا بطرس مؤسس الفرقة السمفونية العراقية، وبولينا حسون، أول امرأة عراقیة تصدر صحیفة نسویة ببغداد، ومیخائیل تیسي، صاحب أول نقد ھزلي صحفي وغيرهم من الأسماء الراسخة في ذاكرة العراقيين الجمعية.
أما في العقود الأخيرة فقد برع المئات من الأدباء والمفكرين المسيحيين منهم الأب الدكتور یوسف حبي، أستاذ اللاهوت والفكر والفلسفة، والأب فیلیب ھیلایي الذي كان من أبرز المھتمین في الشأن الموسیقي والألحان الطقسیة الكنسیة وتوثیقھا والعمل على تنویطھا، والدكتور دوني جورج، والدكتور بھنام أبو الصوف، وعمو بابا. أما في المجال الفني فيمكن أن نشير إلى سلطانه یوسف، وزكیة جورج، وعفیفة اسكندر، وسیتا ھاكوبیان، وبیاتریس أوھانسیان والموسیقار آرام أرمیناك بابوخیان والموسیقار فرید الله ویردي والمخرج عوني كرومي والمخرج عمانوئیل رسام، والشاعر جان دمو ،والشاعر سركون بولص، والشاعرة دنیا میخائیل، والممثلة آزاودھي صموئیل. كما قدّم الأب النوفلي قائمة طويلة بأسماء العلماء خلال الألف الأول من الميلاد، إضافة إلى قائمة أخرى بأسماء الأدباء والمثقفين المسيحيين المعاصرين الذين أغنوا المشهد الثقافي في العراق.
السيد وسام ترحيني
ينتمي السيد وسام ترحيني، ممثل المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في بريطانيا، إلى عائلة لبنانية عرف عنها اهتمامها الكبير بالنواحي الثقافية والأدبية والعلمية. تابع ترحيني دراسته العليا في جامعة القديس يوسف، في دير الآباء اليسوعيين ببيروت، ونال شهادة دبلوم كفاءة عن أطروحته التي أشرف عليها الدكتور رفيق العجم، أستاذ الفلسفة الإسلامية في الجامعة اللبنانية. كما نال دبلوم الدراسات العليا بإشراف البروفيسور الأب سمير خليل سمير، أستاذ الدراسات الإسلامية في الفاتيكان، والبروفيسور محمود أيوب، أستاذ الدراسات الدينية في جامعة تامبل في الولايات المتحدة الأميركية. وفي السياق ذاته واصل دراسته الدينية في مدارس إسلامية متعددة حيث درس “المقدمات والسطوح” ولا يزال يتابع أبحاثه ودراساته الدينية بلندن. شغل ترحيني مناصب كثيرة لا يسع المجال لذكرها جميعاً.
تمحورت مشاركة السيد ترحيني في هذا الحوار عن دور “الحضور المسيحي في الثقافة العربية انطلاقاً من لبنان نموذجا”. وقد وُفق الباحث ترحيني في تقديم صورة مميزة للحضور المسيحي في الثقافة العربية يرمي من خلالها إلى جعل هذه الثقافة مَعينًا فكريًّا لا ينضب للتأمُّل والنظَر في هذه البقعة الجغرافية المحددة التي نزلت فيها رسالات سماوية مختلفة كما بُعِث فيها عدد كبير من الرُسل والأنبياء.
يسعى السيد ترحيني إلى تنشئة الجيل الجديد تنشئة نموذجية متكاملة بعيداً عن ثقافة الإلغاء، والشمولية، وتطهير الأرض، وما إلى ذلك من أطروحات راديكالية متطرفة تشكِّل خطراً كبيراً على المجتمع البشري. كما ركّز الباحث على ثقافة التسامح والمجتمع المدني الذي ينشد رُقي الإنسان وانفتاحه على منظومة القيم الروحية والأخلاقية، والتزامه بالتكافل الاجتماعي، واحترام الحريات الخاصة والعامة. وختم الباحث مداخلته بضرورة التركيز على احترام حقوق الإنسان في كل مكان، والمحافظة على حرية الدين والمعتقد وممارسة الشعائر والطقوس الدينية لأتباع كل الأديان الموجودة على سطح الكرة الأرضية بغية تعزيز لغة الحوار الدائم بين الدين الإسلامي والمسيحي من جهة وبين هذين الدينين الكريمين وبقية الأديان الموجودة على أرض البسيطة من جهة أخرى.