رؤية غربية . . . مراجعة عراقية –
عدنان حسين أحمد –
نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية للأستاذ الباحث نديم العبدالله تحدّث فيها عن (العراق في عقد العشرينات “1920-1930”: الغزو البريطاني وولادة العراق الجديد) وهي سلسلة من المحاضرات المكرسة عن العراق برؤية غربية ومراجعة عراقية. وقد ساهم في تقديمه وإدارة الندوة الأستاذ غانم جواد. كما تمت تغطية هذه المحاضرة من قبل العديد من القنوات التلفازية ووسائل الإعلام العراقية، فيما حضرها العديد من الشخصيات الأكاديمية والسياسية والثقافية المقيمة بلندن. وكدأب العبد الله في محاضراته السابقة فقد عزّز حديثه بالأدلة الدامغة والبراهين القوية المستقاة من كل المطبوعات الإنكليزية المكتوبة عن العراق بالإضافة إلى المنشورات المكتوبة بلغات حيّة أخرى. ثم عرض المحاضر أكثر من عشرين خريطة تعود إلى الحقبة الممتدة بين (1880-1930) تبيّن منطقة العراق ضمن الإمبراطورية العثمانية والخرائط الأولى للعراق الجديد والمنطقة بما فيها (السعودية العربية وبلاد فارس الخ). وقد أظهرت هذه الخرائط التقسيمات الإدارية التي شكّلت في وقت لاحق العراق الجديد بما في ذلك الموصل والبصرة وبغداد وأظهرت أيضاً المناطق الرئيسة التي شكّلت فيما بعد جزءاً كبيراً من العراق. وتتضمن هذه المناطق العراق، العراق العربي، الجزيرة وكوردستان. وهذا يدلل على أن اسم العراق لم يُخترع آنذاك كاسم جديد في عام 1920، وإنما أُستعمل في عشرات الخرائط الأوروبية لقرون من الزمن قبل عام 1920.
يمتلك العبدالله القدرة على اجتراح الأفكار والمناورة بها. فخلال عرضه لهذه الخرائط تحدث عن أهمية إحياء بعض الخطط التاريخية والأفكار المتعلقة بربط نهر الفرات بالبحر الأبيض المتوسط لأغراض الشحن والري بوصفه أقصر طريق يربط بين أوروبا وآسيا وكوسيلة لحماية نهر الفرات من خطر الجفاف (كما تشير العديد من التقارير إلى مثل هذا الاحتمال). كما لفت العبدالله الانتباه لإمكانية ربط الفرات بالبحر الأسود لأغراض تجارية حيث جاء في أربعينات القرن التاسع عشر العديد من التجار إلى ميناء مدينة طرابزون الواقعة على البحر الأسود في تركيا ونقلوا بضائعهم وسلعهم براً من أعالي الفرات إلى الهند عبر مدينة البصرة.
أشار العبدالله إلى الحلم الألماني في تأسيس إمبراطورية شرقية تتطلع للتوسع عبر سكة حديد برلين- بغداد- البصرة، وأيضاً افتتاح خط سكة حديد برلين-إستانبول- دمشق- المدينة- مكة في عام 1910. ويبدو أن الجزء المكتمل لخط برلين- بغداد – البصرة قد انتهى في تركيا على مقربة من الحدود العراقية في عام 1918.
تحدث العبدالله عن الحملة العسكرية البريطانية على العراق كجزء من إعلان الحرب بين البريطانيين والعثمانيين. وقد عرض عدداً من الصور والخرائط المستقاة من المجلات والكتب التي كانت متاحة في ذلك الوقت (1914-1920) مثل “أخبار الحرب المصورة” و “الحرب المصورة” و “الحرب العظمى” و “أخبار لندن المصورة” و “ذي سفير” و “ذي غرافيك”. ثم توقف العبدالله عند مراحل الحرب الرئيسة أبرزها الإنزال البريطاني على الفاو يوم 10 نوفمبر عام 1914، واحتلالهم البصرة يوم 22 تشرين الثاني عام 1914، وحصار الكوت من قبل الأتراك في الفترة بين ديسمبر 1915 وأبريل 1916، واستسلام القائد العسكري البريطاني الميجر جنرال تشارلس تاونسند في أبريل 1916 في الكوت مع “13000” ألف جندي بريطاني (كتب لاحقاً كتاباً حمل عنوان “حملتي في بلاد ما بين النهرين” ونُشر في عام 1920 مبيناً تفاصيل قصة الكوت واستسلامها)
ذكر العبدالله بأن هذه الهزيمة قد تحولت لمصلحة البريطانيين عندما أرسلوا مئات الآلاف من الجنود البريطانيين والهنود لتعزيز قوتهم العسكرية حيث دخل الجنرال مود بغداد في 11 مارس 1917 مع “150000” ألف جندي وكانت جميع أجزاء العراق قد وقعت تحت الاحتلال البريطاني 1918-1919. كما عرض العبدالله أسماء وصور أبرز قادة الجيش البريطاني خلال الحملة البريطانية على بلاد ما بين النهرين عام 1914-1920 وقد أوردها على وفق الترتيب الآتي:
1- العميد دبليو. أس. دلامين (احتل البصرة)
2- الفريق جون نيكسون.
3- الفريق السير بيرسي ليك.
4- الفريق السير ستانلي مود (احتل بغداد)
5- الفريق السير دبليو. آر. مارشال
6- الفريق السير ألمر إل هالدين (خلال ثورة العشرين)
أشار العبدالله معززاً كلامه بالأرقام والإحصائيات إلى أن الحملة العسكرية البريطانية على العراق (بلاد ما بين النهرين) قد شغلت ما مجموعه “889702” من الرجال البريطانيين والهنود. كما كان عدد المصابين “101459” بما فيهم “35000” ألف قتيل وقد استقى المحاضر هذه الإحصائيات من كتاب الديلي ميل لسنة 1920. كما ذكر العبدالله في محاضرته كتاباً نادراً عنوانه “العراق في زمن الحرب” بقلم جون فليبي الذي نشره عام 1919 والذي يُظهر لنا صوراً نادرة جداً للمشايخ العراقيين في ذلك الوقت مع الضباط البريطانيين المنهمكين في السياسة.
توقف العبدالله عند ثورة العشرين مسلطاً الضوء عليها من خلال وجهة نظر بريطانية كشفها عبر كتاب سير آيلمر إل هالدين، قائد الجيش البريطاني في العراق عام 1920 المعنون “التمرّد في بلاد ما بين النهرين” وقد نُشر هذا الكتاب بلندن عام 1922 مع العديد من الاحصاءات والصور التي تُظهر الشيخ شعلان أبو الجون وأنشطة بعض القبائل العربية في الرميثة الأنبار والنجف. ربط العبدالله أيضاً هذا الأمر بالانتفاضة الكوردية المبكرة عام1919
قدّم العبدالله أول إحصاء رسمي يبين عدد سكان العراق “بلاد ما بين النهرين” وهو “2849282” مليون نسمة في عام 1920. كما توقف عند بعض الاتفاقيات والمعاهدات مثل سايكس بيكو ومعاهدة فرساي وإنشاء عصبة الأمم المتحدة ومؤتمر سان ريمون ومعاهدة سيفر وتأسيس أول كابينة وزارية عراقية لحكومة العراق رأَسها عبد الرحمن النقيب، وولادة العراق الجديد ككيان سياسي في أكتوبر تشرين الثاني عام 1920، ومؤتمر القاهرة في مارس عام 1921، وتتويج الملك فبصل في شهر أغسطس عام 1921.
قدّم العبدالله جدولاً يكشف عن أرقام الصادرات والواردات الرئيسة من السلع والبضائع عبر ميناء البصرة قبل عام 1920. وقد أخذ هذا الجدول من كتاب صادر عن وزارة الخارجية البريطانية في عام 1920 بعنوان “بلاد ما بين النهرين” حيث أعطى العبدالله أهمية خاصة للحفريات في المنطقة في عقد العشرينات، هذه الحقبة التي وصفت بالعصر الذهبي في بلاد ما بين النهرين. كما أشار أيضاً إلى التنقيبات المبكرة في هذه المنطقة وقد عرض صوراً للمنقبِّين الأوائل وأشار إلى فيكتور بليس، المنقِّب الفرنسي الذي غرقت مكتشفاته في نهر دجلة في القرن التاسع عشر.
وخلال استعراضه للعراق خلال الفترة (1914-1920) وصف الأستاذ العبدالله عام 1914 بعام الحداثة، وهو العام الذي دخل فيه العراق القرن العشرين واتصل فيه على نطاق واسع بأوروبا حيث واجه العراقيون أول مرة الاختراعات الحديثة ووجدوا أنفسهم بقربها، وهذه المخترعات تشمل عشرات الطائرات ومئات السفن والسيارات والشاحنات والرافعات والقطارات ومحطات الراديو واللاسلكي، والتيلغرام والمكائن الزراعية والأسلحة والبنادق والذخيرة. وباختصار أن وجود 500000 ألف جندي بريطاني وهندي بين نفوس العراق الذي لم يتجاوز الثلاثة ملايين قد ترك تأثيراً كبيراً على حياة العراقيين التي تحسنت وتكيفت مع معطيات الحداثة وكيف تغير العراق بوقت قصير، إذ تحول من بلد مُحتَل إلى مملكة جديدة في عام 1921 وإلى بلد مستقل عام 1932.
جدير ذكره أن محاضرة العبدالله استقبلت استقبالاً جيداً من قبل الحاضرين كما شارك في النقاش نخبة من الأكاديمين والأساتذة الحضور الذين أثروا المحاضرة بأفكارهم ومداخلاتهم وطالبوا الأستاذ نديم العبدالله بمزيد من المحاضرات التي تسلط الضوء على العراق في القرن العشرين.